يشعر الباحث وهو يهم بالحديث عن الصلات التاريخية والحضارية والإنسانية بيـن البلاد الإفريقية فيما بيـن بعضها البعض، بسعادة غامرة ورغبة أكيدة في الاطلاع على ما ظهر وما خفي من ذلك، متحديا كل الصعوبات والموانع، التي آن الأوان لإزاحتها وتجاوزها، بوضع معاجم للأعلام البشرية والجغرافية، تضبط الأسماء وتُعَرِّفُ بها، وتحدد الأزمنة والأمكنة، وكشافات وفهارس للتـراث الإفريقي المخطوط على وجه الخصوص، والذي فيه من كتب الفقه والنوازل الشيء الكثيـر. بالإضافة إلى حل مشكل اللغات الإفريقية التي أضحت في أمس الحاجة إلى موسوعات وقواميس، لتقريب الشقة بيـن الإخوة، وتيسيـر عمليات التواصل بيـنهم، مع إعطاء لغة القرآن مزيدا من العناية والاهتمام….
وتواجه الباحث في مثل هذا الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه، صعوبات تتعلق بالوفرة لا بالنقص، وبالتداخل الإيجابي الواضح في تـراث بلداننا بيـن العقيدة والمذهب والسلوك، بشكل يتعذر معه الفصل بيـنها في معظم فتـرات التاريخ المشتـرك، أو تغليب دور على آخر بالإضافة إلى صعوبة الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه وتتبعه عبـر كل مراحله. لكن حسبنا التأسي بالحكمة القائلة: ما لا يدرك كله لا يتـرك جله، أو على الأصح لا يتـرك بعضه ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق…
ومهما يكن، فإن من شأن مثل هذه الندوة المباركة، وما سيتلوها من ندوات، أن تساعد على تحقيق كثيـر من المطامح، وبلوغ جملة من المطالب، وملء العديد من الفراغات، وفي الوقت ذاته رفع ما يمكن رفعه من المصاعب والمتاعب أمام المهتميـن، للوصول إلى كثيـر من الحقائق الغميسة، وإخراجها من حيز الخفاء والغموض، إلى رحاب التجلي والوضوح.
وجديـر بالذكر في هذا المقام، التنبيه إلى أن الكثيـر من المصادر والأبحاث التاريخية تفيد بأن العلاقات المغربية الإفريقية، علاقات عريقة ضاربة في أعماق التاريخ، اشتد عودها وتقوت عراها، بدخول هذه البلاد في الإسلام، الذي دان به أهل المغرب، وعدد من بلدان إفريقيا، منذ القرن الهجري الأول، قبل أن يصل إلى أكثر بلاد غرب إفريقيا عن طريق الصحراء مع المغرب الكبيـر والطريق الساحلي إلى السنيغال، ومنها إلى سائر أرجاء غرب إفريقيا، مما يطول شرحه ولا يتأتى في هذه العجالة بسطه.[1] ثم توطدت هذه الروابط أكثر بانتشار المذهب المالكي فيها، وهو موضوع هذه المقالة، التي سيكون التـركيز فيها- أساسا -على إفريقيا الغربية الواقعة وراء الصحراء الكبـرى وشمال المنطقة شبه الاستوائية؛ أي المناطق التي كان للمغرب علاقات بها على مر التاريخ[2]، دون إغفال صلاته مع بقية بلاد إفريقيا قدر الإمكان، وحسب ما تجود به المصادر والمراجع المتاحة لحد الآن.
وبما أن هذا الحديث يـنصب على دخول المذهب المالكي وانتشاره في إفريقيا عبـر المغرب خاصة، فلن نخوض في موضوع دخول الإسلام إلى بلاد إفريقيا، وما رافق ذلك من صعوبات، مما أفاضت الحديث فيه كتب التاريخ والسيـر… وإنما سنركز– أساسا – على دخول مذهب الإمام مالك.
هذه المشاركة تأتي في مدخل وثلاثة محاور كالآتي:
مدخل-يهدف إلى تحديد معاني مفردات عنوان البحث: «المذهب المالكي – المغرب – إفريقيا»
المذهب المالكي
المذهب في اللغة: الطريق وعند الفقهاء: «حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة، في الأحكام الاجتهادية، استنتاجا واستنباطا». وأصحاب المذاهب الفقهية علماء أجلاء وأئمة أعلام، سطع نجمهم في الأفق خلال الدور الذهبي للاجتهاد، من أول القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع الهجري، فسَّروا للناس ما ورد في الكتاب والسنة، واستنبطوا منهما الأحكام، تسهيلا على ما عجزوا عن فهمه منهما، وكانوا جملة من المجتهديـن، دونت مذاهبهم وقلدت أقوالهم وآراؤهم، وقد اختفت – اليوم – أكثر هذه المذاهب من حياة الناس، ولم يبق لها وجود إلا في بطون الكتب.
أما المذاهب السنية[3] التي بقيت إلى اليوم في العالم الإسلامي، والمُقَلَّدَةُ من جمهور المسلميـن فأربعة منها المذهب المالكي، الذي يـنسب إلى إمام دار الهجرة مالك بن أنس (93- 179هـ)، والمنتشر في أقطار الغرب الإسلامي وأكثر بلدان إفريقيا، وأصول مذهبه كثيـرة لا يتسع المجال –هنا- لتفصيل القول فيها.
قال الشاعر المغربي الكبيـر مالك بن المرحل[4] :
لا تخالف مالكا رأيه فبه يأخذ أهل المغرب
المغرب
أما مفهوم «المغرب» فقد كانت بلاد الإسلام في تلكم العصور الأولى مقسمة إلى قسميـن: شرق أو مشرق، وغرب أو مغرب، وكان العباسيون قد قسموا مملكتهم إلى جهتيـن انطلاقا من عاصمتهم بغداد:
– المشرق ويشمل بلاد فارس وما إليها شرقا.
– المغرب ويشمل الشام وإفريقية وما إليها غربا.
ثم أصبح فيما بعد يعني بلاد المغرب الكبيـر والأندلس، وكانت للمغرب الأقصى– كما لا يخفى – الصدارة بيـن بلدان المغرب الكبيـر، في فتـرات كثيـرة من التاريخ، خصوصا بعد أن انضوت جميع هذه البلاد تحت لوائه لقرون.
ولم يكن مصطلح الغرب الإسلامي، متداولا في القديم، وإنما شاع استعماله في العصر الحديث، ولعل ليفي بـروفنصال أبـرز من دافع عن هذا المصطلح وروج له[5].
