مقدمة :
في سياق الذكرى والاعتبار ، وصيانة الذاكرة الوطنية ، يأتي احتفال المملكة المغربية يوم 20 غشت من كل سنة ، بحدث ثورة الملك والشعب ، مصداقا لقول الله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله، عبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها
و لعل أقرب معاني الثورة في اللغة العربية للحدث، هي حدة الغضب وهياجه، أما الثورة فمن معانيها في الاصطلاح السياسي " تغيير أساسي مفاجئ في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب أو فريق منه في دولة ما" وثورة الملك والشعب في تاريخ المغرب الحديث، إذا أطلقت انصرفت إلى تلكم المعارك الحاسمة، و ما رافقها من مقاومة باسلة خاضها الملك والشعب، ضد الاستعمار الأجنبي من أجل الحرية والاستقلال، بشكل بلغ الأوج بعد نفي الملك وأسرته خارج الوطن .
وبعد فيأتي تناول هذا الموضوع الكبير الواسع المتشعب، من جانبين مهمين أولهما عام، وثانيهما خاص، وذلك من خلال محورين كالتالي :
المحور الأول - ثورة الملك والشعب مواقف و أمجاد
تعتبر ثورة الملك والشعب، الحدث الأبرز في كفاح المغرب من أجل الحرية والاستقلال، وإحياء ذكراها مناسبة وطنية خالدة، وفرصة ذهبية سانحة، لاستحضار أمجاد الماضي، من خلال تلكم الملاحم البطولية العظيمة، التي صنعها ملك أَبِيّ هُمام، وشعب وَفِي مِقْدام ، انبثقت عنها مدرسة فريدة رائدة، في التضحية والفداء، ومعلمة بارزة ،في الوطنية والوفاء، ومحطة حضارية مشعة، تلهم الأجيال ما لا ينتهي من المواقف المثالية الثابتة ، والقيم الإنسانية السامية ...
سجَّلت بمداد من نور، مفاخر الماضي المجيد، وحققت وتحقق أعظم المكاسب والمنجزات، في الحاضر السعيد، وستبقى نبراسا مضيئا للمستقبل الزاهر، سواء منه القريب أو البعيد ...
صدق الذي سماه ثورة عاهل . . . ضحى، وشعب كان خير مثال
لقد التقت إرادة الملك والشعب، ليكونا يدا واحدة، ضد غطرسة الاستعمار وعتوه والدفاع عن كرامة الوطن وعزته، كما التقت دون سابق اتفاق ، الإرادة الشعبية التلقائية، مع العمل الفدائي المنظم ، في رد الفعل الفوري بالتظاهر والانتفاضة إزاء الإعلان عن عزل الملك الشرعي السلطان محمد بن يوسف ، والمناداة بالصنيعة ابن عرفة سلطانا، وذلك يوم 14 غشت 1953 حين عقد الباشا التهامي الكلاوي في مدينة مراكش مجلسا لحلفائه - بعد أن حصل على توقيعات عدد من ضعاف النفوس ممن :
سيلعنهم مدى الأجيال شعب . . . يعد وجودهم فيه مصابا
مع الإشارة إلى أن بيعة ابن عرفة بمراكش، تمت تحت سياط الجلادين ورشاشات أعوانه ، خصوصا فيما يتعلق ببعض المخلصين لملكهم ودينهم ووطنهم في وقت كانت المدينة تعاني من قبضة الكلاوي الحديدية ، التي تجعل مصير كل من سولت له نفسه الوقوف في طريقه السجن
وذكر بعض من عاصر تلك الفترة أنه " ... أثناء تداول العريضة قيل للأعيان بأنها عريضة ضد الشيوعية، ولو عرف هؤلاء محتواها الحقيقي لما وقع عليها العديد منهم، فقواد المناطق الجنوبية للمغرب الذين كانوا إما على معرفة ضئيلة بالقراءة والكتابة أو أميين بالمرة هم الذين وقعوا على العريضة دون تردد أما معظم العلماء... فقد رفضوا التوقيع رغم التهديد والترهيب "
لقد بلغت الأزمة أوجها ، ووصلت المؤامرة الدنيئة ذروتها ، والملك ثابت لا يتزعزع...
يقول جلالة المغفور له الحسن الثاني " لكن والدي لم يستسلم، ففي 20 غشت 1953 وهو ليلة عيد الأضحى أكبر الأعياد الإسلامية، كان الرباط تحت حالة الحصار (الطواريء ) وكانت الساعة الواحدة والنصف من بعد الظهر، عندما أخبر الملك، وهو يفرغ للتو من تناول غذائه أن الجنرال كيوم يرغب أن يستقبله رسميا بعد نصف ساعة ..."
