بعد قصة اليهودي ابن شاليب وقتل المعتمد له ، وقف هذا الأخير حائرا بين أمرين لا ثالث لهما ، إما الاعتذار للإدفنش2 واسترضاؤه، أو الدخول إلى حرب غير متكافئة...
وبعد أخذ ورد بينه وبين مستشاريه وحاشيته المقربين، استقر قراره على اللجوء إلى سلطان المغرب أسد الأطلس و الشمال الإفريقي وحاميه، الأمير يوسف بن تاشفين ، قائلا لمن حذروه من ذلك ، وأشاروا عليه بتحاشي اللجوء إليه قولته الشهيرة :" لأن أرعى الجمال عند ابن تاشفين، خير من أرعى الخنازير عند الفونش" فلم يتأخر يوسف عن نصرة الإسلام بل لبى النداء وعبر إلى الجزيرة الخضراء بجيوش المغرب الباسلة في أسطول ضخم فداسوا جنود الإدفونش التي قال عنها: "بها أقاتل الجن و الإنس وملائكة السماء"وأفنوها" وفر الإدفونش الذي ما لبث أن مات في طريقه متأثرا بجراحه.
و لا يفوتنا – هنا - أن نسجل بكل صدق و أمانة، ما أبداه المعتمد بن عباد في هذه الواقعة من بسالة فائقة و شجاعة نادرة ...
و انتهت الزلاقة بانتصار جند الإسلام3 ، و أظهر كل من يوسف بن تاشفين و المعتمد بن عباد من النزاهة و الاستقامة في التعاطي مع الأحداث التي جرت ما دل على صدقهما في الدفاع عن الإسلام و المسلمين في الأندلس و حسن نيتهما فيما يستقبل من الأيام من أجل الاستمرار على ذلك ، و افترق الرجلان على أحسن حال...
رجع يوسف بن تاشفين إلى مدينة مراكش قاعدة ملكه ، بعد أن رأى في ضيافة المعتمد من البذخ و الترف ما لايليق وسورة الملك، و عاد المعتمد إلى ما ألفه من أنس و مجون ...وازدادت الرعية سخطا عليه كارهة فيه استهتار بشؤون الدين وأمور الدولة شأنه في ذلك كباقي ملوك الطوائف فضج الناس وقام العلماء والفقراء ومن والأهم بالدعاء ضد المعتمد خصوصا و ملوك الطوائف عموما حتى إذا رأوا الأرض خطبة لدعوتهم كتبوا إلى يوسف بن تاشفين يرجونه خلاصهم وخلاص الإسلام من براثين الفجور والطيران فلبى الدعوة كعادته في نصرة الإسلام والمسلمين وأصدر أوامره إلى قائده أبي بكر- الذي خلفه من ورائه قصد التعرف على أحوال المسلمين في الأندلس والاستعداد لكل هجوم قد يصوب إليهم من جيوش النصرانية - بالانقراض على ملوك الطوائف جالا المعتمد آخرهم
و ما لبث أبو بكر أن نفذ الخطة
هنا يصف الأدباء و مؤرخو الأدب حال المعتمد في منفاه فيصفونه في أسوء حال مقيد الأيدي مثقل الأرجل بالسلاسل و الأغلال مودعا في دهاليز مظلمة متلقيا أسوء غذاء وأرث لباس بالإضافة إلى سوء المعاملة ...
ثم يزيدون فيصفون أحزانه و أشجانه و ذكرياته لقصوره أيام عزه و صولته :
غريب بأرض المغربين أسير ... سيبكي عليه منبر و سرير
ــــــــــــــــــــــــــــ
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
بل يشوهون سمعة يوسف بن تاشفين فيتهمونه بالانتهازية ويعزون غزوه لملوك الطوائف إلى ما رآه في بلادهم من خيرات و نعيم وقصور و رياض4
لندع – هنا – العواطف و المحاباة ، و لنحكم المنطق و الواقع فنقول إن يوسف بن تاشفين لم يفعل إلا ما كان يجب فعله إذ لولا إنقاذه للأندلس في ذلك الوقت لضاعت قبل الأوان بأربعة قرون بعد أن انصرف ملوك الطوائف إلى أطماعهم و نزواتهم و ملذاتهم ...
