بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

مراكش العالمة - 1

تاريخ نشر المقال 20-01-24 08:45:07

    مقدمة
بمناسبة مرور ألف عام على تأسيس مدينة مراكش ، وتزامنا مع ذلك و تجاوبا معه ، راودتني فكرة المشاركة في الاحتفاء بذلك بكتابة سلسلة من الأحاديث التي قد تتناسل و تتحول إلى عمل كبير خصوصا بما يمكن أن تتعزز به من إضافات الأصدقاء و تعليقاتهم ، مع العلم أن الحديث عن هذه الحاضرة الكبيرة ، لا يقف عند حد معين، ولا يمكن في الوقت ذاتهن حصره في مجال واحد بالذات، ولا في عدة مجالات ...
ولما كان الجانب الغائب من أحاديث الناس عن مراكش ، هو الجانب العلمي، فقد بات من المتعين، رفع الحجاب عن هذا الجانب المهم من تاريخ هذه المدينة الألفية الشامخة، و الذي هو في نهاية المطاف، جزء من التاريخ العلمي العام للمغرب، كما أشار إلى ذلك العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله في كلمته التقديمية لكتابه "سوس العالمة " :
" في المغرب حواضر وبواد و تاريخه العلمي العام، لا يمكن أن يتكون تكونا تاما إلا من التواريخ الخاصة لكل حاضرة من تلك الحواضر، و لكل بادية من البوادي..."
يضاف إلى ذلك ما تتميز به مدينة مراكش في التاريخ الإسلامي، من كونها - أولا - عاصمة الغرب الإسلامي، و ما تنفرد به - ثانيا - من اعتبارها إحدى عواصم الخلافة السبع ، الشيء الذي لا يمكن معه ، إلا أن تكون دار حضارة وعلم، يلتقي فيها علماء الأمة ومفكروها و مبدعوها، من مختلف الجهات من داخل بلاد الغرب الإسلامي ومن خارجها ...
من أغمات إلى مراكش
قبل تأسيس مدينة مراكش ، كانت أغمات وريكة، مقصد أهل العلم والصلاح، من مختلف الجهات، وهي مدينة صغيرة معروفة ، تربض على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا جنوب مراكش، وسط قبيلة أوريكة عند قدم جبال الأطلس ، نزح إليها عدد كبير من الأندلسيين ، أوائل القرن الثالث الهجري ، بعد فرارهم من فتنة الربض بقرطبة ، على عهد الحكم الأموي (الربضي) ،كما نزح إليها عدد من القيروانيين ، وكان رباطها المعروف إذ ذاك ، المقر الأول لزعماء المرابطين ، والمركز الهام للعلماء و الصالحين ، يقصدونه من سائر أنحاء الشمال الإفريقي ... و كانت على عهد الدولة الإدريسية مقر إقامة الأمير عبد الله بن إدريس الثاني النائب عن شقيقه السلطان محمد بن إدريس .
ذكر الحافظ أبو طاهر السلفي {ت576هـ} من علمائها أبا علي المتيجي - بتشديد التاء – من فقهاء أغمات وأنه إلى فتاويه يرجع سلطان المغرب ابن تاشفين لدينه، كما ترجم التادلي في التشوف لبعض علمائها من تلامذة أبي عمران الفاسي كأبي محمد عبد العزيز التونسي {ت 486 هـ}
ونتيجة لما عرفته أغمات من اكتظاظ ، بسبب الكثافة السكانية التي عرفتها عقب نزوح المرابطين إليها ، وما لحق أهلها من تضييق عليهم ، قرر الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني ، باتفاق مع قومه ، تأسيس مدينة مراكش ، مما لم يتحقق و يكتمل إلا على يد يوسف بن تاشفين ... حيث ستتوجه الأنظار صوب المدينة الحمراء ، خصوصا بعد الانتصار الباهر، الذي حققه في معركة الزلاقة الشهيرة ، وما تلا ذلك من حرص، على حماية الإسلام والمسلمين بالأندلس ، مما كانت أصداؤه تصل إلى الشرق ، فتجد تجاوبا كبيرا و تعاطفا بعيدا، عبر عنه غير واحد من العلماء الأعلام ، بما بعثوه من رسائل التهاني والتنويه ، إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ، كأبي حامد الغزالي {ت 505هـ} الذي لم يقف عند حد الكتابة إليه ، بل هم بالقدوم عليه ، قبل أن