رفض السلطان طلب الجنرال كيوم، واحتج عليه بأنه لا حق له ولا لفرنسا في ذلك قائلا :" ما من شيء في أعمالي و أقوالي يبرر أن أتخلى عن أمانة أضطلع بأعبائها بصفة مشروعة، وإذا كانت الحكومة الفرنسية تعتبر أن الدفاع عن الحرية والشعب بمثابة جريمة يعاقب عليها ، فإني أعتبرها فضيلة يفاخر بها وتورث صاحبها المجد ."
كانت الساعة تشير إلى الثالثة وخمس عشرة دقيقة بعد منتصف النهار عندما انطلق من القصر الملكي موكب تتقدمه دبابتان ... وسيارة على متنها صاحب الجلالة الملك محمد الخامس وولي عهده الأمير مولاي الحسن وشقيقه الأمير مولاي عبد الله وتتبع الجميع دبابات وسيارات عسكرية وكان الموكب في اتجاه مطار الرباط – سلا حيث كانت طائرة "د س 3 " في الانتظار لتقل فورا صاحب الجلالة والأميرين إلى مدينة أجاكسيو بجزيرة كورسيكا ، وحطت الطائرة بمطار أجاكسيو على الساعة العاشرة وسبع دقائق ليلا وكان في استقبال جلالته والي المدينة على رأس موكب رسمي ، كما أقلعت طائرة ثانية من مطار سلا على الساعة التاسعة ليلا في اتجاه أجاكسيو تقل على ظهرها العائلة المالكة الذين تقرر أن يلتحقوا بجلالته
نُفيت فقام بعدك من شبابي . . . من اختاروا الشهادة والثوابا
. . .
ورأوا منك الفداء بكل غال . . . فهبوا للفدا أسدا غضابا
يقول جلالة المغفور له الحسن الثاني :" والتأم شمل العائلة في زونزا Zonza جنوبي شرقي الجزيرة عندما ضمنا فندف موفلون الذهبي في البداية ثم أوتيل نابليون في قرية ليل روس بعدها ... كنا سجناء ولكن على نفقتنا لقد كان على الملك أن يدفع نفقات سجننا و أجور موظفي الفندق و مستخدميه ورواتب حراستنا ، ولقد أمضينا ثلاثة أشهر في جزيرة ليل روس "
لقد كان جلالة الملك محمد الخامس ورفيقه في الكفاح ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير مولاي الحسن وسائر أفراد الأسرة الملكية في مقدمة الصفوف يعطون المثال للشعب في التضحية والفداء و في الثبات على المبدأ مهما كان الثمن ...
و لم تكن السلطات الاستعمارية الفرنسية، تدرك أنها سعت بظلفها إلى حتفها، بإقدامها على اقتراف أكبر أخطائها السياسية ، عندما تجرأت على مد يد العدوان الآثمة إلى رمز السيادة المغربية ، جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه. وعزله عن عرش أسلافه الميامين بالقوة الغاشمة. ونفيه وأسرته الملكية إلى خارج الوطن. إلى جزيرة كورسيكا ثم إلى جزيرة مدغشقر حيث كانت تلك هي الشرارة التي اندلعت على إثرها المقاومة المغربية، التي اشتهرت في تاريخ المغرب الحديث باسم ثورة الملك والشعب المجيدة .
ما على الأرض "يابن يوسف" ثان . . . لك ضحى بعرشه صنديدا
ولا عجب فقد كانت وشائج المحبة بين الملك والشعب، أقوى من كل التحديات ، وأرسخ من الجبال الراسيات ، على جنباتها تتكسر الأمواج العاتيات.. فهي علاقة قوية متينة كما قال جلالة المغفور له محمد الخامس لولي عهده مولاي الحسن وهو في سن مبكرة :
" واعلم يا بني أن تعلق الناس بأسرتنا مصدره روحي وأخلاقي ..."
و الشعب عندما قال إنه رأى ملكه السلطان محمد بن يوسف في القمر، فإنما كان يعبر عن تعلقه الكبير بملكه المفدى ، وعن مكانته في عقله و وجدانه ، الشيء الذي لم يستطع المستعمر تكذيبه أو نفيه، بل وقف واجما أمام ذلك لا يكاد يصدق، ثم راح يحل شفرات الرسالة ويستعد لإنهاء الاحتلال ، إذ لا مكان له في بلد عظيم، تلتقي فيه إرادة الملك والشعب ، و تتفق على خوض معركة التحرير حتى الاستقلال ...
