بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

فهم القرآن الحكيم - التفسير الواضح حسب ترتيب النزول للدكتور محمد عابد الجابري

تاريخ نشر المقال 08-05-24 01:05:30

    بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة : يأتي هذا البحث انسجاما مع موضوع عناية المغاربة بتفسير القرآن الكريم ،و تجاوبا مع ما جد في العصر الحاضر من تفاسير على اختلاف أنواعها ومشاربها و مناهجها، كان من آخرها التفسير حسب ترتيب النزول ، و كان من آخر المؤلفات فيه و أكثرها إثارة للجدل كتاب " فهم القرآن الحكيم – التفسير الواضح حسب ترتيب النزول للفيلسوف المغربي الشهير الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله
هذا الموضوع سيتم تناوله في هذا الموجز من خلال تمهيد ومحورين: أولهما عن تفسيرِ القرآن حسب ترتيب أسباب النزول عامة ، و ثانيهما عن كتاب فهم القرآن الحكيم لمحمد عابد الجابري على وجه الخصوص وخاتمة ينتهي بها البحث
ذهب كثير من العلماء قديما وحديثاK إلى القول بأن القرآن الكريم لما كان قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، فإن العرب لم تحتج إلى كبير عناء لفهمه بل اعترفوا بتفوقه في البلاغة والبيان ولم يسألوا في عمومهم عن معانيه
دون أن يتعارض ذلك مع كون بعض الصحابة توقفوا في كلمات من القرآن لم يفهموها وأن بعضهم جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن آية أو آيات لم يدركوا معانيها فكان التفسير النبوي أول تفسير للقرآن العظيم و لم يكن شاملا لكل القرآن وإنما لما كان الناس في عصره في حاجة ماسة إلى معرفته وقيل لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى بين القرآن كاملا كما ذكر الشيخ ابن تيمية رحمه الله والله أعلم
المحور الأول
تفسير القرآن حسب ترتيب أسباب النزول
ومواقف العلماء منه
لا شك أنه كان وراء الحاجة إلى تفسير القرآن أنه لم ينزل دفعة واحدة وإنما كان نزوله في نحو ثلاثة وعشرين عاما... و كان نزوله في تقدم بعض أجزائه و تأخر البعض الآخر على ترتيب معروف يختلف عن ترتيبه التعبدي (ترتيب التلاوة) ... وكلا الترتيبين راجع إلى الوحي إلا أن أولهما مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة و ثانيهما و هو ترتيب التلاوة التعبدي باق لأنه في ذات الكلام يدركه كل واقف عليه و تال له من الأجيال المتعاقبة بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن كما ذكر العلامة الفاضل بن عاشور رحمه الله
وظلت ظاهرة احترام ترتيب التلاوة مطردة في التفاسير القديمة وفي معظم المؤلفات في علوم القرآن بما فيها كتب أسباب النزول
ثم ظهر في العقود الأخيرة تفسير حديث حسب ترتيب النزول لم يعرفه القدماء مع اعترافهم بأهمية أسباب النزول في فهم الذكر الحكيم، وهم بعد إجماعهم على أن ترتيب الآيات في السور توقيفي، اختلفوا في ترتيب السور في المصحف: فريق قال هو باجتهاد من الصحابة وهم الجمهور وفريق قال هو توقيفي و وهو ما اختاره العالم المغربي محمد بن عبد السلام الدرعي رحمه الله {ت 1239 هـ } في كتابه :" الدر النفيس في تفسير القرآن بالتنكيس" فمال إلى القول بأن الذي ينشرح إليه الصدر هو ما ذهب إليه البيهقي : و هو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال " ... " فترتيب السور توقيفي لا اجتهادي خلافا لجماعة وعليه الإجماع
المستشرقون وترتيب القرآن حسب ترتيب النزول