إفريقيا
أما «إفريقيا» بمعنى هذه القارة الكبيـرة الواعدة، فهناك اضطراب بيـن المؤرخيـن في تحديدها، حيث كان يطلق عليها في القديم بلاد السودان، على أساس لون بشرة غالب ساكنتها، ثم بدأت تتحدد حسب أجزائها كبلاد السودان، أو بلاد الزنج أو بلاد الحبشة أو غيـر ذلك، في حيـن كانت تونس هي المعروفة– إذ ذاك – بإفريقية.[6]
المحور الأول: أسباب انتشار المذهب المالكي وأهم خصائصه
أولا – أسباب انتشار المذهب المالكي
أ – أسباب ذات اعتبارات أدبية
أشبه ما تكون بالمناقب والبشائر، التي تنشرح لها الصدور، وتطمئن بها القلوب، على حد قول أستاذنا الشيخ محمد المكي الناصري رحمه الله[7]، مع ما في ذلك من الأسرار والمعاني مما يدخل في إطار الغيب، الذي أطلع الله عليه رسوله الكريم، كما قال تعالى: ﴿ عَٰـٰلِمُ الُغَيِبِ فَلَا يظُهِرُ عَلىَٰ غَيْبِهِ أحَداً اِلَّا مَنِ اِرْتضَىٰ مِن رَّسُول﴾ الآية[8]، فمن علامات النبوة إخباره ﷺ بالشيء قبل وقوعه:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال ﷺ: «لا يزال أهل الغرب ظاهريـن على الحق حتى تقوم الساعة» [9]
عن أبي هريـرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المديـنة» [10]
قال يحي ابن معيـن: «سمعت سفيان بن عييـنة يقول: نظن أنه مالك بن أنس وقال أيضا: من نحن عند مالك، إنما كنا نتتبع آثار مالك، وننظر إلى الشيخ إن كان كتب عنه وإلا تـركناه»[11].
وقد روى عن مالك خلق كثيـر من العلماء، جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبارهم فبلغوا حوالي ألف أو نحوها – قال ابن تيمية: «وهؤلاء الذيـن اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد قريب من ثلاثمائة فكيف بمن انقطعت أخبارهم أو لم يصل إليه خبـرهم»[12] وكان منهم عدد كبيـر من الأفارقة[13].
ب – أسباب تتعلق بـ (مَدَنِيَّةِ المذهب)
وذلك من أجل سكنى ومدفن رسول الله ﷺ بالمديـنة المنورة، ولا يخفى أن تعلق مسلمي إفريقيا بـرسول الله وبآل بيته شيء يجري في دمائهم، دون مغالاة أو انحراف عن تعاليم الديـن السمحة، وفي احتـرام تام لسائر الصحب الكرام وآل البيت الأطهار، ولم يكن اختيارهم لمذهب مالك، نابعا مما كان غالبا عليهم من البداوة، كما قال ابن خلدون ومن تابعه على ذلك، وإنما لميلهم إلى اقتفاء أثر أهل المديـنة، فيما كانوا عليه من التشبث بما كان عليه رسول الله ﷺ وصحابته من بعده.
ومعلوم أن أول تجسيد لوحدة الأمة الإسلامية في إطار كيان سياسي قائم على البيعة والشورى، كان بالمديـنة على يد رسول الله ﷺ، وهو النموذج الذي ظل مسلمو إفريقيا يـرونه المثل الأعلى الذي يجب الاقتداء به والسيـر على سننه[14].
وعلى غرار المديـنة قلت البدع في معظم بلاد إفريقيا، في ظل التمسك بمذهب إمام دار الهجرة. ومما يعد من فضل المغرب والأندلس، أنه لم يذكر على منابـرهما أحد من السلف إلا بخيـر[15]، حتى قرن أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الطرطوشي (تـ 520هـ) هذا التعلق بحديث أهل الغرب فرد ذلك إلى ما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الديـن، والاقتفاء لأثر السلف الصالح.[16]
وأرجع غيـر واحد من العلماء، قلة أهل البدع في المغرب والأندلس إلى التمسك بمذهب مالك بن أنس؛ هذا المذهب الذي اعتبـر أسلم المذاهب، أو أقلها على الأصح اشتمالا على أهل الأهواء والبدع بالقياس إلى ما كانت تعرفه بعض المذاهب الأخرى.[17]
والذيـن قاوموا العبيدييـن الروافض بإفريقية هم المالكية بالدرجة الأولى، وهم الذيـن تعرضوا لأقصى ألوان التنكيل والتـرويع والتقتيل، كما هو مسجل في كتب التاريخ والتـراجم[18].
وربما كانت هذه المحن والشدائد، وراء تمسك معظم مسلمي إفريقيا بمذهب الإمام مالك؛ الشيء الذي طبع حياتهم الفكرية بكثيـر من الاحتياط والميل إلى الوضوح وتجنب التعقيد والتأويل، وغيـر ذلك مما يـنسجم مع الطبيعة الإفريقية. وعلى كثرة المذاهب الفقهية التي عرفتها بلاد إفريقيا بنسب متفاوتة، فإنه لم يكتب لأي منها أن تشبث به أهل هذه البلاد، تشبثهم بالمذهب المالكي، الذي استقروا عليه فيما بعد، على الرغم مما كان لبعضها من نفوذ وسلطان وقهر؛ ومن ثم اعتبـر عدد من الفقهاء كشهاب الديـن القرافي (تـ 684هـ) وأبي القاسم ابن جزي (تـ 741هـ)، حديث أهل الغرب شهادة لأهل المغرب ولإمامهم، بأن مذهبه حق توفيقا من الله تعالى وتصديقا لقول رسوله الكريم.[19]
وهذه الوحدة المذهبية من القواسم المشتـركة بيـن هذه البلدان، ومما يؤهلها لتحقيق وحدة جزئية عظيمة للأمة الإسلامية، في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي وفي كل إفريقيا.
هذه الوحدة التي ظل الإحساس بها عميقا لدى كل مسلم، منذ أرصى قواعدها رسول الله ﷺ بالمديـنة النبوية المطهرة وإلى ما شاء الله.
ج – أسباب تتعلق بشخصية الإمام مالك، الذي كانت له هيبة عظيمة[20] فاقت كل هيبة، حتى قال سعيد بن أبي هند القاضي:» ما هبت أحدا هيبتي عبد الرحمان بن معاوية، حتى حججت فدخلت على مالك، فهبته هيبة شديدة صَغَّرَت هيبة ابن معاوية.[21]
وعلى الرغم من هذه الهيبة، فقد كانت علاقة الإمام مالك بطلبته تتميز بكثيـر من المحبة والمودة بسبب أخلاقه العالية، ورحابة صدره، وعظيم عنايته بالراحليـن إليه، خصوصا من بلاد المغرب، الذيـن كانت علاقته بهم تتسم بكثيـر من الاهتمام الموصول، حتى بعد رجوعهم إلى بلدانهم.
د- يضاف إلى ما تقدم ذكره، سبب رابع، وهو أن المالكية امتازت بأنها لم تكن مذهبا فقهيا فحسب، بل مذهبا سلوكيا أيضا، وأن الذيـن تخرجوا بمدرسة الإمام مالك من تلامذته، المباشريـن وغيـر المباشريـن، عرفوا كيف يقيموا لأنفسهم في البلاد التي استقروا فيها، سلطانا روحيا معنويا وسياسيا، دون أن يثيـروا مخاوف أهل السلطان»[22].
ثانيا -خصائص المذهب المالكي بالمغرب
قبل الحديث عن خصائص المذهب المالكي، تجدر الإشارة إلى مدارسه الفقهية وهي أربع: المدرسة المدنية، والمدرسة المصرية، والمدرسة العراقية، والمدرسة المغربية، وهذا يفيد أن حظ إفريقيا من هذه المدارس مدرستان: المصرية، والمغربية.