كَال اللي شافو في القمر . . . إلى بقيت في العمر نفديه
يقول روم لا ندو عن رد الفعل الوطني بعد نفي الملك و أسرته :" لم تمر بضعة أسابيع حتى أخذت صفات القتال التي يتميز بها الشعب المغربي تظهر من جديد ... وفجأة أصبح محمد بن يوسف في خيال الناس شهيدا يطل عليهم من السماء ، و إذا تطلعوا إلى فوق كانوا يرون صورته في القمر الجميل الذي يشرف عليهم في الظلماء ..."
حتى بهرت فما تخفى على أحد . . . إلا على أحد لا يعرف القمرا
ظهرت صورة السلطان سيدي محمد بن يوسف على سطح القمر في الأسبوع الأول من المنفى فكانت الدار البيضاء - ككل مدن المغرب وقراه - إذا غربت الشمس اجتمع الناس في أزقة المدينة حلقة حلقة يشيرون إلى صورته على سطح القمر كما يشيرون إلى هلال رمضان
في كل مساء كان للشعب المغربي موعد مع القمر... الشعب كله بمختلف فئاته العمرية والفكرية ، علامة على الوشائج التي تربط بين ملك منفي خارج البلاد وشعب متعلق به داخل البلاد
وأبدع الأستاذ أحمد التوفيق في وصف المشهد عندما قال :" ... وكلما ارتقى البدر في عنان السماء ، كلما ازداد الشعور بأن الذين يتناولون الإيقاع على الدفوف ، لم يعودوا يتحكمون في ضبط أوزانهم ، و أن الراقصين قد صارت إلى ارتباك حركات أرجلهم، إذ أقبل بعضهم على بعض يتخافتون ، ودار بينهم خبر ما، وشبت في أحشائهم حمأة النار في الهشيم، وفي لحظة واحدة انفرط ذلك النظام ، و خرق رجل منهم جدار الصمت ، و جَرُأ على مد ذراعه والإشارة بسبابته إلى القمر وقال : رَهْـ رَهْـ رَهْـ ! ..."
ثم عاد الأستاذ في الأخير ليبرر ذلك بـ : "أن لحظة هذه الرؤيا تنتمي من حيث التأويل إلى ما يسمى في مصطلح العلوم الإنسانية الحديثة بالزمن الحضاري الطويل وفيه يفهم اللجوء إلى رموز معينة خالدة للتعبير عن الأحلام والآمال ، فرموز هذه اللحظة هي القمر والفارس والفرس وهي رموز وظفت على امتداد العصور وفي مجال الشعر و مجال السحر معا ، وإذا كان سياق توظيفها يختلف من حالة إلى أخرى فإن تأويلها كثيرا ما يحمل على التعلق والشوق والحنين ، أو على البطولة والزعامة والملحمة ..."
ولا عجب فيما حدث فللحب أسرار، وللمحبين عيون و أنظار ...
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي
فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ
وفيما كانت ضربات الفدائيين تلاحق (الدمية) ابن عرفة صنيعة الاستعمار – المغتصب الخائن - كانت قوة المتخيل الشعبي تستعيد صورة الملك الغائب في التفكير والضمير وتحرض الحشود التي كانت تعتلي السطوح بعد غروب الشمس لتشاهد محبوبها ممتطيا صهوة جواده على سطح القمر ...
و يتحقق النصر ويعود الملك وأسرته الكريمة من المنفى السحيق، إلى الوطن الحبيب حاملا بشرى نهاية عهد الحجر والحماية و بزوغ فجر الحرية والاستقلال ، وتخرج جماهير الشعب عن بكرة أبيها، لاستقبال ملكها و التملى بطلعته عن قرب " بلحمه ودمه ، بابتسامة مضيئة، كانت قبل هذا اليوم تُرى في القمر ..."
المحور الثاني - دور المرأة في المعركة من أجل التحرير
سجلت المرأة المغربية صفحات مجيدة في معركة الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال مثلها في ذلك مثل شقيقها الرجل 2
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمس عيبٌ . . . ولا التّذكيرُ فخرٌ للهلالِ
و تبقى مع ذلك الكتابات التاريخية عن المرأة المغربية المقاومة شيئا عزيزا ، يجعل الباحث المهتم لا يكاد يعثر على ما يشفي الغليل، ويزيح الستار عن المشهد بكامله ، ولا غرابة فحظ المرأة فيما ألف عن تاريخ المغرب في العصر الحديث لا يتجاوز في أحسن الأحوال ، إشارات خفيفة لا تروي ظمأ، ولا تملأ فراغا ، و كثيرا ما يرد اسم إحداهن ، فيصعب التعريف بها، مما يدعو إلى تضافر الجهود من أجل إكمال هذا النقص، وتداركه قبل فوات الأوان.