اهتم المستشرقون بترتيب سور القرآن، وفق نزوله، وكان رائد هذا التوجه المستشرق الألماني المعروف ثيودور نولدِكِه {1836 - 1930 م} - صاحب أكبر كتاب أوروبي ألف عن القرآن - المصحف ... أخذ ترتيب السور عن كتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي من رجال القرن الخامس ..."كما تأثر بترتيب المستشرق ويل { ت } حيث اعتبر عمله نقطة الانطلاق في محاولة الترتيب وأخذ منها، وعلى كثير من أسسها بنى دراسته التي تأثر به كثيرون ممن قاموا بترجمات للقرآن الكريم مرتبة حسب تاريخ النـزول
منهم المستشرق الإنجليزي جون .ميدوز. رودويل {1808 - 1900م } الذي ترجم القرآن الكريم إلى الأنجليزية سنة 1861م في محاولة أولى لنشر القرآن الكريم على الترتيب التاريخي للتنزيل
وعلى هذا الأساس رتب فيما بعد المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير { 1900 - 1972 م } ترجمته القرآن الكريم إلى الفرنسية سنة 1950، حسب ترتيب النزول. لكنه لم يلبت أن أعادها بعد سبع سنوات ورتبها بحسب ترتيب المصحف المعروف لأنه رأى عدم صواب طريقته الأولى
وهذا الترتيب الذي تراجع عنه هذا المستشرق الفرنسي هو ما نادى به بعضهم بالنسبة للمصحف أولا ثم هو ما أقبل عليه بعض المفسرين المسلمين في تفسير كتاب الله ثانيا كما سيأتي
بالنسبة لترتيب المصحف كتب في مصر شخص اسمه يوسف راشد رسالة بعنوان : " رتبوا القرآن الكريم كما أنزله الله " داعيا فيها المسلمين إلى ترتيب سور القرآن على حسب نزولها ابتداء من سورة العلق ثم القلم ثم المزمل ثم المدثر ثم الفاتحة وهكذا حتى يختم بسورة النصر
ويقول الكاتب في توجيه هذا الاقتراح: إن ترتيب القرآن في وضعه الحالي يبلبل الأفكار، ويضيع الفائدة المطلوبة من نزول القرآن؛ لأنه يخالف منهج التدرج التشريعي، الذي روعي في النزول، ويفسد نظام التسلسل الطبيعي للفكرة؛ لأن القارئ إذا تنقل من سورة مكية إلى سورة مدنية، اصطدم صدمة عنيفة، وانتقل بدون تمهيدٍ إلى جوٍّ غريب عن الجو الذي كان فيه ..."

لكن والحال ما كان عليه في مرحلة التجديد في تفسير القرآن التي ظهرت من بدايات القرن العشرين فقد وجدنا إشارات وجهودا واضحة محددة في هذا المجال.
أما بالنسبة للتفسير حسب النزول فنجد إشارات إليه عند مفسر كسيد قطب " في ظلال القرآن " الذي يقول إنه سار فيه في التفسير، وفق ترتيب المصحف لا وفق ترتيب النزول . لكنه في الوقت ذاته يذكر في الهامش أن منهجه في كتابه "مشاهد القيامة في القرآن" ان يعرض هذه المشاهد وفق ترتيب النزول للسور، إلا أنه آثر في ظلال القرآن اتباع منهج التفسير، حسب ترتيب المصحف العثماني ...
وهذا التوجه، يدخل ضمن إحساس، ظهر لدى عدد من العلماء بضرورة التجديد، في مناهج التفسير، كالاهتمام بالجانب الاجتماعي في القرآن الكريم لدى الشيخ محمد عبده ومدرسته و التفسير العلمي لدى الطنطاوي جوهري والتفسير الموضوعي الذي يرى الشيخ أمين الخولي أن تفسير القرآن سورا وأجزاء لا يمكن من الفهم الدقيق والإدراك الصحيح لمعانيه و أغراضه إلا إن وقف المفسر عند الموضوع ليستكمله في القرآن ويستقصيه إحصاء فيرد أوله على آخره ويفهم لاحقه بسابقه" ... " فجملة القول أن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع لم يلزمها مطلقا وقد ترك الترتيب الزمني لظهور الآيات لم يحتفظ به أبدا وقد فرق الحديث عن الشيء الواحد و الموضوع الواحد في سياقات متعددة ومقامات مختلفة طهرت في ظروف مختلفة ، وذلك كله يقضي في وضوح بأن يفسر القرآن موضوعا وموضوعا و أن تجمع آيه الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستفيضا و يعرف ترتيبها الزمني و مناسباتها و ملابساتها الحافة بها ثم ينظر فيما بعد ذلك لتفسر و تفهم فيكون ذلك التفسير أهدى للمعنى و أوثق في تحديده ، وليس تفسير القرآن سورة سورة إلا تعرضا مفرقا لموضوعات مختلفة تنتظمها السورة الواحدة ..."