يبلغه نعيه رحمه الله ، و قد أبى القاضي العباس بن ابراهيم المراكشي إلا أن يترجمه - بسب تلك النية - في كتاب الإعلام ، وكأبي بكر الطرطوشي {ت 520 هـ}، الذي قال في إحدى فقرات كتابه إلى يوسف بن تاشفين : ... ولقد كنا في الأرض المقدسة – جبر الله مصابها – تثرى علينا أخبارك ، و ما قمت به من أداء فريضة الله تعالى ، في جهاد عدوه ، و إعزاز دينه وإعلاء كلمته ، وكان من هناك من العلماء والفقهاء وحماة الدين والعباد والزهاد والمنقطعين إلى الله تعالى ، يدعون الله سبحانه وتعالى في نصرك وتأييدك والفتح على يديك
قال أبو طاهر السلفي :" سمعت أبا العباس أحمد بن طاهر بن شيبة الفاسي بالثغر يقول :" أبو علي المتيحي - بتشديد التاء – من فقهاء أغمات و إلى فتاويه يرجع سلطان المغرب ابن تاشفين لدينه ، تركته في سنة عشرين و خمسمائة حيا ، و محمد بن شبونة من مشاهير فقهاء المغرب يشار إليه في المعرفة بمذهب مالك و هو يسكن أغمات ، خلفته بها حيا كذلك سنة عشرين "
حظ المرابطين من العلم
لم يكن لأسلاف المرابطين - قبل قيام دولتهم - علم بعلم من العلوم، و لا مذهب من المذاهب، على حد تعبير يحيى بن إبراهيم الكدالي، للفقيه أبي عمران الفاسي {ت 430هـ} في اجتيازه على مدينة القيروان، عقب عودته من البقاع المقدسة، بعد أن أدى فريضة الحج
حضر مجلس أبي عمران الذي سأله عن قبيلته و وطنه؟ فذكر له أنه من الصحراء من قبيلة كدالة، إحدى قبائل صنهاجة فقال الفقيه : ما مذهبكم ؟ فقال : ما لنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب، لأننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض تجار جهال ... لا علم عندهم وفينا أقوام يحرصون على تعلم القرآن و طلب العلم و يرغبون في التفقه في الدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلا فعسى يا سيدنا أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا ديننا الخ ...
هكذا أورد صاحب الحلل الموشية القصة، وفيها أن ذلك كان عام 440هـ و هو ما لا يصح لما تقدم من أن وفاة أبي عمران الفاسي كانت عام 430 هـ.
وأورد ابن أبي زرع في الأنيس المطرب القصة دون ربطها - هنا - بتاريخ معين، ومما جاء فيها من زيادات أن الفقيه اختبر يحيى الكدالي، وسأله عن واجبات دينه، فلم يجده يعرف منها شيئا و لا يحفظ من الكتاب والسنة حرفا، إلا أنه حريص على التعلم صحيح النية والعقيدة واليقين ، جاهل بما يصلح دينه ...
هذا هو المشهور المتداول في كتب التاريخ، لكن في ترتيب المدارك للقاضي عياض أن الأمر يتعلق بشخص آخر من كدالة، ممن كان يحب الخير يعرف بالجوهري بن سكن، مر بوكاك بن زلو اللمطي في داره التي سماها دار المرابطين منصرفا من الحج، فرغب إليه أن يوجه معه رجلا من طلبته ليعلم قومه العلم ، إذ كان الذي عندهم قليلا، و أكثرهم جاهلية ليس عند أكثرهم إلا الشهادتان ، و لا يعرف من وظائف الإسلام سواهما"
و ذكره القاضي عباس بن إبراهيم في الإعلام باسم أبي علي المتيجي عند ترجمة عبد الله بن أحمد بن خلوف الأزدي {ت 537هـ}
وجد عبد الله بن ياسين {ت 551 هـ} الذي و قع عليه الاختيار لمرافقة يحيى بن ابراهيم الكدالي لتعليم قومه دينهم: أمام جهل هؤلاء وتعنتهم من جهة ، و في مواجهة خصوم السنة من برغواطية وشيعة بجلية من جهة أخرى ... فكان بذلك أمام مهمتين صعبتين، لا مفر من القيام بهما بشكل متواز : التربية و التعليم و الجهاد من أجل وحدة الأمة وتوحيد البلاد و هو ما قام به على أحسن وجه كما سيأتي