إنه يمكن الحديث عن المقاومات المغربيات جملة ، أما بشكل فردى فيصعب في أكثر الأحيان، مع أنه لا يختلف اثنان في أن المرأة المغربية ، كانت حاضرة في كل المعارك التي خاضها الملك و الشعب من أجل الحرية والاستقلال، في كل مراحلها بشكل قوي، وبفعالية كبيرة - وإن لم يكن بالكثافة التي كانت لأخيها الرجل لعوامل وأسباب بعضها ظاهر، وبعضها خفي- فإنه يصعب في المقابل بل يتعذر أحيانا الحديث بتفصيل عن مقاومات بالذات ، مما باتت معه الحاجة ملحة للكتابة عن دور المرأة المغربية في الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال عموما ، وعن دورها في ثورة الملك والشعب على وجه الخصوص، بشكل أكثر دقة وتفصيلا، وهي مسؤولية مشتركة يتحملها الرجال والنساء على حد سواء.. والمرأة أصبحت بعد أن تحررت من كثير من قيود الماضي، تمتلك من المؤهلات العلمية و والعملية ما يجعلها قادرة على القيام بجزء كبير من هذه المهمة على أحسن وجه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بها شخصيا أو بغيرها من أهلها ومعارفها ، ممن تمتلك عنهم حقائق قد لا توجد عند غيرها ...
لقد أدرك جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه منذ البداية، أهمية التعليم في معركة التحرير، فكانت له الأيادي البيضاء الخالدة في هذا المضمار والمبادرات النهضوية الرائدة، التي تجلت في عدة مظاهر من أبرزها الدعوة إلى وجوب تعليم الفتاة وولوج المدارس والمعاهد، مثلها في ذلك مثل صنوها الرجل، و إعطاء المثال بفلذات كبده الأمراء والأميرات، وكان يشرف بنفسه على تأسيس المدارس الحرة. على نفقته الخاصة كمدارس محمد الخامس الشهيرة بالرباط ، ويشجع في الوقت ذاته أهل الفضل واليسار من رعاياه الأوفياء للاقتداء به في ذلك، و كان من شدة حرصه على استمرار هذه المؤسسات في تأدية دورها المنوط بها، أن أبى إلا أن تكون تابعة للقصر الملكي تحت إشراف جلالته مباشرة، كما نظم التفتيش الدقيق بها ومنحها من عطفه وكرمه، ما سجله له التاريخ بمداد الفخر والاعتزاز
تقول الأستاذة مالكة العاصمي :" شكل مشروع المدارس الحرة واجهة من واجهات المعركة ضد المستعمر، استهدفت تعميم التعليم بين أفراد المجتمع رجالا ونساء وتحديثه ، كما شكل فتح مدارس لتعليم البنات، طريقا لتحرير المرأة كعنوان لتحرير كل الطاقات الحية وإطلاق مشروع التحديث واسعا وتفتح الوعي الاجتماعي وتغيير الثقافة والعقليات التي يحاول الاستعمار، أن يضرب عليها الحجب بنشر أنواع الشعوذة والقيم الظلامية والانهزامية "
ومما جاء في خطاب جلالة المغفور له محمد الخامس في طنجة سنة 1947 : "... كان العلم بيننا منبثق الأنوار متبلج الأسرار فهجرناه حتى أظلمت سبلنا وعظمت بالجهل حيرتنا ... أخذنا على عاتقنا نشر العلم سواء منه الجديد أو القديم ... فأخذت بحمد الله وكمال عونه كل النفوس تحيا بحسن النتائج في تربيتها وتطمح للمزيد في السير إلى نشرتها فتأسست مدارس يتلقى فيها الشباب المغربي بذور الصلاح، و أخذت تلوح في أفق الرشاد شموس الفلاح ، واستيقظت الأمة متنبهة لحقوقها وسلكت لإدراك مجدها أنفع طرقها ... ثم إذا كان ضياع الحق في سكوت أهله عنه ، فما ضاع حق من ورائه طالب ..."