ضمن هذا الإحساس بضرورة التجديد في مناهج التفسير، وارتباطا بالإرهاصات الأولى للتفسير على ترتيب النزول، ظهرت تفاسير في هذا اللون، من أهمها فيما هو مطبوع :
1 -تفسير"بيان المعاني" للشيخ عبد القادر ملا حويش{1880 – 1979م} من علماء العراق درس في سوريا . رتب تفسيره المذكور حسب النزول وطبعه سنة 1964 م في ستة مجلدات
2 -" التفسير الحديث"لمحمد عزة بن عبد الهادي دَرْوَزَة { 1887 - 1984م} سوري من أصل فلسطيني ، صدر تفسيره هذا سنة 1963م في 12 جزءاً
- أعيد طبعه بدار الغرب في عشرة مجلدات.
3- تفسير"مَعارجِ التفكُّر ودقائقِ التدبُّر للشيخ السوري كذلك عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني{ 1345 هـ = 1927م / 1425 ه = ـ 2004م} طبع في 15 مجلداً و لم يكمله
4 –"فهم القرآن الحكيم – التفسير الواضح حسب ترتيب النزول للدكتور محمد عابد الجابري {1936 - 2010 م } سيأتي الحديث عنه بتفصيل
5–" تفسير القرآن المرتب منهج لليسر التربوي " للدكتور أسعد أحمد علي { ولد سنة1937 } أديب سوري معروف له
6 - نظرات في الهُدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور التسع الأولى حسب ترتيب النزول للعالم المغربي الدكتور الشاهد البوشيخي {ولد سنة 1945م} صدر عن دار السلام للطباعة والنشر و التوزيع و الترجمة سنة 2020م في جزء واحد
كان أول كتاب يعرف طريقه إلى المطبعة من هذه المصنفات هو كتاب " التفسير الحديث " لمحمد عزة دروزة ويذكر صاحبه أنه توقف قبل إخراجه للناس، حتى استفتى عالمين من علماء سوري،ا هما الشيخ أبو اليسر عابدين مفتي سوريا - إذ ذاك - والشيخ المعروف عبد الفتاح أبو غدة ، في حكم تفسير القرآن مرتبا حسب النزول، والفرق بين الترتيب في المصحف من أجل التلاوة. والترتيب في التفسير.
فكان جواب الأول :"أن التأليف و التصنيف تابع لأغراض المؤلفين ، حسبما يعرض لهم من أشكال لإظهار الفوائد التي يطلعون عليها ، وليس التفسير بقرآن يتلى حتى يراعى فيه ترتيب الآيات و السور ... و لا مانع من تأليف تفسير على الشكل المذكور ، و الله أعلم "
أما جواب الثاني فكان أكثر تفصيلا نقتطف منه لطوله ما يلي : " إن شبهة المنع لهذه الطريقة آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف اليوم من الترتيب المجمع عليه والمتواتر إلى الأمة نقلُه جيلا بعد جيل. ودفع هذه الشبهة أن المنع يثبت فيما لو كان هذا الصنيع مسلوكا من أجل أن يكون هذا الترتيب «مصحفا» للتلاوة ...
ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أجلّة من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تآليفهم، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليهم ما صنعوا، ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276 من الهجرة، فقد مشى في تفسير ما فسره في كتابه المطبوع «تأويل مشكل القرآن» على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلو الآن، ويبدو هذا جليا فيه ب ص 240- 339، ...
