مراكش بغداد المغرب
قبل حاضرة مراكش ، عرف العالم العربي عدة عواصم و مدن علمية من أشهرها : المدينة النبوية المنورة، و المصران: البصرة والكوفة العراقيتان، والقيروان العقبانية، ودمشق الشام، و بغداد دار السلام، و فاس المولى إدريس الأزهر، و قرطبة عاصمة الدولة الأموية بالأندلس، و إشبيلية حاضرة ولاية موسى بن نصير، وقاهرة المعز لدين الله الفاطمي بمصر...
و قد ألفت مؤلفات في تاريخ بعض هذه العواصم العلمية في مجلدات لا يتسع المجال لذكرها
و قد وصفت مدينة مراكش ببغداد المغرب ، فقال عبد الواحد المراكشي {581 - 647 هـ} إنه :"انقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله ، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم، واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة، ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار "
و قال المقري نفح الطيب :" ... ويكفي في الإنصاف أن أقول : إن حضرة مراكش هي بغداد المغرب، و هي أعظم ما في بر العدوة ..."
و قال ابن زهر :
أرى مراكش الحسناء تزهى . . . و حق لها على دار السلام
بل فاقت عند محمد بن علي الفشتالي دمشق و بغداد معا {ت 1021ه}:
كسوت لحمراء الحواضر حلة . . . تضاءل بغداد لها و شئـــام
فتاهت بها تيه الذي أنت ذخره... له من حماك حُرمة و ذِمام
أما بغداد التي أشبهت بها مراكش فقد سبق في إحدى الحلقات السابقة من هذه التدوينات قول الإمام الشافعي عنها ليونس بن عبد الأعلى - كما في تاريخ بغداد - : يا يونس هل دخلت بغداد ؟ قال : لا , قال :" إذن ما رأيت الدنيا "
و لم يطق القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي {ت 422هـ} مفارقتها لولا الفقر فقال وهو يغادرها نحو مصر :
سلام على بغداد في كل منزل . . . وحق لها مني سلام مضاعف
لعمرك ما فارقتها عن قلى لها . . . و إني بحسني جانبيها لعارف
و لكنها ضاقت علي برحبها . . . ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
و قال في نفس السياق :
بغداد دار لأهل المال واسعة . . . و للصعايك دار الضنك و الضيق
و نقل ياقوت الحموي في معجم البلدان {574 - 626 هـ} عن أبي إسحاق الزجاج {241 - 311هـ} : قوله" بغداد حاضرة الدنيا و ما عداها بادية " و عن الوزير الصاحب أبي القاسم ابن عباد { 326 - 385 هـ عندما سأله الوزير أبو عبد الله ابن العميد{ت367 هـ} قوله :"بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد "
وعن ابن زريق الكاتب الكوفي قوله :
سافرت أبغي لبغداد و ساكنها . . . مثلا قد اخترت شيئا دونه الياس
هيهات بغداد و الدنيا بأجمعها . . . عندي وسكان بغداد هم الناس
و قد كانت بغداد في القرون الثاني والثالث و الرابع للهجرة تعج بكبار العلماء و الأدباء الذين طبقت شهرتهم الآفاق ولا يتسع المجال لذكرهم
محاولات تشويه صورة المرابطين في مجالات الفكر والآداب و العلوم
بعد أن تردد القول بأن مراكش بغداد المغرب بين عدد من المؤرخين و الباحثين عاد بعضهم متأثرا بصاحب المعجب ليقول :" إن المشبه لا يقوى قوة المشبه به "
و هو حق أريد به باطل، لأن دعوى صاحب المعجب أنه في العهد المرابطي لم يبق عمل بكتاب الله و سنة رسوله هي ما تداوله المؤرخون و على رأسهم ابن خلدون، واستغله مثل المستشرق الفرنسي ألفرد بل {1873 - 1954م } بشكل مبالغ فيه فقال:
"من هذا النص يتبين لنا بوضوح، أنه في عهد المرابطين و بأمر منهم هجرت دراسة " الأصول " في الدين و الشريعة ، و خصوصا دراسة الحديث ، بل كانت مذمومة في المغرب ، فلم يروا فيها فائدة ، و نظر إليها الفقهاء نظرة الكراهية "
وزاد فقال :" و مثل هذه الحجج - جواب الإمام مالك عن معنى قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} - أدت إلى هجر دراسة تأويل القرآن و جرى ذلك بعينه فيما يتعلق بدراسة الحديث ، فأهمل بوصفه لا فائدة منه " و يضيف قائلا :" و هكذا فإنه في أيام حكم المرابطين لم يكن لسكان المغرب من مرشدين روحيين غير فقهاء ضيقي العقول ، فقهاء كان علمهم مقصورا على المذهب المالكي ، و هؤلاء الفقهاء نزلوا بالدراسات الدينية إلى مستوى دراسات قواعد التشريع مهملين دراسة العقائد ، واستطاعوا بفضل تأييد الأمير المطلق لهم ، و احترام الشعب لأشخاصهم ، أن يفتوا بجواز أمور ، تتنافى مع الشرع ..."
و هذا ما ردده - للأسف - بعض مؤرخينا المتأخرين ، و هو كلام في مجمله غير صحيح، لأن الأمر يتعلق في النهاية بخدعة سياسية أذاعها المهدي بن تومرت و أنصاره، لتوطيد نفوذهم في نفوس الجماهير، فكان المؤرخون من أبرز ضحايا هذه الخدعة ،كما تم بسط القول فيه في بحث سبق نشره ضمن مباحث كتابنا : " مقالات في الثوابت الدينية و الثقافة الإسلامية بالمغرب، وكما سيأتي بيانه بشكل آخر في هذه الحلقات ...