لقد كان القوم خاصة رؤساءهم وكبراءهم، و في طليعتهم يحيى بن ابراهيم الكدالي يعيشون في فوضى لا تحدها حدود ، يتزوج الرجل منهم بتسع نسوة و بعشر ، و أكثرهم لا يصلون و لا يزكون ... فلما بدأ عبد الله بن ياسين يعلمهم الدين، ويبين لهم شرائعه وما يحل لهم و ما يحرم عليهم ، لم يتقبلوا ذلك بل ضاقوا به ذرعا ، فلما رأى إعراضهم، وتشبثهم بما كانوا عليه من بعد عن الدين ، فكر في بداية الأمر في فكرة الرحيل إلى بلاد السودان، التي كان الإسلام قد ظهر فيها ، قبل أن يقترح عليه يحيى بن ابراهيم الكدالي - بدلا من ذلك - أن يعتزلا معا القوم في بلدهم بجزيرة في البحر ، يعبدان فيها الله إلى أن يلقوه ، وهو ما استحسنه عبد الله بن ياسين، فدخلاها و دخل معهما سبعة نفر من كدالة، فكانت تلك بداية مرحلة نهضة علمية واعدة ، انطلقت بإقامة رباط بالجزيرة المذكورة، في وقت كان الرباط من أهم أماكن التربية و التعليم، خصوصا بالبوادي والمناطق البعيدة عن الحواضر الكبرى

عبد الله بن ياسين وتلامذته و تأسيس الدولة المرابطية
على الرغم من أن ما لدينا من أخبار عن المرابطين، لا يزال قليلا نسبيا كما عبر بروفنصال- متأسفا على ذلك ، فإن من شأن استنطاق النصوص المتاحة، و قراءتها بتجرد، أن يجيب عن جملة من التساؤلات، وأن يملأ - في الوقت ذاته - بعض الفراغات ...
لقد كان دور عبد الله بن ياسين الجزولي محوريا في تأسيس دولة - لمتونة - المرابطين بالمغرب، فكان كما وصفته مختلف المصادر مثال المجاهد المرابط، الورع الزاهد، الصوام القوام ، مهدي المرابطين ومقنن دولتهم ومقرر عقائدهم . و وتدها و موطدها القائم بسياستها حتى قامت على ساقها و اعتدلت" .. من أهل الدين و الفضل والتقى و الورع، و الفقه والأدب و السياسة، مشاركا في العلوم " ناشر الدين في الأصقاع الصحراوية و في السودان، و ناشر المذهب المالكي المقيم لدولة عظمى ... على حد تعبير العلامة الحجوي الثعالبي
عالم جليل، من تلامذة الفقيه وكاك بن زلوان اللمطي {ت445 هـ} دفين أكلو ، دخل الأندلس على عهد ملوك الطوائف ، و أقام بها سبع سنين، يلازم القراءة ، فحصل علما كثيرا، و عاد الى المغرب الأقصى
استطاع في وقت وجيز أن يجتمع له في رابطته من التلاميذ نحو ألف رجل، من أشراف صنهاجة، كانوا هم الرعيل الأول للأطر، التي قامت على عاتقهم دولة المرابطين، وفي طليعتهم أمراء لمتونة أمثال يحيى بن عمر اللمتون و أخيه أبي بكر و ابن عمهما يوسفبن تاشفين ، و قد سماهم عبد الله بن ياسين بالمرابطين للزومهم رابطته و لصبرهم في جهاد أعدائهم وانتصارهم عليهم
و توالت انتصارات المرابطين" برأي عبد الله بن ياسين وقيادة الأمير أبي زكريا يحيى بن عمر "أمير الحق " كما سماه عبد الله بن ياسين . - إذا تقدم بجيشه، قدم أمامه الشيخ، الذي كان في الحقيقة هو الأمير، الذي يأمر و ينهى ، و كان يقول لهم :" إنما أنا معلم دينكم "
" الكل له مطيع و سيرته في أموره بينهم و تعزيزاته معروفة و محفوظة ، يثابرعليها مشيخة المرابطين و يحفظون من فتاويه و أجوبته ما لا يعدلون عنه، و مما كان قد ألزمهم به جميعا صلاة الجماعة، و من تخلف عنها عوقب ..."
و بعد استشهاد يحيى بن عمر في جهاد ببلاد السودان قدم عبد الله بن ياسين مكانه أخاه أبا بكر بن عمر اللمتوني سنة 448هـ ، وقلده أمر الحرب فندب المرابطين الى غزو بلاد المصامدة و بلاد سوس، فخرج إليها و جعل على مقدمته ابن عمه يوسف بن تاشفين اللمتوني ...
ولم يستشهد عبد الله بن ياسين في حربه ضد برغواطة حتى استولى على سجلماسة وأعمالها و أغمات وبلاد السوس و غيرها. وقد كتبت عليه أخطاء لم يحالف فيه الصواب ضخمها خصومه و بعض المؤرخين الأجانب