على أن القول بالمنع تبعا لهذه النظرة الضيقة، ينبغي أن يشمل ما سلكه الشيخ جلال الدين المحلّي ثم جلال الدين السيوطي في تفسيرهما المعروف بتفسير الجلالين، إذ قد بدأ الأول بالتفسير من آخر القرآن الكريم وهو صاعدا إلى سورة الكهف، ثم مات فأتم الجلال السيوطي من حيث وقف سلفه إلى أول القرآن الكريم ... ثم إن المنع إنما يتجه القول به لدى قائله إذا كان ترتيب السور توقيفيا لا دخل للاجتهاد فيه، ولكن السيوطي رحمه الله تعالى قد حكى في كتابه «الإتقان» عن جمهور العلماء أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة، وليس هو بتوقيف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول ...
والملاحظ أن هذا اللون من التفسير، لم ينتشر في البلاد العربية والإسلامية بل في كل بلاد العالم، و إنما ظهر في سوريا و العراق أولا، ثم في المغرب ثانيا وهو شيء يستدعي تتبع الظاهرة ، و معرفة أسباب عدم الإقبال عليها في مصر أو السعودية على سبيل المثال ...
جدوى التفسير حسب ترتيب النزول
يزعم المفسرون للقرآن على هذا الترتيب أن له فوائد كثيرة
قال محمد عزة دروزة عن جدوى هذه الطريقة في التفسير:
إنها تفيد القارئ في تتبع سور التنزيل القرآني مرحلة فمرحلة، والاستشعار بجو هذه السور، حيث يكون هذا الترتيب أدعى إلى تفهم القرآن وحكمة التنزيل، كما أنه يتسق مع المنهج الذي أعتقده الأفضل لفهم القرآن وخدمته".
مع ما في ذلك من- التجاوب مع رغبة الشباب المتذمرين من الأسلوب التقليدي في التفسير وانتشالهم من التيارات الإلحادية المتحللة من القيم والأخلاق والتقليد الأعمى لكل تافه سخيف مخل بالدين والخلق والمروءة و في هذا المنهج تسهيل فهم القرآن. ومتابعة السيرة النبوية زمناً بعد زمن. وكذلك متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدق..
1- تجنب ما وقع فيه المفسرون من التكرار بما أدى لضخامة تفاسيرهم.
2- تجنب الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
3- تعريف القارئ كيفية نزول القرآن وتوقيفه على أسباب نزوله.
- تحقيق تسلسل البناء المعرفي التكاملي.
- تحقيق تسلسل التكامل التربوي.
- كشف هذا المنهج عن أمور جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين وحركة المعالجات التربوية الربانية الشاملة للرسول .
هذه الأشياء سنؤجل التعليق عليها إلى الخاتمة بعد أن نكون قد تعرفنا على رأي الدكتور الجابري في الموضوع
المحور الثاني - فهم القرآن الحكيم
التفسير الواضح حسب ترتيب النزول لمحمد عابد الجابري
كانت أول إطلالة لمحمد عابد الجابري رحمه الله على القراء كمؤلف من خلال كتابه :" دروس في الفلسفة لطلاب الباكلوريا المغربية"بالاشتراك مع الأستاذين أحمد السطاتي و مصطفى الأزموري، وهو الكتاب الذي اعتمدناعليه في امتحان الباكلوريا في ذلك العهد، على الرغم من موقف أستاذنا الذي لم يكن راضيا على عمل الجابري وصاحبيه ، بل كان كثير الانتقاد له، ووصفه بأنه مجرد ترجمة من لغة إلى أخرى، دون فهم أو استيعاب ، ولم يكن ذلكم الأستاذ سوى العالم اليوسفي المعروف، الأستاذ محمد بن رحال نوفل رحمه الله
لكن هذه البداية المتواضعة للجابري، سرعان ما تلتها انطلاقة قوية، وتطور كبير في مسار حياته الفكرية، وبشكل سريع ، اتسم في عمومه بقدرة فائقة على الاستيعاب والنقد والتوليد، خدمة لمشروعه الفكري الذي أصبحت له مع الأيام ملامحه الخاصة، ومكانته المرموقة ، حتى اعتبر أضخم مشروع فكري في الوطن العربي ...