و إلى جانب خطاب طنجة التاريخي لجلالته ، ألقى كل من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن وصاحبة السمو الملكي الأميرة للا عائشة خطبتين بليغتين كان لهما أحمد الآثار على الجماهير الغفيرة التي احتشدت لتحيتهم
أيا ملك القلوب طرقت غبا . . . وخلفت الرعايا مهطعين
ويا سر الكريم ولي عهد . . . تخدت قلوبنا مأوى مكينا
ويا قمرا سميتها الحميرا . . . تركت الكل يصخب عاودينا
لقد مثلت رحلة طنجة مرحلة تحول كبير في سياسة المغفور له محمد الخامس إزاء المستعمر ، وتصعيد تحديه له ، فبعدها ا بقليل تم إحداث ما سمي إذ ذاك " يوم الراية المغربية " أواخر جمادى الثانية 1366 تاسع عشر ماي 1947 " حين رفعت الراية المغربية وحدها فوق القصر الملكي العامر بالرباط في احتفال مؤثر حضره صاحب الجلالة الملك لأنها كانت قبل ترفع مع العلم الفرنسي ، وسمي ذلك اليوم بيوم الراية المغربية
وعندما نتحدث عن دور المرأة المغربية في معركة الكفاح الوطني تطالعنا في المقدمة أسماء الأميرات الجليلات اللاتي قامت كل واحدة منهن قبل الاستقلال وبعده بإعطاء المثال في النضال، وفي تحمل المسؤولية بكل كفاءة واقتدار في مختلف المهمات وشتى المجالات ...
وتجسدت هذه الحقيقة بوضوح تام في صاحبة السمو الملكي الأميرة للاعائشة رحمها الله {1930 – 2011 } التي أعطت النموذج الأسمى لما ينبغي أن تكون عليه المرأة المغربية المعاصرة ، فكانت بحق زعيمة حركة تحرير المرأة المغربية (النهضة النسوية بالمغرب) وكانت تؤمن بأن " الجهل هو عدونا الأول ، وأنه أشد خطورة من الفقر ..."
هذي الأميرة وهي بعد زعيمة الـ . . . ـفتيات ترجو منك بعث قواك
هذي الأميرة وهي قائدة الفتـا . . . ة إلى النهوض أتت تروم هداك
برعت في فن الخطابة من يوم أن صدعت في خطاب طنجة بالتعبير عن رغبة الشعب في الاستقلال، فكانت بذلك تضع أولى لبنات عملها الحركي من أجل النهوض بأوضاع المرأة المغربية كما أضحت قدوة للنهضة النسوية.
و كانت كلما دشنت مدرسة للبنات ألقت خطبة بالعربية و أخرى بالفرنسية ، نقتبس من ذلك هذه الفقرة من إحدى خطبها بعد الحرب العالمية الثانية :
"... لقد أوحى أرباب الأغراض السيئة والبيانات الفاسدة إلى طبقات الأمة المغربية أن المرأة خلقت لتكون فريسة للجهل ومطية للأوهام ، فظلت زمنا طويلا تعيش في عالم ضيق الأرجاء بعيدة عن العرفان جاهلة لكل ما تتوقف عليه حياة الإنسان "
وإذا الفتاة تدرعت في قومها . . . جهلا ففيهم للبوار مآلها
وإذا تقلدت المعارف بينهم . . .سجدت لها بين الورى أقيالها
و استمر عطاء الأميرة للا عائشة بعد الاستقلال فتقلدت رحمها الله عدة مهام من أبرزها سفيرة المغرب لدى المملكة المتحدة 1965 -و اليونان (1969 - 1970 وإيطاليا 1970 - 1973 ... كما مثلت المرأة المغربية في المجلس الدولي للنساء المنعقد ببانكوك سنة 1970 -ومن اهتماماتها الفكرية والأدبية تقديمها لديوان " بؤس وضياء" شعر، الدكتور محمد عزيز الحبابي إلى جانب أنشطة و مهام أخرى
و ارتبط اسم كريمة السلطان الصغرى الأميرة للا آمنة بثورة الملك والشعب لميلادها في المنفى بمدغشقر، فاعتبرها لذلك المجلس الوطني لحركة المقاومة وجيش التحرير أثناء الذكرى الأولى لعشرين غشت 1956 "أميرة المقاومة "
و في أول حفل لتخليد ذكرى ثورة الملك والشعب بالمشور الملكي بالرباط تم تقديم هدية رمزية للأميرة للا آمنة التي ولدت بالمنفى حيث لاحظ العديد من المقاومين أنها كانت ترافق جلالته باستمرار وتحضر معه العديد من المناسبات الرسمية وهي عبارة عن سلسلة ذهبية يتوسطها مسدس ذهبي صغير