وقد امتازت المدرسة المغربية بانفتاحها على كل المدارس المذكورة، ثم بتنوعها وتفرعها بدورها إلى ثلاثة مدارس على الأقل هي: القيـروانية والفاسية والقرطبية أو القاضية، دون أن يعني ذلك أي تمايز بيـنها أو اختلاف. ويكفي هذه المدرسة -في شمولها وتنوعها- تقديـرا واعتبارا في المذهب:
أ- أن رواية موطأ الإمام مالك المعتمدة عندهم هي رواية يحيى بن يحيى الليثي (تـ 234هـ) وهي التي إذا أطلق الموطأ، لم يَنْصَرِف إلا إليها، دون غيـرها من الروايات حتى قال القائل:
وحيثما موطأ قد أطلقا لها انصرافه لديهم حققا
بـ- أن المدونة بصيغتها الأخيـرة لسحنون بن سعيد التنوخي (تـ 240هـ) مُقَدَّمَةٌ على غيـرها من الدواويـن بعد الموطأ.
قال القاضي عياض: «هي أصل المذهب المرجح روايتها على غيـرها عند المغاربة، وإياها اختصر مختصروهم وشرح شارحوهم، و بها مناظراتهم و مذاكرتهم».[23]أما عن خصائص المذهب فمن أهمها:
الوسطية والاعتدال
ولا شك أن الوسطية هي سر قوة الإسلام وبقائه واستمراره قال تعالى: ﴿وَكذَٰلِكَ جعلناكم أمَّة وَسَطا﴾[24].
وهي من خَصائصِ هذه الأمَّة، وعلى أساسها قام المذهب المالكي، فجاء مذهبا وسطا عدلا، تظهر وسطيته وتتجلى في أصوله وفروعه، وفي أحكامه ومواقفه؛ فهو يقول بالقياس، ويأخذ بالرخص، ويكره شذوذ الأقوال والأحكام، ويحرم استعمال الحيل ويعاقب المحتال بنقيض قصده كنكاح المحلل و طلاق المريض[25].
التطور والتجديد
من سمات المذهب المالكي قابليته للتطور والتجديد، تجاوبا مع الحياة ومواكبة للعصر في ظل الشريعة الإسلامية الغراء، كالعرف الذي يحرص على مراعاة أحوال الناس وعاداتهم وتقاليدهم، وهو في اصطلاح الفقهاء: «ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول»[26]. ومن أمثلته ما عرف في المغرب بـالعمل رعيا لمصلحة الأمة وما تقتضيه حالتها الاجتماعية «كالعمل الفاضي»، أو «العمل المطلق» أو «العمل السوسي»، أو «العمل الوزاني»، أو «العمل الرباطي» أو غيـرها؛ وهي من الأمور التي استحدثها فقهاء المغاربة وجعلوها مصدرا تشريعيا يـرجع إليه في القضايا التي لم يـرد فيها نص من الكتاب ولا السنة الثابتة، ولا تخضع لضوابط القياس، وكان منطلقها من قرطبة لتمتد فيما بعد إلى أقطار المغرب الكبيـر.
وظل الفقه المالكي نشيطا متجاوبا مع الحياة، متأثرا بها ومؤثرا فيها، بحسب الظروف والملابسات، من ذلك على سبيل المثال قول الفقيه المغربي الشفشاوني ابن عرضون (تـ 992 هــ) بحق المرأة في اقتسام الثروة مع زوجها على التساوي، مقابل الخدمة التي تقوم بها والجهد الذي تبذله داخل البيت وخارجه، وهو ما نظمه صاحب العمل الفاسي[27] فقال:
وخدمة النساء في البوادي للزرع بالدرس وبالحصاد قال ابن عرضون لهن قسمة على التساوي بحساب الخدمة لكن أهل فاس فيها خالفوا قالوا لهم في ذلك عرف يعرف
ويتصل بذلك فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي، أصل المصلحة المرسلة، التي هي من أهم أصول المذهب المالكي وأكثرها إغناء له، لِمَا تحقق من مصالح العباد الديـنية والدنيوية في حدود المصالح المشروعة، لا حسب كل ما تهواه الأنفس ويشتهيه الناس.
الواقعية
تعني الاهتمام بما هو واقع، أو يمكن أن يقع، مما فيه نفع للناس، ويتجاوب مع الفطرة في بساطتها ووضوحها دون تكلف. وفي توجيه الإمام مالك للرعيل الأول من تلامذته، ما يؤكد ذلك إلى درجة تحذيـرهم من كثرة الرواية، وهو أميـر المؤمنيـن في الحديث ـ كما هو معروف ـ فيقول: «إنما العلم نور يضعه الله في القلوب» والعلم المطلوب هو العلم النافع، كما قال لأبي بكر و إسماعيل ابني أبي أويس: «أراكما تحبان هذا الشأن و تطلبانه؟ قالا: نعم، قال: إن أحببتما أن تنتفعا به، ويـنفع الله بكما فأقلا منه وتفقها»، وكان الإمام مالك يأبى كثرة السؤال.
قال أسد بن الفرات (تـ 213هــ) وهو أحد تلامذة مالك من إفريقية: «كان ابن القاسم وغيـره يجعلونني أسأل مالكا، فإذا أجابني قالوا لي: قل له: فإن كان كذا وكذا، فضاق علي يوما وقال: هذه سلسلة بنت سلسلة، إن كان كذا، كان كذا، إن أردت – ذلك – فعليك بالعراق»[28].
المرونة
وهي مطلوبة في الحياة، فلابد من إزاحة الحواجز والمشكلات من الطريق، لتسيـر الأمور على هدى من الله، دون تعقيد أو تعثر. وتتجلى في المذهب المالكي بوضوح في قاعدة مراعاة الخلاف التي تـرجع أهميتها إلى أمريـن:
أـ محاولة التقريب بيـن المذاهب، وتضييق شقة الخلاف بيـنها.
بـ ـ الأخذ بها للفت نظر المجتهد المستنبط للأحكام بأن يـراعي المآلات بعد تقريـره الأدلة في المسائل ذات الخلاف[29]، وتجلى في:
تصحيح بعض العقود الفاسدة المختلف فيها
تـرتيب آثار العقود الصحيحة على العقد الفاسد المختلف فيه[30].
المحور الثاني: المذهب المالكي من المغرب إلى إفريقيا
كان الإمام مالك ما يزال على قيد الحياة عند قيام الدولة الإدريسية بالمغرب، وكانت علاقته بشيخه عبد الله الكامل وبأبنائه خاصة منهم محمد النفس الزكية – جد الأسرة العلوية – وبأخيه ووارث سره المولى إدريس، شائعة معروفة[31]، وكذا اهتمامه ببلاد المغرب وسؤاله عن الأحوال بها. ويبدو أن إدريس بن عبد الله الكامل، الذي كان يحفظ موطأ مالك، هو أول من دعا المغاربة إلى مذهب مالك وقراءة الموطأ، حيـن قال: «نحن أحق باتباع مذهب مالك وقراءة كتابه»[32] وتفيد دعوته المرسلة إلى المغاربة كما رواها الإمام الزيدي اليمني عبد الله بن حمزة في كتاب الشافي على سنية المولى إدريس[33]، فهو كما قال الأستاذ علال الفاسي: «إمام من أئمة السنة وعالم من أعلام آل البيت»[34].