بدأ الجابري الكتابة في التراث بمقالات تنتمي إلى عالم الفلسفة ،دون تصور سابق، وهو ما تم جمعه فيما بعد في كتاب " نحن و التراث- 1980 م" ومنه استوحى فكرة تأليف كتاب تال له في "نقد العقل العربي" الذي رأى بعد طبعه هو الآخر ،ضرورة جعله في جزأين الأول في "التكوين " و الثاني في "البنية "ولم يكد ينتهي من ذلك حتى وجد موضوع " العقل السياسي العربي" يستفزه ، وبينما هو منهمك في مراجعته الأخيرة ، وقفت الأخلاق أمام ناظريه كما قال " منادية أليست الأخلاق جزءا من السياسة في الفلسفة ؟ ألم يكن" تدبير النفس " مرتبطا بـ "تدبير المدينة " فكان كتاب " العقل الأخلاقي العربي " مستهل سنة2001 الذي قال: إنه انتهى منه وهو في شبه نشوة ...
مشروع الجابري الثاني
على غرار توالد وتناسل الأجزاء الأربعة لكتاب الجابري " نقد العقل العربي "تكرر نفس الشيء مع" المدخل إلى القرآن الكريم" الذي استدعى جزءا ثانيا له في "فهم القرآن "
و أعتقد أن الطريق إلى فهم كتاب تفسير لجابري، و إدراك مراميه بشكل أدق، يقتضي المرور عبر كتابه الأول مدخل إلى القرآن الكريم، الذي يمثل مرحلة تحول في مسيرته الفكرية، وبداية مشروع ثان، ما كان له حسب قوله أن يخوض فيه، لو لم يكن قد قدم المشروع السابق الذي كان عبارة عن إطلالة على الثقافة العربية في مجملها و في تطورها، فقد كان لابد من مخزون فكري ثقافي حتى يتسنى له الكتابة عن القرآن
كان الجابري قد وعد في المدخل إلى القرآن الكريم - الجزء الأول أن الجزء الثاني بعده سيكون موضوعه في "فهم القرآن " و سيقتصر فيه على جملة موضوعات في القرآن " لكنه أحس فيما بعد بأن ذلك لن يرقى إلى مستوى الرؤى والآفاق التي طرحها الكتاب الأول ، ويعزو تعميق هذا الشعور لديه إلى كلام وجيز ولكنه عميق جدا – حسب تعبيره - قرأه للإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات وهو قوله :" المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي ، وكذلك المكي بعضه مع بعض والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل ، وإلا لم يصح " و هو تعليل يوحي بأن الرجل وجد نفسه في لحظة من اللحظات في موقف حرج، يصعب الخروج منه، فبدا يبحث عن طريق آخر يدعم توجهه ويقوي موقفه فأضاف إلى عنوان " فهم القرآن الحكيم " الذي كان ينوي إطلاقه على الجزء الثاني عنوانا مكملا هو " التفسير الواضح حسب النزول "
وإذا كان من حق أي إنسان في أن يفهم القرآن لنفسه ... " فإن الأمر يختلف تماما، إذا اختلط فهم القرآن بتفسيره، فيتصور البعض أن إباحة فهمه لكل الناس تعني إباحة تفسيره للناس دون قيد أو شرط" على حد تعبير أستاذنا الراحلة الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء رحمها الله في الرد على الدكتور مصطفي محمود رحمه الله في تفسيره العصري للقرآن الكريم
مع العلم " أن الشخص الذي يفسر نصا يلون هذا النص بتفسيره له وفهمه إياه... أما حين يصير التفسير عقليا اجتهاديا، فإن هذا التلوين الشخصي يبدو أوضح و أجلى على حد تعبير شيخ أستاذتنا وزوجها الشيخ أمين الخولي رحمه الله
فإلى أي حد يصدق هذا الكلام على الدكتور الجابري في تفسيره؟ وهو الذي ذكر أنه تعلم في صغره من أساتذته، أن البديهة قد تنفع في أشياء، لكنها لا تنفع لا في مجال التفسير و لا في مجال الحديث النبوي، فالحركة فيهما أصعب من " المشي على البيض " و أنه عندما يبدأ الكتابة يكون كمن يلعب الشطرنج لكنه في الوقت ذاته، كان يؤمن - وقد امتلك الكثير من المؤهلات العلمية للقيام بهذا العمل- بأن الباب مفتوح على مصراعيه فيما يتعلق بفهم القرآن، يعني تفسيرَه وتأويلَه أمام كل من يأنس من نفسه القدرة على ذلك، من حيث الكفاءة اللغوية والاطلاع على تاريخ نزول القرآن، أعني الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول الخ مما هو مفصل فيما يعرف بـ " علوم القرآن " و القرآن مفتوح بأسلوبه البياني لأنواع من التفسير والتأويل، و هناك فعلا أنواع كثيرة من هذا و ذاك "
ثم إلى أي حد تحلى بالموضوعية في عمله و هو القائل : " الموضوعية دائما هي شرط البحث العلمي ، الموضوعية تعني عدم الانسياق مع الميولات الشخصية الذاتية .