يضاف إلى ذلك أن قوتهم كانت متفرقة و آراؤهم متناقضة مما يسهل معه على العدو القضاء عليهم و قد آلت حالهم إلى ما قال ابن الخطيب :
حتى إذا سلك الخلافة انتثر ... و ذهب العين جميعا و الأثر
قام بكل بقعة مليك ... وصاح فوق كل غصن ديك
كانت هذه الأسباب و غيرها من الدواعي إلى توحيد الأندلس تحت سلطة قوية تستطيع حماية الإسلام و المسلمين في تلكم الربوع و أي سلطة أقوى في ذلك العهد و أشد من سلطة يوسف بن تا شفين ...
و لقد أصاب كبد الحقيقة شاعر الحمرا محمد بن إبراهيم حين قال :
يعز علينا القصر يفقد مجده ... و يمسي ابن عباد به يخسر السعد
يعز علينا اظن نراه مصفدا ... يساق إلى أغمات يرسف في القيد
ولكن لنصر الدين : دين محمد ... و إنقاذه من بؤرة الهلك و النكد
نضحي بعباد و آخر كابنه ... ومثله ممن لا يفيد و لا يجدي
لتبكوا معي ذاك العظيم و فقده ... و لا تتركوني أبكه بينكم و حدي5
ويعود إلى المعتمد في منفاه فنجده أحسن حالا ببكثير مما وصفه به ذوو العواطف الرقيقة والأحاسيس اللطيفة و ذلك بشواهد صدق :
أولا – يروي التاريخ أن يوسف بن تاشفين كان متزهدا يقنع بالملبس و المسكن الخشن ويرضى بخبز الشعير و الزيت و الماء البارد في طعامه و شرابه ، و ربما كان حال المعتمد بن عباد في ذلك أفضل من حال أمير المسلمين .
ثانيا – لم يمنع المعتمد من الاتصال بالناس فقد مكث في طنجة و التقى بعدد من الشعراء منهم الشاعر الكبير أبو الحسن الحصري 6 كما وفد عليه إلى أغمات شعراء آخرون منهم ابن حمديس و الداني المعروف بابن اللبانة 7.
ثالثا – سمح لأبي العلاء ابن زهر في علاج إحدى بنات المعتمد عندما دعاه لذلك8 فلو كان هناك سوء في المعاملة لما تم السماح لطبيب جاء لمعالجة أمير المسلمين أن يلبي دعوة ملك منفي .
رابعا –يبدو أن المسكن الذي كان المعتمد نازلا به هو و أهله يتوفر على كل الشروط المطلوبة وإن لم يكن في مستوى قصوره في الأندلس و لا غرو فأمير المسلمين نفسه كان مسكنه بسيطا متواضعا ...
خامسا – كل تلك الأشعار التي قالها المعتمد في منفاه لا تعتبر حجة في يد من يزعمون سوء معاملة يوسف له لأن رجلا سلب منه ملكه و ضاعت من بين يديه سلطنته لا يجد العزاء إلا في شعره إذ به يظفر و به ينتصر 9.
سادسا – نقول لأولئك الذين يزعمون أن يوسف بن تاشفين ما فتك بملوك الطوائف إلا قصد الاستيلاء على خيرات الأندلس و نعيمها إن المغرب لم يكن أقل خيرات من بلادهم تاركين لهم الرد عن هذا السؤال راجين أن يجدوا له جوابا مقنعا :" ماذا فعل يوسف بن تاشفين بخيرات الأندلس حين أصبحت تحت حوزته ؟"
سابعا – و أخيرا كان المعتمد لا يزال يحن إلى ما فقده غير مقر بالخطيءة و لا معتذر عما بدر منه فلا نجده يذكر ابن تاشفين في شعره اللهم ما كان من قصيدة يشيد به فيها بيوم الزلاقة :
و قلبي نزوع إلى يوسف ... فلولا الضلوع لطارا
ولولاك يا يوسف المتقى ... رأينا الجزيرة للكفر دارا
بل غضب أخيرا وشكا جور الزمان و تعنت الأيام له يائسا من رجوع ما سبق أن ضاع منه ، حتى إذا ثار ابنه عبد الجبار بعثت الثورة في نفسه شيئا من الأمل الذي سرعان ما زال بقتل المرابطين لابنه هذا، كما ندم في آخر أيامه عما فعل من استنجاده بيوسف بن تاشفين حين قال :"أنا الجاني على نفسه و الحافر بيده لرمسه "
فأين هو من قولته السالفة و هو في عزة سلطانه : لأن أرعى الجمال عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند الأدفنش10"
وعلى أي فقد أنصفه يوسف و عامله بما يستحق و مد في عمر الأندلس مدة غير يسيرة في عمر الدول و عند الله في ذلك الجزاء 11 .