ومما يدل على ذلك أيضا ما ذكره ابن أبي زرع وغيـره أن المولى إدريس الأكبـر عندما دخل مديـنة تلمسان وصالح أهلها: «بنى مسجدها وأتقنه وصنع فيه منبـرا وكتب عليه: بسمالرحيم هذا ما أمر به إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك في شهر صفر سنة أربع وسبعيـن ومئة[35].
ففي ذِكرُ اسمه مجردا، ثم التـرضي على أسلافه، بدل السلام عليهم، كما هي عادة الشيعة ما يؤكد اختياره السني، وهو ما رسخه من بعده خلفه ووارث سره ابنه إدريس بن إدريس، الذي اختار عامرًا القيسي لقضاء فاس، وكان «رجلاً صالحاً ورعاً فقيهاً، سمع من مالك وسفيان الثوري، وروى عنهما ثم خرج إلى الأندلس بـرسم الجهاد، ثم جاز إلى العدوة فوفد منها على إدريس فيمن وفد عليه من المغرب[36]. كما استكتب الفقيه المالكي أبا الحسن عبد الله بن مالك الأنصاري الخزرجي، وهو الذي تولى عقد شراء البقعة التي بنيت عليها مديـنة فاس من أهلها سنة 191هـ.
ثم لم تلبث أن توالت الوفود على إدريس الثاني من الحاضرتيـن المالكيتيـن العريقتيـن القيـروان وقرطبة، في نحو ثلاثمائة أسرة من الأولى، وفي أكثر من أربعة آلاف بيت من الثانية، مما جعل إدريس يُنْزِلُ كل بلد بعدوة من عدوتي فاس بعد بنائها.
وتـرجع أسباب كثرة القاضييـن إلى فرارهم على إثر وقعة الرَّبَض، عند قيام أهل أرباض قرطبة وراء جماعة من أهل الورع والديـن وعامتهم من علماء المالكية وتلامذته[37] على الأميـر الحكم الرَّبَسي (180- 206 هـ) منهم يحيى بن يحيى الليثي، وطالوت بن عبد الجبار، وعيسى بن ديـنار، ويحيى بن مضر القيسي وغيـرهم.[38]
وكانت مديـنة أغمات – في جنوب المغرب – خلال ذلك العهد دار علم وصلاح ورئاسة تجارة، فهي مقر إقامة الأميـر عبد الله بن إدريس الأصغر النائب عن شقيقه السلطان محمد. وقد نزح إليها – أيضا- عدد كبيـر من القاضييـن من أوائل القرن الثالث الهجري بعد فرارهم من فتنة الربض بقرطبة، كما أن رباط أغمات المعروف، كان المقر الأول لزعماء المرابطيـن والمركز الهام لأهل العلم ورجال التصوف، يقصدونه من سائر أنحاء شمال إفريقيا، وكانت بالإضافة إلى ذلك كله ملتقى القوافل التجارية نحو بلاد السودان وغرب إفريقيا عبـر الصحراء كما سيأتي.
يقول أبو طاهر السلفي (تـ 576هـ): «سمعت أبا العباس أحمد بن طاهر بن شيبة الفاضي بالثغر يقول: أبو علي المتيحي[39] من فقهاء أغمات، وإلى فتاويه يـرجع سلطان المغرب ابن تاشفيـن لديـنه، تـركته في سنة عشريـن وخمسمائة حيا. ومحمد بن شبونة من مشاهيـر فقهاء المغرب يشار إليه في المعرفة بمذهب مالك وهو يسكن أغمات خلفته بها حيا كذلك في سنة عشريـن».[40]
وفي عهد يحيى بن محمد بن إدريس بُنِي جامع القروييـن من قبل سيدة صالحة محسنة تسمى أم البنيـن فاطمة الفهرية سنة 245هـ، والذي سيكون مقصد طلبة العلم من كل الأصقاع ومن بلدان إفريقيا على وجه الخصوص.
في هذه الفتـرة الإدريسية نعثر في أهم المصادر الأولى في تـراجم رجال المذهب أعني تـرتيب المدارك للقاضي عياض (تـ 544هـ) على شخصية علمية مالكية هي شخصية جبـر الله بن القاسم الأندلسي الفاسي (تـ 350هـ) الذي ذكر ابن القاضي في الجذوة أنه سمع منه عيسى ابن سعادة الفاسي، كما قال إنه نزيل عدوة الأندلس، وهو من أدخل علم مالك إلى فاس، لقي أصبغ بن الفرج وسمع منه[41]، وأصبغ المصري من أعلام مذهب مالك وحَمَلَتِه (تـ 255هـ)، وإذا علمنا أن ممن أخذ عنه بمصر محمد بن المواز المصري، وابن حبيب، وابن مزيـن، وعبد الأعلى القرطبيون؛ قدرنا أنه من هذا الجيل وأنه سبق دراس بن إسماعيل بعقود من الزمن فهو من شيوخه، وقصة عرضه عليه الموازية – كما أوردها ابن القاضي في جذوة الاقتباس – شاهدة على ذلك، ومن تلامذته النابهيـن أبو موسى عيسى بن سعادة الفاسي الذي عندما توفي بمصر(تـ 355هـ) تنازعه الفقهاء والمحدثون، كلهم يدعيه ويقول بأنه أحق بالصلاة عليه.[42]
أما دَرَّاس بن إسماعيل أبو ميمونة (تـ 357هـ) فهو الذي اشتهر بأولية نشر المذهب بفاس والمغرب، وهو أستاذ الإماميـن المالكييـن الكبيـريـن: ابن أبي زيد القيـرواني وأبي الحسن القابسي وهو من الحفاظ المعدوديـن.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه كانت بالنكور في شمال شرق المغرب بالريف، إمارة سنية مالكية يـنتسب أبناؤها لصالح بن منصور الحميـري اليمني الداخل إلى المغرب الأقصى في افتتاحه الأول على يد عقبة بن نافع الفهري.[43]
كما كانت بسجلماسة إمارة تخلى أميـرها محمد بن الفتح الشاكر لديـن الله (تـ347هـ) عن الاتجاه الخارجي المتطرف الذي كان عليه أسلافه، واختار المذهب السني المالكي.[44] ثم يأتي بعد هذه المراحل، الدورُ البارز في نشر المذهب للفقيه المالكي عبد الله بن ياسيـن الجَزُولي (تـ 451هـ)، المجاهد المرابط، مهدي المرابطيـن كما نعته بذلك ابن أبي زرع.[45] وكان قد رحل في أوائل القرن الخامس الهجري إلى الأندلس فبقي هناك أكثر من سبع سنوات يكرع من حياض العلم، قبل أن يعود إلى المغرب، فيلزم شيخه وجَّاج بن زلو اللمطي[46] (تـ 445هـ) في داره التي بناها بالسوس للعلم والخيـر وسماها «دار المرابطيـن»، إلى أن خرج منها متجهاً صوب أقاصي الصحراء رفقةَ إبـراهيم بن يحيى الجُدالي أميـرِ قبيلة صنهاجة[47]، بتكليف من شيخه ومعلمه وجَّاج بن زلو اللمطي امتثالاً منه بدوره لتوصية شيخه الإمام أبي عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي الفاسي نزيلِ القيـروان[48] (تـ 430هـ)، باختيار رجل صالح مؤهل للقيام بمهمة شرح تعاليم الإسلام وقواعده لقبائل الصحراء الممتدة إلى أرض السودان و تعميق وعيهم بذلك.