بالنسبة لي و لو أنني في بيئة سنية، أو من أهل السنة، أو لنقل إنه يصعب علي أن أكون شيعيا أو خارجيا ، فإنني مع ذلك أتعامل مع ما قاله الشيعة و ما قاله الخوارج، بكيفية أكون فيه محايدا، أي لا يدخل انتمائي الديني أو الأيديولوجي في فهمي للنص القرآني ، وبالتالي فأنا أتعامل بموضوعية "
وهذه إحدى مظاهر خطورة تفسير الجابري، الذي لم يتورع في أن يعيد إثارة قضايا مرفوضة أساسا عند أهل السنة، ويحيي نقاشا لا يزيد الطين إلا بلة...
و إذا كان لم يفصح في كتابه "نحن و التراث" عن موقع القرآن من التراث، وإذا كان المتتبّع لنصوص الكتاب المذكور - كما قال أحد الباحثين - ستأخذه إلى أن المؤلف يعدّ النص القرآني جزءًا من المنظومة التراثية، تجاهلاً منه لأي حديث عن القرآن وماهيته وطبيعته"، فإن الجابري خرج بعد مرحلة "نحن والتراث " سنة 1980م من ذلك الصمت القديم إلى الإفصاح عن موقفه " الجديد" ليقول في أكثر من مرة، بأن القرآن ليس جزءا من التراث، من ذلك ما جاء في حوار له مع أساتذة جامعة البحرين، نشرته جريدة الأيام البحرينية بتاريخ : 07/11/1992 حيث قال بصريح العبارة :" أنا شخصيا أحب أن أصر على التمييز بين النص القرآني والحديث الصحيح ،و بين ما نسميه تراثا، فالتراث الذي برز بشكل علمي مقنن في ميدان اللغة أو الأدب أو البلاغة إلخ، جميع هذا النتاج قد قام ونشأ بصورة أو أخرى حول محور واحد هو النص القرآني والسنة النبوية، هذا تراث وهو ما خلفه أجدادنا من أنواع الفهم للقرآن والسنة ، القرآن ككتاب منزل عندنا نحن كمسلمين ليس تراثا بل كتاب مقدس من عند الله تعالى ..."
نعم لقد دخل الجابري مجال التفسير بموقفه القديم من التراث، حيث قال في بداية اشتغاله بالموضوع: إن كتب التفسير " في الجملة يكرر بعضها بعضا، يمكن الاستغناء عن كثير منها، و الاقتصار على المؤلفات المؤسسة "لكنه لم يسعه فيما بعد إلا أن يرجع إلى مختلف التفاسير مستعينا بالحاسوب و ما يرتبط به من مكونات ووسائل تمكن مستعملها من الجولة في الكتب بسهولة ... فكانت النتيجة كما قال أن خرج " من مصاحبة جميع التفاسير المتوفرة ككتب على الورق أو كنصوص على الإنترنت بنتيجة عامة وهامة ..."