و شاركت الأميرة للا فاطمة الزهراء العزيزية {ت2003م } ابنة السلطان المولى عبد العزيز وزوج الأمير مولاي الحسن بن المهدي خليفة السلطان في المنطقة الخليفية في معركة النضال من أجل الحرية و الاستقلال، بكل ما تملك من الوسائل، مخاطرة في سبيل ذلك بنفسها ومركزها وحياتها، فتخفي مناضلي المقاومة في بيتها وتساعدهم بشتى الطرق ... وبعد الاستقلال أسند إليها جلالة المغفور له الحسن الثاني رئاسة الاتحاد النسائي، ومن عطائها الفكري والأدبي مقال في كتاب " جلالة الملك الحسن الثاني ملك المملكة المغربية الملك والإنسان " الذي أعده الدكتور عبد الحق المريني بعنوان "محرر المرأة المغربية "
واتسم نضال المرأة المغربية عموما من أجل الحرية والاستقلال بكثير من الجرأة والاستبسال في نكران ذات، وكتمان أسرار ، وتضحية نادرة المثال ، فكانت كثيرات منهن إلى جانب معاناتهن المنزلية و مسؤولياتهن الاجتماعية، تقمن بأدوار وطنية على جانب كبير من الخطورة . تجمعن بين عمل البيت وعمل مناهضة المحتل الغاشم وتقمن إلى جانب ذلك بعدة خدمات أخرى كالإسعاف و التمريض ، و توفير المؤن والملاجئ ونقل المعلومات ...
ومن الصور البطولية للمرأة المغربية المكافحة ودورها الريادي في التمريض ما حكاه عن نفسه ولد أخ محمد وحمو الزياني ، في وقعة الهري الشهيرة قال :
"... أُصِبْتُ بطلقة نارية في بطني سقطت منها أمعائي ... فما إن سقطتُ من على فرسي حتى وجدت أمامي أختي وهي تساعدني في إرجاع الأمعاء الخارجة فحاولت إرجاعها بيدها بكل جهد فلم تستطع ، فبينما هي على تلك الحال إذا بأحد الجرحى الساقطين بمقربة منا ، ينادي عليها نداء يهمسه من شدة الألم حتى دنت منه فقال لها :ارفعي رجليه وادفعي الأمعاء بيدك الأخرى ترجع لمحلها قال : فصنعت ذلك فرجعت الأمعاء و أخذت تخيط البطن ويساعدها بعض الإخوان الذين وصلوا عليها ،فخاطوها بخيوط حريرية من سبنية فوق رأسها ...فما مرت عليه بضعة أيام حتى كان على فرسه في معارك أخرى "
ولم تزد الأحداث سيدة مثل عائشة بنت الحاج علي زنيبر إلا قوة و صلابة وإصرارا على الكفاح من أجل الحرية والاستقلال فكانت نموذجا مثاليا للأم المغربية المناضلة، التي لم تضعف أمام تعسف المستعمر، عندما اعتقلوا أحد أبنائها فخطبت قائلة فيمن زارها من الوطنين لمواساتها :
" إن ولدي ... دخل السجن ونفي من أجل شرف الأمة ودفاعا عن كرامتها ومن أجل الكفاح في سبيل وحدة المغرب الدينية والترابية والحفاظ على شريعة البلاد المقدسة وقانونها الموحد الذي يستمد قوته من روح آبائنا و أجدادنا وملوكنا الميامين ..." :"
وبرزت الأستاذة مليكة الفاسي {1919 – 2007 } كمناضلة ومثقفة رائدة في الوطنية وحقوق المرأة وتميزت بأنها المرأة الوحيدة التي وقعت على وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944
وتعددت صور نضال المرأة المغربية وحضورها الوازن في شتى المحطات منهن من فتحت باب منزلها في وجوه الفارين من رصاص الجيش الفرنسي وهراوات أعوان عملائه، كما حدث بحي بريمة بمراكش يوم 15 غشت 1953 عندما فتحت امرأة باب دارها أمام المتظاهرين بالمشور الفارين من طلقات نيران رشاشات المحتل وبطش أعوان الكلاوي حيث تجمع منهم داخل الدار عدد كبير وظلت هي تراقب من بعيد حتى إذا انصرف الأعوان وعادوا أدراجهم ، وخلت الطريق من المارة نادت :" أيها السادة يمكنكم الخروج إلى حال سبيلكم " كما تسترت أخريات شهورا على مقاومين مبحوث عنهم من السلطات الاستعمارية ...