وأبو عمران الفاسي رأس من رؤوس المالكية والأشعرية معا في عصره، فهو تلميذ أمثال الأصيلي والباقلاني وأبي ذر وابن أبي زيد القيـرواني وأبي الحسن القابسي وغيـرهم من كبار علماء المغرب والمشرق، وكان وراء هجرته من بلده فاس إلى القيـروان موقفه من ولاة الأمر من بني أبي العافية المكناسييـن ومغراوة وبني يفرن وما أحدثوا من «البدع والمظالم والمغارم وأخذهم أموال الناس بغيـر حق»[49]...
وعبد الله بن ياسيـن عندما استجاب للأمر، بادر إلى فعل ما يمكن فعله، لكنه لم يتحمل في الأخيـر ما لقي من القوم من الأذى، فلم يلبت أن تـركهم بعد ما ضاق بهم ذرعا ورأى من إعراضهم واتباعهم أهواءهم، ما لم يعد معه أمل فيهم، فرحل عنهم إلى بلاد السودان، التي كان أهلها قد دخلوا في الإسلام في حديث يطول… انتهى باستشهاد عبد الله بن ياسيـن في إحدى معاركه مع البـرغواطييـن بالمغرب الأقصى بعد أن وطأ لقيام الدولة المرابطية حتى اعتبـر مؤسسها الحقيقي، ليتحمل الأمانة من بعده أبو بكر بن عمر اللمتوني (تـ 480هـ) وهو ابن عم يوسف بن تاشفيـن، فيعود إلى الصحراء ومعه فقيه مغربي آخر هو أبو بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي[50] (ت489هـ)، فأتم ما بدأه عبد الله بن ياسيـن في الصحراء، قبل أن يصيـر الأمر إلى أميـر المسلميـن يوسف بن تاشفيـن ليكمل ما بدأه أسلافه من تمهيد شمال إفريقيا انطلاقاً من المغرب الأقصى. وبذلك أصبح المرابطون يبسطون نفوذهم على إمبـراطورية متـرامية الأطراف قوية مُوحَّدة تمتد أُفُقياً من الحدود المصرية إلى البحر المحيط، وعَمُودياً من بلاد الأندلس إلى حدود النيجر ونهر السنغال جنوباً، وستمتد مملكة المغرب على عهد الموحديـن من طرابلس المغرب إلى سوس الأقصى من بلاد المصامدة وأكثر جزيـرة الأندلس قال عبد الواحد المراكشي معقبا: «وهذه مملكة لم أعلمها انتظمت لأحد قبله، منذ اختلت دولة بني أمية».[51]
نعم ستعرف بداية العهد الموحدي، امتحان فقهاء المالكية من خلفاء الموحديـن، وحربا رسمية اتخذت أشكالا مختلفة، منها محاصرة الفقهاء وإبعادهم وإحراق كتبهم، بل والتخلص منهم جسديا إذا اقتضى الأمر ذلك، وفي هذا الصدد يقول صاحب تاريخ قضاة الأندلس عن نهاية الإماميـن القاضييـن أبي بكر يـن العربي وأبي الفضل عياض:
«فجرت عليهما محن وأصابتهما فتـن، ومات كل منهما مغربا عن أوطانه، محمولا عليه من سلطانه، وقال بعضهم: سُمَّ ابن العربي، وخُنِقَ اليَحْصُبِي».[52]
وقد سجل صاحب المعجب مما شاهده عيانا على عهد يعقوب المنصور (تـ 580هـ) من ذلك، فقدم عن ذلك صورة معبـرة عما وقع كقوله: «وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب المذهب، بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله ﷺ والقرآن، ففعل ذلك فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، وكتاب التهذيب للبـرادعي وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها، لقد شهدت منها وأنا يومئذ بمديـنة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار». [53]
ويضيف المراكشي «وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث، وهذا المقصد بعيـنه كان مقصد أبيه وجَدِّه إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب هذا».[54]
لكن سرعان ما ستنتهي الحملة على المالكية، ويـرفع عنهم الحصار رسميا على عهد المامون الموحدي (تـ 630هـ) مما سيعيد المياه إلى مجاريها والأمور إلى نصابها، ويعطي للمذهب قوة ومناعة، ونهضة جديدة وانتشارا أكبـر.
ولا نجتاز هذه المرحلة من التاريخ المشتـرك، دون أن نشيـر إلى أنه رغم كل الظروف فإن هذه العلاقات المغربية الإفريقية، ظلت حميمية، ولعل مما يتـرجم عمق تلكم الروابط، هذه اللقطة الأدبية الجميلة، لأحد الشعراء الأفارقة، وما تحمله من معاني وعواطف إزاء أميـر المومنيـن يعقوب المنصور الموحدي، إنه الشاعر أبو إسحاق إبـراهيم بن يعقوب الكانمي[55]، الذي أنشده حيـن دخل عليه مادحا:
أزال حجـابه عنِّي وعَـيْـنِي تـراه من المَهَاَبَةِ في حِجَابِ وقـَرَّبَنـي تَـفَضُّـلُـه ولكـن بَعُدْتُ مَهَابَةً عند اقْتِرابـي[56]
فإذا انتقلنا إلى عهد الدولة المريـنية فسنجدهم تـربطهم ببلاد السودان علاقات متيـنة، تجلت فيما كان من ود وتهاد بيـن ملك مالي، وأميـر المومنيـن أبي الحسن المريـني، مما تعكسه قصة الهدية التي بعثها إلى ملك مالي بعدما أوفد هو الآخر من جهته رجالا لمخاطبة السلطان، تحدث عنها الناصري في الاستقصا بإسهاب نجتـزئ من ذلك قوله: «اعلم أن أرض السودان المجاورة للمغرب تشتمل على ممالك منها مملكة غانة، ومنها مملكة كاغو ومنها مملكة بـرنو وغيـر ذلك، وكان ملك مالي هو السلطان منسى موسى بن أبي بكر من أعظم ملوك السودان في عصره، ولما استولى السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط وغلب بني زيان على ملكهم عظم قدره وطال ذكره وشاعت أخباره في الآفاق، فسما هذا السلطان وهو منسى موسى إلى مخاطبة السلطان أبي الحسن، وكان مجاورا لمملكة المغرب على نحو مائة مرحلة في القفر، فأوفد عليه جماعة من أهل مملكته مع تـرجمان من الملثميـن المجاوريـن لبلادهم من صنهاجة[57]، فوفدوا على السلطان أبي الحسن في سبيل التهنئة بالظفر فأكرم وفادتهم وأحسن مثواهم ومنقلبهم، ونزع إلى مذهبه في الفخر فانتخب طرفا من متاع المغرب وماعونه وشيئا من ذخيـرة داره وأسنى الهدية، وعيـن رجالا من أهل دولته كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن أبي مديـن ومولاه عنبـر الخصي، فأوفدهم بها على ملك مالي منسى سليمان… فأحسن مبـرتهم وأعظم موصلهم وأكرم وفادتهم ومنقلبهم، وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظمون السلطان أبا الحسن ويوجبون حقه ويؤدون طاعته ويذكرون من خضوع مرسلهم وقيامه بحق السلطان أبي الحسن واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به».[58]