و إذا كانت غاية هذا البحث هي الحديث عن هذا اللون الجديد من التفسير الذي اخترنا تفسير الجابري نموذجا له، فإن الخوض فيما عدا ذلك يحتاج إلى كثير من التأمل و التأني، لأن الرجل أفرغ فيه كل ما أوتي من معرفة و فهم، و هو في الوقت ذاته كما قال عن نفسه : عندما أبدأ الكتابة أكون كمن يلعب الشطرنج أحرص على عدم ترك أي فجوة يمكن أن تجعلني أخسر " فلهذا لا بد من الاحتياط في قراءة هذا التفسير، و التجند له بما يوازي جهده في تأليفه بكل إيجابياته وسلبياته
أسباب اختيار الجابري لهذا التوجه
كان الجابري مقتنعا تماما بأن الترتيب الموجود في المصحف هو الأنسب لدولة الإسلام.. زكما قال: " المفسرون القدماء ومنذ عهد الصحابة كانوا يبدؤون القرآن من البقرةن وفيها آيات هي من آخر ما نزل، لأن الدولة كانت تحتاج إلى قرآن التشريع، أكثر من حاجتها إلى قرآن الدعوة، الذي طبع المرحلة المكية، والذي كان موجها كله تقريبا إلى قريش"
"ارتأيت أن الطريق إلى معرفة القرآن هو التعامل معه على أساس ترتيب النزول لسوره - أما المفسرون - كلهم تقريبا - حتى الكبار منهم فقد انساقوا في تفاسيرهم مع ترتيب المصحف ، فيبدؤون من البقرة - بعد الفاتحة - ليفسروا ما تلاها في المصحف ، هذا بينما واقع الحال أن البقرة هي تتويج للقرآن ، ولهذا قال "بلاشير " الذي قام بترجمة القرآن إلى الفرنسية " نحن نقرأ القرآن مقلوبا " نبدأ من آخر ما نزل ..." " والغرض - حسب قوله - من هذه القراءة التاريخية هو محاولة إقامة تطابق بين نزول القرآن والسيرة النبوية ، لأن حياة الرسول والقرآن متساوقان "" وهذا يستدعي البيان و التعليق في نفس الآن والجابري ليس أول من حاول تفسير القرآن حسب ترتيب النزول كما زعم بل سبقه آخرون أشار منهم إلى واحد وقال إنه لم يأت بجديد وقد تقدمت الإشارة إلى المؤلفين في هذا اللون من التفسير في المحور الأول.
هذا فيما يتعلق بجانب البيان، أما فيما يتصل بالتعليق فقد أبان الجابري منذ بداية اشتغاله بهد الموضوع ، عن تتبع لمواقف المستشرقين من القرآن الكريم وتأثره بهم في كثير من الأمور، و اطلاعه على أعمالهم، على الرغم من نفيه أحيانا لذلك لأنه غالبا ما ينتهي إلى رأيهم
في هذا السياق يرى الدكتور محمد عمارة أن هذه الفكرة التي ابتدعها الجابري، إنما سبقه إليها العديد من المستشرقين، أمثال "فيشير" (18َ65-1949) و"بريتسل (1893-1941) وغيرهما، لكنها باءت بالفشل، كما يقول المستشرق الانجليزي "مونتمجمري وات (1909-2006) والذي قضى عمرا طويلا في الدراسة والبحث واستنتج ما يلي : " وإذا لم يكن محمد هو الذي رتب القرآن بناء على وحي نزل عليه، فمن الصعب أن نتصور أن يقوم بهذا العمل زيد بن ثابت أو أي مسلم آخر"
مدخل إلى القرآن وهو ذات العنوان » الذي سبق واتخذه المستشرق الفرنسي بلاشير لكتابه عن القرآن «.
