بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم ، على سيدنا محمد النبي الكريم ، المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله و صحبه و التابعين ، و من سار على نهجهم القويم إلى يوم الدين
أما بعد فتتوزع الحديث عن الشباب و الفتوة ، في التراث العربي الإسلامي القديم ، شتى المصادر و المراجع ، و تجمعه - اليوم - وتتوسع فيه ، عدة مصنفات و رسائل ، بشكل مستقل قائم الذات ، لعل منها – فيما نحسب - هذا الكتاب اللطيف الطريف ، من تأليف عالم جليل و أستاذ مبرز ، عرف كيف يجمع المواد المتفرقة ، و يربط بين الخيوط الدقيقة ، فجاء العمل على الرغم من صغر حجمه ، جامعا لأطراف الموضوع ، من أبرز جوانبه و أهم قضاياه ، عبر رحلة طويلة ماتعة ، و وقفات مفيدة رائعة ، على أهم محطاته التاريخية ، ومناراته المختلفة المتميزة ...
كانت الانطلاقة من معاني الفتوة في لسان العرب ، و استعمالاتها في القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، و في التراث العربي شعره و نثره ، حيث نجد أن الفتى من الناس في كلام العرب ، هو واحد الفتيان ، و الفتاء : الشباب ، و أن هناك - في الوقت ذاته - فرقا بين الشباب والفتوة ، ومن ثم قالوا :إن الشباب ، هو من جاوز البلوغ ، والفتوة هي متوسط الشباب... و نقلوا في هذا السياق قول القتيبي : ليس الفتى بمعنى الشاب و الحدث ،إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال ، يدلك على ذلك قول الشاعر :
إن الفتى حمال كل ملمة . . . ليس الفتى بمنعم الشبان
و انتقل معنى الفتوة عند أهل الحقيقة ، إلى معاني روحية سامية فغدت " هي أن توثر الخلق على نفسك بالدنيا و الآخرة " و أصبح الفتى هو من كسر الصنم ، قال الله تعالى :{ سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } و قال سبحانه : { فجعلهم جذاذا } و صنم كل إنسان نفسه ، فمن خالف هواه، فهو فتى في الحقيقة ,,,
وعقد محيي الدين بن عربي الحاتمي ، فصلًا طويلًا في الفتوة، في كتابه الفتوحات المكية بعنوان :" معرفة مقام الفتوة و أسراره" قدمه كعادته بأبيات من الشعر فيها :
إن الفتوة ما ينفك صاحبـــــها . . . مقدما عند رب الناس و الناس
إن الفتى من له الإيثار تحلية . . . فحيث كان فمحمول على الراس
وللشبان و الفتيان في رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وفي أصحابه رضي الله عنهم من بعده ، القدوة و المثال { لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}
و قد عُرف صلى الله عليه و سلم ، بين قومه قبل البعثة وبعدها ، بالصدق والأمانة والطهر والنقاء ، الشيء الذي لفت انتباه امرأة حسيبة نسيبة ، كالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، فلم تتردد لحظة واحدة ، في أن تعرض عليه نفسها " زوجا له وأما لأولاده. كما لم تتأخر عن مساندته و تهدئة روعه ، يوم نزل عليه الوحي لأول مرة في غار حراء قائلة : "إنك لتصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق " بل إن الحق سبحانه ليصف رسوله الكريم بأنه بلغ نهاية الكمال في الأخلاق فيقول عز من قائل : {وإنك لعلى خلق عظيم }
وما كاد النبي الخاتم "يبدأ رسالته ، ويدعو إلى مبادئ الإسلام الكريمة السمحة ، حتى تجاوب معها الشباب ، بشكل فريد متميز ، في إخلاص وتفان لا مثيل لهما.
يقول أبو حمزة الخارجي واصفا أصحابه : " تقولون : إنهم شباب ، وهل كان أصحاب محمد " إلا شبابا ، شباب – والله – مكتهلون في شبابهم ، عَمِيَّة عن الشر أعينهم ، بطيئة عن الباطل أرجلهم ، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها ، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة ، كأن زفير جهنم في أذنيه ، قد أكلت الأرض جباههم وأبدانهم وركبانهم من كثرة السجود ... "
في أحضان النبوة تربى الصحابة الكرام ، فضربوا أروع الأمثال في التشبث بمنهج الحق المتعال ، وفي ظل المدرسة المحمدية ، نشأ جيل من الشباب و الفتيان ، هم خيرة الشباب و الفتيان بعد الرسل والأنبياء إلى آخر الزمان.
{محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، تعجب الزراع.}
ولا شك أن الشباب أكثر الناس عرضة للانحراف ، وإتباع الشهوات لما يطبع – عادة – هذه المرحلة من العمر ، من فورة الغرائز ، وتأجج العواطف ، مما ضاقت به أمم ، فأطلقت له العنان ، وتزمتت فيه أخرى ، فوضعت له مجموعة من القيود و الأغلال ، وبين الموقفين ، تقف تعاليم الإسلام سامقة متفردة ، تقدم للبشرية أنجع الحلول و أسلم السبل، لاستثمار طاقات الشباب و الفتيان ، و توظيفها في الخير و النماء ...
و لا عجب فالصبا جنون ، و في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند :" إن الله ليعجب من شاب لا صبوة له "
و تبعا لما حدث بعد القرون الأولى من الإسلام ، من تحولات سياسية و اجتماعية ، و ما تلاها في العصور المتأخرة ، من تغيرات في مفهوم الفتوة ، حتى كادت تعود إلى سيرتها الأولى قبل الإسلام ، من حيث أخلاق الشهامة والنجدة و الكرامة ، بعيدا عن الالتزام بأخلاق الإسلام في نبذ العصبية القبلية ، و ترك شرب الخمر، والتشبيب بالنساء واللهو و المجون و كل المحرمات ، مع اعتبار العيارة و الشطارة وقطع الطرقات من مرادفات الفتوة ، كما ظهرت جمعيات و تنظيمات حركية ، شكلت خطرا على الأمن و الاستقرار ، وتميزت في فترات من التاريخ بمظاهر و اختيارات في حياتها الخاصة ، وسلوكها الاجتماعي المختلف عن السلوك العام ...
و هي أمور لم تغب عن المؤلف ، فتتبعها في مختلف العصور و الأمصار ، في إيجابياتها و سلبياتها ، في المشرق و المغرب على حد سواء ، مقدما منها جميعها ، نماذج مختارة ، و أمثلة ناصعة ، مما نسأل الله تعالى أن ينفع به ، و يكشف عن خبايا وأسرار ، ما أحوج الناس إلى معرفتها و الاستفادة منها ، في توجيه الناشئة ، و إعدادها لتحمل مختلف المسؤوليات في المستقبل بما يخدم الأمة ، و يرقى بها إلى مصاف الأمم الراقية المتقدمة، داعين الله عز و جل لمؤلفه الأخ العلامة الأستاذ محمد البايك - عضو المجلس العلمي المحلي لمراكش - بدوام الصحة و العافية ، و اطراد العطاء السخي والإنتاج النافع ، شاكرين له ما أنفق من وقت ، في جمع شتاته ، وترتيب مواده قبل صياغته و نسج خيوطه ...
و الله و لي التوفيق
محمد عزالدين المعيار الإدريسي