ولابن بطوطة عن مديـنة مالي وسلطانها وعلمائها وعادات أهلها، أحاديث طويلة الذيل، متنوعة الأخبار، طريفة التعاليق والانطباعات نقتبس منها قوله: «وسلطان مالي هو السلطان منسي سليمان، ومنسى معناه: السلطان وسليمان: اسمه و هو ملك بخيل…صنع طعاما بـرسم عزاء مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب حضرت معهم فأتوا بالربعات وخُتِم القرآن ودعوا لمولانا أبي الحسن رحمه الله ودعوا لمنسى سليمان»[59]
وقوله: «حضرت بمالي عيدي الأضحى والفطر، فخرج الناس إلى المصلى، وهو بمقربة من قصر السلطان، وعليهم الثياب الحسان، وركب السلطان وعلى رأسه الطيلسان، والسودان لا يلبسون الطيلسان إلا في العيد، ما عدا القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم يلبسونه في سائر الأيام»..[60]، ثم ذكر أنه إذا خرج السلطان إلى المصلى وقضيت الصلاة والخطبة «نزل الخطيب وقعد بيـن يدي السلطان وتكلم بكلام كثيـر، وهنالك رجل بيده رمح يبيـن للناس بلسانهم كلام الخطيب»… [61]
وسيتكرر ذلك الود المشار إليه من قبل ويستمر في العلاقات المغربية ببلاد السودان، زمن أميـر المومنيـن أبي سالم المريـني والسلطان منسى زاطة، خَلَف منسى سليمان، الذي هيأ لسلطان المغرب هدية، تحدث عنها الناصري بتفصيل بعنوان: «وفادة السودان من أهل مالي على السلطان أبي سالم، وإغرابهم في هديتهم بالزرافة الحيوان المعروف».[62]أما في العهد السعدي فلا يختلف اثنان في وضع العلامة أحمد باب التنبكتي (تـ963- 1036هـ) في طليعة العلماء الذيـن ساهموا في تعميق العلاقات العلمية والروحية بيـن المغرب وبيـن السودان عامة (الغربي والأوسط(، وبيـن مالي بشكل أخص كما سيأتي في مناسبات شتى.
وعلى غرار ما سلف ظلت العلاقات الإفريقية على عهد الدولة العلوية الشريفة حميمية قوية وفية للتاريخ والمصيـر المشتـركيـن؛ حيث سنجد -على سبيل المثال- المولى إسماعيل يجعل عامله على الصحراء مسؤولا أمامه مباشرة بعد أن كان تابعا للخليفة السلطاني في سجلماسة.
ومن مظاهر عمق العلاقة الروحية بيـن المغرب وبلاد إفريقيا ما جاء في تـرجمة الفقيه السيد أحمد الشواف بن حبيب الله الوتيدي (تـ 1140هـ) أنه أخبـر في ودان بموت أميـر المومنيـن مولاي إسماعيل وأرخوه فوجدوه توفي في ذلك اليوم[63].
وعندما لحق المولى إسماعيل بالرفيق الأعلى، بايع أهل توات المولى عبد الملك قبل أن يتـراجعوا عن ذلك، لما بلغتهم بيعة أهل فاس وكل أهل المغرب لأخيه المولى عبد الله، فبايعوه بدورهم وجمعوا كالعادة هدايا لرفعها إلى الأميـر الجديد وبعثوها مع وفدهم لهذه الغاية[64].
ثم إن هذه العلاقات المغربية الإفريقية عرفت في العقود الأخيـرة العديد من المبادرات التي ربطت الحاضر بالماضي فلم يتـردد أميـر المؤمنيـن محمد بن يوسف (محمد الخامس) رحمه الله، وهو ملك في المنفى بأنتسيـرابي بمدغشقر جنوب شرقي قارة أفريقيا، في أن يجلس للمومنيـن يفسر لهم آيات الذكر الحكيم ويفقههم في الديـن، كما لم يتأخر رحمه الله بعد استقلال بلاده المغرب في الدعوة إلى أول مؤتمر للقمة الإفريقية، واحتضانه بمديـنة الدار البيضاء قبيل وفاته رحمه الله أيام 16-19 رجب 1380هـ الموافق 04-07 يـنايـر 1961م، ومما جاء في خطاب جلالته بمناسبة افتتاح مؤتمر القمة: «لقد كان بودنا أن يكون نطاق هذا المؤتمر أوسع، فتشتـرك فيه جميع الدول الإفريقية، لأن معركة إفريقيا واحدة، ومصيـرها واحد، ومطامح شعوبها وأهدافها مطامح وأهداف مشتـركة بيـنها جميعا» [65].
وعلى عهد أميـر المؤمنيـن الحسن الثاني رحمه الله تم بتعليمات من جلالته إنشاء معهد الدراسات الإفريقية، سنة 1987م مؤسسة تابعة لجامعة محمد الخامس السويسي بالرباط، كما تم إحداث رابطة علماء المغرب والسيـنغال عام 1408هـ – 1988م وكان مركزها بالرباط عاصمة المملكة المغربية.
أما في عهد أميـر المؤمنيـن جلالة الملك محمد السادس نصره الله، فحدث عن البحر ولا حرج كما يقال، حيث توالت المبادرات وتعددت الإنجازات بشكل لم يسبق له نظيـر، وتكفي في مجال الصلات العلمية الإشارة إلى إحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي نصب جلالة الملك محمد السادس نصره الله مجلسها الأعلى بفاس في شهر رمضان 1437 هـ – يونيو 2016م.
المحور الثالث: أهم عوامل ووسائل دخول المذهب المالكي إلى إفريقيا
سيـنصب الحديث – هنا – عن أهم قنوات التواصل، التي دخل عبـرها ومن خلالها المذهب المالكي من المغرب إلى إفريقيا، وذلك على النحو التالي:
أولا – القوافل التجارية: من أشهر الطرق التجارية، التي عن طريقها انتشر الإسلام في إفريقيا عبـر المغرب
– الطريق الذي كان يمتد من مصر عبـر بـرقة إلى المغرب، ومنه إلى مصب نهر السنغال.
– طرق القوافل التي كانت تمتد من بلاد المغرب الأقصى إلى بلاد السودان.
ويظهر أن القوافل التجارية، بدأت تجتاز الصحراء منذ منتصف القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي، قبل أن يتحدث عنها الجغرافيون بنصف قرن على الأقل، وهذا مما يؤكد وجود الإسلام بالمنطقة منذ عهد مبكر.