و كلام الدكتور عمارة على صحته بشكل عام، لا يخلو من تحامل مقصود لأن الجابري، لم يكن مبتدع هذا اللون من التفسير، كما سبق بيان ذلك في المحور الأول من هذا البحث بل سبقه آخرون
و عن طريقة تناوله للتفسير : يقول : " و هكذا وزعنا مادة " التفسير " في كل سورة إلى ثلاثة أقسام : تقديم و هوامش و تعليق
و يبدو الجابري متناقضا مع نفسه بين قوله مرة :" القرآن ليس كتاب تاريخ، ولا يهتم بالحوادث في تسلسلها عبر الزمن البشري فزمان القرآن زمان خاص" وقوله مرة أخرى :"القرآن كتاب تاريخي وللتعامل معه لابد من فكر تاريخي متتبع لتطور الثقافة العربية خصوصا الجانب الكلامي و الفقهي "
و كلامه في هذه النقطة يتطلب تتبع الفكرة في تراث الجابري، لأنه كمن كان يخفي شيئا، فهو عندما يتحدث عن : القرآن بوصفه معاصرا لنفسه و معاصرا لنا ... يضيف قائلا : هذا طموح، و نحن نعتقد أنه مشروع، ويبقى مع ذلك تأسيسه من الناحية المنهجية"
وجعل القرآن معاصرا لنفسه، يعني عند الجابري اتباع ترتيب النزول " كل آية فيه، إلا ولها علاقة بالواقع أي أنني - يقول- "لا أفسر آية من القرآن بحادثة جرت اليوم أو أمس ، بل بما جرى زمن نزوله، و حسب ما كان يفهمه الناس منه في ذلك الوقت وهذا يجعله معاصرا لنفسه ..." لكن أسلوب العرض وطريقة التبليغ والأسئلة التي نطرحها نحن وأشياء أخرى، مما يشغل عقولنا يجعل القرآن معاصرا لنا ، يجعلنا ندرس أو نقرأ شيئا ليس غريبا عنا، و لا نجد أنفسنا غرباء عنه "
وعن العلاقة بين عبارتي :"تاريخية النص " وأسباب النزول " يقول إن بينهما من وشائج القربى، ما يسمح باستعمالهما معا في نفس المعنى، وبعبارة أخرى : إن استعمال الواحدة منهما دون الأخرى لا يعني بالضرورة القيام باختيار استراتيجي يخدم قضية الحداثة، أو يزكي مقابلها الذي قد نعبر عنه بالأصالة أو بالسلفية أو بما أشبه ذلك" و يقول:"إذا عدنا الآن إلى عبارة " تاريخية النص" – والمقصود القرآن – و أردنا أن نحدد معناها على ما سبق، نجد أنها تنطبق عليها جميع المعاني التي ذكرنا :
1 – فمن جهة القرآن نص تاريخي، بمعنى أنه وجد وجودا حقيقيا في زمن و مكان ..."
2- و من جهة ثانية القرآن الكريم تاريخي بمعنيين : بمعنى أنه ينتمي إلى الماضي ، ولكنه في المقابل تاريخي ، بمعنى أنه كان حدثا تاريخيا ، أسس المستقبل فجعل تاريخ العرب ،ثم تاريخ العالم، ينقسم إلى ما قبل ظهور الإسلام، وما بعد قيامه وفتوحاته ...
و هو ينعت القرآن المكي بقرآن الدعوة و القرآن المدني بقرآن الدولة ...
إن مشروع الجابري الثاني كان مرحلة تحول حقيقي في حياة وفكر الجابري حالفه الصواب في أشياء، و خالفه في أخرى، و لو كتب الله له العيش بعدها لتراجع عنها، ومن هنا يمكن القول بأن هذا العمل في حاجة إلى من يتولى مراجعته من أهل العلم والنزاهة، من يبرز ما فيه من فهم صائب ، و يعلق على ما فيه من سوء فهم، كما صنع أسلافنا مع تفاسير كثيرة دون أن ينبذوها جانبا لأصبح نموذجا متميزا في تفسير القرآن الكريم حسب ترتيب النزول و الله أعلم و إن كنا نرى أن الأفضل لهذا اللون من التفسير لو أعيد ترتيب مؤلفاته إلى ترتيب المصحف لأنها لم تحقق شيئا مما بشر به أصحابها ، فلا الشباب أقبلوا على تفاسيرهم ، و لا استغنى الناس عن كتب السيرة، بل شجع بعض الشباب الباحثين على استخراج الآيات مرتبة حسب النزول، فأحدثوا شرخا كبيرا في ترتيب المصحف، و حققوا من الإساءة إلى كتاب الله، ما عجز عن تحقيقه المستشرقون، إلى أشياء أخرى لا يتسع المجال لذكرها