هوامش :
1- نشر هذا المقال في أصله بجريدة العلم المغربية بتاريخ : 04 ماي 1970 الصفحة 5 ، 7 وقد أعدت فيه النظر فذيلته في هذه الهوامش بأشياء لم يتسع المجال لها في مقال في جريدة و بأخرى ظهرت بعد ذلك في كتابات جديدة
2 - الأدفنش هو ألفونس السادس ملك قشتالة
3- انظر في وصف معركة الزلاقة العطيمة و ما أحاط بها : الحلل الموشية : 38 – 66 / الأنيس المطرب بروض القرطاس :184 – 189
4 - من هؤلاء في القديم صاحب المعجب الذي قال إن المعتمد بن عباد في استنجاده بيوسف بن تاشفين لم يدر أن تدميره في تدبيره، وسل سيفا يحسبه له ولم يدر أنه عليه ص 193 ... ثم يوسف المذكور ... جعل يظهر التأفف من الإقامة بجزيرة الأندلس و يتشوف إلى مراكش و يصغر قدر الأندلس ... و هو في ذلك كله يسر حسوا في ارتغاء ص 195 ، 196 ... ورجع يوسف بن تاشفين و أصحابه عن ذلك المشهد منصورين مفتوحا لهم و بهم فسر بهم أهل الأندلس و أظهروا التيمن بأمير المسلمين و التبرك به و كثر الدعاء له في المساجد وعلى المنابر وانتشر له من الثناء بجزيرة الأندلس ما زاده طمعا فيها ص 199 – ورجع أمير المسلمين إلى مراكش و في نفسه من أمر الجزيرة المقيم المقعد فبلغني أنه قال لبعض ثقاته من وجوه أصحابه : كنت أظن أني قد ملكت شيئا فلما رأيت تلك البلاد صغرت في عيني مملكتي ..ص 203 - 204
و منهم في العصر الحاضر صاحب كتاب لا تحزن الذي أبى إلا أن يخوض في هذا الشأن غير متورع ولا متثبت
يقول : ... فعبر ابن تاشفين البحر و نصر ابن عباد فأنزله ابن عباد في الحدائق والقصور و الدور ، و رحب به و أكرمه ، و كان ابن تاشفين كالأسد ينظر في مداخل المدينة ومخارجها لأن في نفسه شيئا .
وبعد ثلاثة أيام هجم ابن تاشفين بجنوده على المملكة الضعيفة، و أسر ابن عباد وقيده وسلب ملكه و أخذ دوره و دمر قصوره وعاث في حدائقه ، ونقله إلى بلده أغمات أسيرا {وتلك الأيام نداولها بين الناس } فتقلد ابن تاشفين زمام الحكم و ادعى أن أهل الأندلس هم الذين استدعوه و أرادوه كتاب لا تحزن ص270
5 - روض الزيتون - ديوان شاعر الحمراء – ضبط وتنسيق وتعليق : أحمد شوقي بنبين : 1 / 112
6- انظر المعجب : ص 211 و الهامش (2)
7- المعجب : 231
8 - المعجب : 229
9- انظر ديوان المعتمد بن عباد : القسم الثاني – عهد المحنة و الأسر ( د.حامد عبد المجيد – د.أحمد أحمد بدوي / راجعه د.طه حسين - الطبعة الرابعة 1423 هـ = 2002م مطبعة دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة
10 - في الحلل الموشية : 45حرز الجمال والله عندي خير من حرز الخنازير
11 - انظر : تاريخ مراكش من التأسيس إلى الحماية( 1912م ) لمؤلفه غستون دوفردان : 1/117