في هذا السياق يشيـر الأستاذ محمد زنيبـر رحمه الله، إلى أن معرفة وجود الذهب بالسودان الغربي، ورد ذكره في مصدر عربي هو كتاب الفلكي الفزاري (المتوفى حوالي سنة 180هـ – 796م) الذي كان الخليفة أبو جعفر المنصور كلفه بتأليفه استنادا إلى كتاب في الموضوع تلقاه من الهند، والإشارة إلى وجود الذهب بالمنطقة موجودة عند ابن عبد الحكم في كتابه «فتوح إفريقية».[66]
وذكر صاحب كتاب رياض النفوس في تـرجمة الفقيه البهلول بن راشد (تـ 183هـ) أحد تلامذة الإمام مالك بالغرب الإسلامي، أن أبا الحجاج سكن بن سعيد الصائغ[67] قال: «كنت أعمل السلاسل من نحاس، وأطليها بماء الذهب الذي يجعل في اللجم، وأبعث بها تباع في بلد السودان، فوقع في قلبي منها شيء، فسألت البهلول بن راشد، فقال: ما عندي بها علم، ولكن اذهب إلى ابن فروخ الفارسي وانظر الجواب وأخبـرني، فذهبت إلى ابن فروخ فسألته فقال: أهؤلاء الذيـن تبعث إليهم السلاسل معاهدون؟ قلت:
نعم، فقال: ما أرى هذا، وهذا غش»… [68].
ولم تقتصر هذه التجارة على الرقيق أو الذهب أو العاج، أو الملح أو العنبـر أو المواد الغذائية والأفاويه أو الألبسة والعطور أو غيـر ذلك، مما تحدثت عنه المصادر بتفصيل، بل كانت إلى جانب ذلك أسواق رائجة للكتب التي تأتي من بلاد المغرب، فاقت في أرباحها كل التوقعات.
ويذكر الوزان في وصف إفريقيا أنه كان يباع في تنبكتو الكثيـر من الكتب المخطوطة، التي تأتي من بلاد البـربـر، ويجنى من هذا البيع ربح يفوق كل بقية السلع.[69]
وانسجاما مع مبادئهم وقناعاتهم الديـنية، أبطل المرابطون على التجار الضرائب والمكوس واحتفظوا بالزكاة والأعشار وأخماس الغنائم والجزية، وسعوا في كل الظروف إلى تأميـن الحركة التجارية ودفعها [70].
وكانت مديـنة أغمات كما سبقت الإشارة إلى ذلك منذ وقت مبكر، عاصمة للتجارة وكان أهلها هوارة من المتبـربـريـن بالمجاورة أملياء تجار مياسيـر – على حد تعبيـر المراكشي في الإعلام – يدخلون إلى بلاد السودان بأعداد الجمال الحاملة لقناطيـر الأموال من مختلف السلع، ولم يكن في دولة الملثميـن أحد أكثر منهم أموالا و لا أوسع منهم أحوالا… [71]وعلى نفس المنوال استمرت العلاقات المغربية السودانية على عهد الموحديـن في المجال التجاري كما يستفاد من مثل هذا النص الذي نقله المقري في نفح الطيب عن السرخسي في رحلته عندما التقى بأبي الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المومن بن علي وكان حيـنها يلي مديـنة سجلماسة وأعمالها حيث ذكر أن من كلامه في جواب رسالة إلى ملك السودان بغانة يـنكر عليه تعويق التجار: «نحن نتجاور بالإحسان وإن تخالفنا في الأديان، ونتفق على السيـرة المرضية، ونتألف على الرفق بالرعية، ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة، والجور لا تعانيه إلاّ النفوس الشريـرة الجاهلة. فقد بلغنا احتباس مساكيـن التجار، ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده، وتـردد الجلاّبة إلى البلد مفيد لسكانها، ومعيـن على التمكن من استيطانها، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهتنا من أهل تلك الناحية، لكن لا نستصوب فعله، ولا يـنبغي لنا أن ننهى عن خلق ونأتي مثله والسلام».[72]
ويذكر الوزان أن أهل بلدة كبيـرة من مملكة جنة – غيـنيا – يسكنها الملك والفقهاء والعلماء والباعة والوجهاء من الناس… كانوا ذوي هندام جيد جدا ويضعون لثاما كبيـرا من القطن أسود وأزرق يتغطون به حتى رأسهم، ولكن الفقهاء والعلماء يلبسونه أبيض اللون.[73] وعدد ابن بطوطة جملة من أفعال السودان الحسنة فذكر منها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة، والتبكيـر لصلاتها حتى إن من تأخر لم يجد أيـن يصلي لكثرة الزحام[74].
ومعلوم أن أهل المغرب اتخذوا اللباس الأبيض شعارا للدولة «اللباس التقليدي» وللمناسبات الديـنية والوطنية، تقليدا لإمام المذهب مالك بن أنس، وكان يـرى أنه يستحب لأهل العلم أن يكون لباسهم أبيض.[75]
ومن عناية ملوك المغرب بالقوافل التجارية ورعايتهم لها، رسالة أميـر المومنيـن المولى عبد الله بن مولاي إسماعيل، إلى عمال الجنوب المغربي إلى نهر السيـنغال ضمنها تعليماته إليهم وكانت ثلاث قوافل تتجه كل عام من فاس إلى مراكش وتارودانت والصحراء والسودان تقدر قيمة حمولتها بثلاثة إلى أربعة ملاييـن وتمر في العودة على التوارق وشنجيط وتافيلالت[76].
ثانيا – الرحلات إلى الحج وطلب العلم
تم الجمع بيـنهما– هنا – لأنهما طالما ارتبطا بسبب ما كان يتهدد الراحليـن -في تلك العهود – من مخاطر من قبل اللصوص وقطاع الطرق، ومن تعسف بعض الولاة… [77]. وكان من أهم ثمار هذه الازدواجية بيـن أداء الحج وطلب العلم، التمهيد لقيام دولة بأكملها، كما حدث بالنسبة ليحيى بن إبـراهيم الكدالي حيـن التقى عقب قفوله من الحج بالفقيه المالكي المبـرز أبي عمران الفاسي بالقيـروان وحضر دروسه كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. لهذا نتناول هذه الرحلات كالآتي:
ثالثا – الرحلات إلى الحج
استجابة لداعي السماء، ورغبة في أداء فريضة الحج[78]،وتطلعا إلى تلكم الربوع المقدسة، التي هي مهد الإسلام وقبلة المسلميـن، حيث يوجد بيت الله الحرام، ومثوى سيد الأنام ﷺ، مع ما في ذلك من منافع مختلفة، كان للحج في تلك الأزمنة دور كبيـر في ربط البلاد الإفريقية بعضها ببعض، وتعميق أواصر الأخوة والمحبة بيـنها، كما تشهد لذلك كثيـر من كتب التـراجم والرحلات، وتقدم الملوك والعلماء تلك الرحلات الميمونة المباركة.
والقوافل إلى الحج وإن كانت قديمة قدم الإسلام في هذه البلاد، إلا أن تنظيمها بإحكام يبدو أنه تأخر إلى حدود القرن السادس أو السابع الهجري، حيث سنجد أولى المبادرات لتنظيّم ركب الحج بالمغرب تتم استجابة لدعوة من أبي محمد صالح الماجري[79] (تـ631هـ). ونظم ملوك وسلاطيـن الممالك الإسلامية في إفريقيا قوافل الحج ومواكبه السنوية إلى البقاع المقدسة بالشكل الذي تحدثت عنه كتب التاريخ والتـراجم والرحلات.