ومنهن من آوت في مختلف جهات المغرب، مقاومين وتسترت عليهم ، كتلك العائلة التي كانت تقطن بدرب الشرفاء بالدار البيضاء والتي أطلق الشهيد الزرقطوني على منزلهم اسم "دار الأرقم بن الأرقم " لأنها كانت تأوي أفراد جيش التحرير ... وتسهر على راحتهم وعندما سمعت كبيرة العائلة يوما أن الفدائيين في حاجة إلى المال لم تتردد في أن تقترح عليهم بيع منزلها، وصرف ثمنه على النضال من أجل الاستقلال
ومن الأدوار التي قامت بها المقاومة المغربية نقل الأسلحة كما يفعل عدد من المقاومين الذين كانوا يرتدون ملابس النساء لأنه لم يكن يدور بخلد الفرنسيين في أول الأمر أن يلتفتوا إلى النساء ليبحثوهن أو يحققوا معهن، فكانت نساء كثيرات يغتنمن ذلك الاعتقاد في نقل السلاح من مكان إلى آخر ومن بلد إلى بلد، كما أن مناضلات أخريات كن يرتدين لباس الرجال للاستخفاء عن عيون المتزمتين من أبناء المجتمع الذين كانوا يرون أن دور المرأة لا يتجاوز حدود البيت...
ومن الأدوار البطولية للمرأة المغربية ما قامت به سيدة من وجدة جاءت إلى الدار البيضاء مبعوثة من هناك في مهمة لدى المقاومة وكانت ترتدي اللباس الأوروبي الأنيق وتتكلم بلسان فرنسي طليق مما أثار انتباه أحد المقاومين فرأى تكليفها بوضع قنبلة في أحد الأماكن العمومية فلم تتردد في الاستجابة للطلب على الرغم من خطورته ...
لقد أحدثت تحركات النساء الوطنيات قلقا كبيرا لقوى الاستعمار و أعوانه " فعمل الباشا الكلاوي على التصدي لهن وتطويقهن بإصدار قرار منع ارتداء الجلباب عن النساء ومنع اللباس العصري باستثناء " الكساء" و" الحايك " فقط دون سواهما، مع اعتقال وإيقاع العقوبات، ضد كل من تخالف هذا القرار"
و مما ورد في رسالة من المراقب المدني بيكار إلى المندوب في الشؤون الحضرية :" ... السؤال الذي يطرح نفسه، هو معرفة في أي شرط يمكن إخضاع النساء المغربيات لتفتيش مشابه للذي يخضع له الرجال، على نطاق واسع ..."
وعلى الرغم من كل ذلك فقد دخلت المرأة المغربية المعركة ضد الاستعمار الغاشم فخاضت غمارها انطلاقا من عقيدة راسخة ورثتها عن الرعيل الأول من الصحابيات وكبار التابعيات، ثم عن أعلام نساء المغرب على امتداد التاريخ ، فقادت الثورة في عدة مدن وقرى إلى جانب إخوانها من رجال المقاومة و جيش التحرير و سقط عدد منهن شهيدات في ساحات النضال فسقين بدمائهن الزكية شجرة الحرية،مسترخصات أرواحهن الطاهرة في سبيل الحرية والاستقلال منذ إعلان الحماية سنة 1912 إلى بداية عهد الاستقلال نجعل ذكر بعضهن ختام هذا الموجز، سائلين لهن الرحمة والرضوان ولكل شهداء المغرب الأبرار، وفي طليعتهم جلالة المغفور له محمد الخامس ورفيقه في الكفاح جلالة المغفور له الحسن الثاني
1 - يطو بنت موحا أو حمو الزياني {ت1921 }... بنت بطل المقاومة بالأطلس المتوسط ضد الاحتلال الفرنسي
2 - عدجو موح تيلمشيت {ت 1933م } من نساء آيت عطا بالأطلس الكبير المقاومات بزعامة عسو باسلام سقطت شهيدة بتاريخ 28 مارس 1933
3 - خناثة الرودانية {ت1944م} استشهدت برصاص القوات الفرنسية في المظاهرات التي عرفتها مدينة سلا بتاريخ 07 مارس 1944 بعد الإعلان عن توقيع وثيقة الاستقلال
4 - خناتة الروندة :من شهداء انتفاضة 29 يناير 1944 من سلا
5 - رحمة الدكالي : من شهداء انتفاضة 29 يناير 1944 من سلا
6 - السيدة تودة : استشهدت في أحداث 1944. يوم 29 يناير في السويقة حين أطلق عليها الجنود الفرنسيون بالرباط النار لأنها كانت تزود المتظاهرين بالحجارة.