يذكر ابن بطوطة في رحلته أنه لما كان في إيولاتن في طريقه إلى مالي، فكر في أن يسافر مع حجاجها، ثم تـراجع بعد أن ظهر له أن يتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم، فبقي هناك نحو خمسيـن يوما في ضيافة أهلها، منهم قاضي ولاته محمد بن عبد الله بن يـنومر، كان «من الفقهاء الحجاج» وأخوه الفقيه المدرس يحيى.[80] ولما وصل إلى مديـنة مالي لقي القاضي بها عبد الرحمن من السودان، وصفه بأنه: «حاج فاضل له مكارم أخلاق».[81]وقال العمري في سياق أحداث عام 724هـ، إنه قدم فيه للحج ملك التكرور موسى بن أبي بكر في جمع كثيـر ووصف الملك المذكور بأنه فقيه مالكي،[82] وفي صبح الأعشى أن أخَ موس بهذا وخلَفه منسا سليمان بن أبي بكر «جلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه وتفقه في الدين».83]
وفي أنس الساري والسارب لأبي عبد الله القيسي الشهيـر بالسراج الملقب بابن مليح (كان حيا عام 1045هـ) معلومات جد مفيدة عن رحلته إلى الحج، انطلاقا من مديـنة مراكش ضمن الركب الحجازي، حيث تحدث عن مراحل الرحلة من مديـنة مراكش إلى المديـنة النبوية، وذكر فيها أشياء مهمة كتعاطي البيع والشراء، والالتقاء بالركب الفاسي في الطريق والوقوف على مشهد الشيخ خليل المالكي… وصولا إلى المديـنة والوقوف على قبـر إمام المذهب مالك بن أنس، كما ذكر الالتقاء بالركب التونسي بالإضافة إلى كلام على مخاطر الطريق وصعوبتها.
يقول الأستاذ محمد الفاسي في تقديم الكتاب: «تعتبـر هذه الرحلة فريدة من نوعها؛ لأن صاحبها قصد الحجاز على طريق الصحراء مختـرقا بلاد درعة وتوات وتديكلت في أيام الوليد السعدي سنة( 1040هـ – 1630م) وهو يصف المراحل التي قطعها في الصحراء المغربية إلى أن وصل الفزان ثم تابع السيـر قاطعا البلاد الطرابلسية إلى أن دخل القطر المصري، ولا شك أن قوافل الحجاج كانت تتبع هذه الطريق قبل القرن العاشر ولكن لم تصلنا رحلة واحدة تحدثنا عن البلاد الصحراوية وتـرسم لنا بهذه الدقة المنازل والعيون والمناهل»… [84].
رابعا – الرحلات العلمية
تفيد كتب التـراجم والطبقات والتاريخ والرحلات، أنه كان لكثيـر من العلماء المغاربة أثر حميد في نشر المذهب المالكي عن طريق الرحلة أو الهجرة، وقد قامت عدة رحلات عبـر التاريخ بيـن المغرب وبلاد السودان لطلب العلم أو التدريس وكان من هؤلاء العلماء على سبيل الذكر:
جساس الزاهد: من أهل سجلماسة كانت له رحلة إلى المشرق، قال ابن الفرسي: كتب إليـنا عبد الرحمن بن خلف التجيبي الثغري يخبـرنا أنه سمع منه كتاب: الزهد ليمن بن رزق بمجريط[85].
وفي رحلة ابن بطوطة (تـ 779هـ) ذِكْر لعدد من العلماء والقضاة والأئمة والطلبة، منهم القاضي أبو العباس لدكالي[86]، والإمام الفقيه محمد الفيلالي،[87] ومحمد بن الفقيه الجزولي وصهره عبد الواحد المقرئ، وعلي الزودي المراكشي من الطلبة [88]ممن كانوا بتنبكتو يُدَرِّسون أو يَدْرُسون ويتقاضون من الملك رواتب حسنة،[89] ولعل من التجار: محمد بن عمر من مكناسة والحاج محمد الوجدي التازي.[90].
ومن العلماء الجامعيـن بيـن الحقيقة والشريعة الذيـن رحلوا من بلادهم المغرب إلى بلاد السودان، الشيخ الفقيه محمد بن عبد الكريم المغيلي (ق 10هـ)، «كان له ستة مماليك من السودان كلهم يحفظون مدونة البـرادعي عن ظواهر قلوبهم وكلهم فقهاء[91]، وكان قد هاجر إلى الصحراء، واستقر ببلاد توات ونشر العلم هنالك وبلغت دعوته إلى بلاد السودان، فأسلم على يده أهل عمل سلطان تنبكتو وحسن إسلامهم»، وقيل: «أسلم على يده السلطان المذكور نفسه[92]، توفي المغيلي ببلاد توات وكان له عقب هنالك»[93]، وفي رسالته الجوابية على أسئلة السلطان أسكيا ما يعكس الدور الكبيـر الذي قام به العلماء في تثبيت الثوابت الديـنية وتـرسيخها في النفوس، كقوله فيما يتعلق بالعقيدة رافضا تكفيـر الناس: «لا يُكَفَّرُ أحد بذنب من أهل القبلة»، وكاستشهاده في المسائل الفقهية بأقوال أئمة المذهب كابن القاسم و ابن رشد و أبي القاسم البـرزلي، وتوسله في الدعاء بجاه سيدنا محمد ﷺ.
وفي أخبار السلطان منسا، أنه صحب معه عند عودته من الحج فيمن اصطحب، العالم الفقيه عبد الرحمن التميمي الحجازي، الذي سكن تنبكت، فوجدها تغص بالفقهاء السودانييـن، الذيـن لم يستطع مجاراتهم في الفقه المالكي، فلم يكن أمامه إلا أن يـرحل إلى مديـنة فاس، ليتفقه هناك ثم يعود ثانية إلى تنبكت، فتوطن بها حتى توفي وهو جد القاضي حبيب.[94]
وبعث منسا موسى، عددا من طلبة مالي إلى المراكز الثقافية بالمغرب، حتى قال أحدالمتتبعيـن في هذا الصدد: «إذا كانت طريق التقوى والورع تنتهي بالسودانييـن إلى مكة المكرمة، فإن طريق العلم كانت تنتهي بهم إلى فاس».
ومما يَرِدُ في هذا السياق في حق مديـنة فاس كعاصمة للفقه المالكي، ما حكاه العلامة الشيخ الفاضل بن عاشور رحمه الله، من أن صديقا له رأى أن يزيـن مكتبته بوضع لوحات وصور على أجنحتها، حسب العلوم والفنون التي تحتويها، وبعد أن وضع البسملة على جناح التفسيـر، والروضة الشريفة على جناح الحديث، لجأ إلى الشيخ الفاضل يطلب منه رأيه في الصورة المناسبة لجناح الفقه المالكي.
يقول العلامة ابن عاشور: «قلت له أنا آتيك بها، مفاجأة وهدية ودادية رمزية، لتكون اشتـراكا لجهد مقل في تكويـن مكتبتك الجميلة هذه. وذهبت أبحث عن صور ممثلة للمعاني الروحانية السامية التي