7 - السيدة كبورة المنكادة : في31 يناير من سنة 1944 صوب جندي بندقيته بفاس نحوها عندما كانت تصب الماء الساخن من فوق سطح منزلها على جنود الاحتلال
8 - فاطمة الزهراء بنت مولاي الحسن البلغيثي من بين المتظاهرين في مظاهرة المشور بمراكش برزت سيدة في مقتبل العمر تتقدم الصفوف وهي تردد محمد الخامس ملكنا وتنادي بسقوط الاستعمار وعملائه و تحمس الجماهير الثائرة وترد الهاربين وتوبخهم ، ثم لم تلبث أن سقطت شهيدة رحمها الله برصاص الشرطة الفرنسية وهي حامل في شهرها الرابع
وقد قال جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه في حقها في أول زيارة له لمدينة مراكش بعد الاستقلال : ... ولن ننسى شهامة الفدائيين الأبطال من أمثال الشهيدة المقدامة فاطمة الزهراء و حمان بن مبارك الفطواكي ومبارك بن بوبكر الدكالي وعلال بن أحمد الرحماني و محمد بن الحاج البقال و أحمد بن علي أقلا ...
و لم تكن فاطمة البلغيثي المرأة الوحيدة التي شاركت في مظاهرة المشور بل شاركت فيها سيدات أخريات، حافظت الذاكرة الوطنية على أسماء بعضهن
9 - فاطمة بنت علال {ت 1955م} أول شهيدة سقطت في معركة وادي زم الشهيرة يوم 20 غشت 1955
10 - فاطمة بنت العربي {1929 – 1955 }
11 - فاطمة بنت قدور {1919 – 1955 }
12 - صفية الغزوانية {1920 – 1955 م} من قبيلة السماعلة بإقليم خريبكة ، سقطت شهيدة في المظاهرات الشعبية بمدينة وادي زم يوم 20 غشت 1955
13 - صفية بنت صالح {1921 - 1955 م} من قبيلة ابن أحمد سقطت شهيدة برصاص الجنود الفرنسيين في الانتفاضة الشعبية التي عمت ربوع المغرب في 20 غشت 1955
14 - ثريا بنت عبد الواحد الشاوي {1936 – 1956 }الربان شهيدة الوطن ، أول امرأة تقود طائرة على المستوى العربي، تعرضت للاعتقال في الثامنة من عمرها بتهمة تحريض التلاميذ على مقاطعة الدراسة احتجاجا على أحداث العنف التي وقعت سنة 1944 و من طائرتها كانت ترمي المناشير ترحيبا بعودة المغفور له محمد الخامس و أسرته من المنفى، استشهدت يوم الفاتح من مارس 1956
15 - غضفة بنت المدني { 1935 – 1956 } ولدت بقلعة السراغنة وانتقلت مع أسرتها إلى الدار البيضاء و هناك تزوجت بأحد المقاومين و كان منزلهاملاذا للمقاومين تتستر عليهم وعلى أسلحتهم إلى أن سقطت شهيدة برصاص الشرطة الفرنسية التي داهم رجالها بيتها بتاريخ :18 يناير 1956
16 - أم الفضل بنت الشيخ سيداتي ماء العينين {1940 – 1957 م} مقاومة مغربية استشهدت في أحداث غارات الطيران الحربي الإسباني بجنوب المغرب
17 - الباتول بنت مبارك بن أزليف { 1927 – 1957 } من تالوين إقليم تارودانت انخرطت في جيش التحرير بآيت باعمران ...استشهدت في إحدى المعارك برصاص القوات الإسبانية
18 - عائشة بنت حيمود بن الحسين {ت1957 } ولدت بقبيلة آيت باعمران وانخرطت في جيش التحرير المغربي بالجنوب و استشهدت في إحدى المعارك التي لجأ فيه المحتل الإسباني إلى استعمال الطيران أمام ضغط المقاومة المغريبة.
19 - عائشة المسافر {1937 – 1957 } استشهدت وهي تطلق النار على جنود الاحتلال الإسباني في معركة بويزي في فاتح دجنبر 1957 إحدى معارك جيش التحرير بالجنوب ضد الاحتلال الإسباني .
20 - فاطمة بنت أحمد { 1924 – 1957 } شاركت في معارك قبائل آيت باعمران لتحرير المنطقة من الاحتلال الإسباني إلى أن استشهدت في معركة تكرار بتاريخ 11/11/ 1957
مراكش - محمد عز الدين المعيار الإدريسي