يحيل عنوان هذا الكتاب منذ الوهلة الأولى ، قبل تصفحه و النظر في فهرسة موضوعاته ، إلى حقول المشكلات التي اختارها المؤلف للحديث عنها ، و هي ثلاثة : الفقه و الفلسفة والتصوف .
و على الرغم من أن أصل الكتاب ، مقالات مختلفة المواد ، مما كتبه المؤلف ونشره على فترات من الزمان ، فإنها تلتقي و تنتظم مع ذلك ، في ثلاثة أبعاد مترابطة هي : وحدة الموضوع ، والمرجعية ، و المنهج ، كما أنها تدور كلها حول الإنسان ، و تمتاح من المرجعية الإسلامية، وفق المنهجية التكاملية ، في تكامل حركي لا سكوني .
و تجسيدا لتكامل المعارف ، والوصل بين الفقه والفلسفة و التصوف ، اختار المؤلف شخصية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الحاتمي {ت638هـ} ليكون أنموذجا لذلك ، كما اختار الإمام الفقيه المجاهد ابن غازي المكناسي {ت919هـ} ليمثل أنموذج الفقيه الملتزم ، و ذلك من خلال ترجمة مقتضبة لكل واحد من الرجلين .
هذه باختصار ملامح موضوع الكتاب ، أما تفاصيله فرحلة طويلة ممتعة ، تبدأ باستشكال الصلة بين الفقه والتصوف في رؤية تكاملية ... و ما نشأ من صراع بين الفقهاء و المتصوفة في هذا الشأن و أيهم أجدر بفهم كتاب الله وسنة رسول الله ، مما أفضى عبر تاريخ البنية الإسلامية إلى موقفين : أحدهما موقف التعارض ، والآخر موقف التوافق.
فالأول تهويلي لجانبه تهويني لمقابله ، حسب التوجهين المتعارضين ، أما موقف التوافق فيقف في الوسط ليضع ميزان الاعتدال وينحو منحى التوافق بين الحقيقة و الشريعة بين الظاهــر والباطن، بين الفقه و التصوف ، فاستطاع بذلك أن يزيل شبح التضاد بين الفقه و التصوف و يحقق التكامل بينهما ، و خير من يمثل هذا الموقف حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله و بهذه المدرسة تخرج أئمة أعلام في الغرب الإسلامي ، احتل الغزالي مكانة قيمة في سندهم الصوفي ، و غرسوا في المغرب بدءا وفي المشرق بعدا التزكية الروحية والتربية الأخلاقية على حد تعبير الدكتور محمد الأمراني
و يمضي الكتاب في حديث طويل الذيل عن الإمام الغزالي و مدرسته الصوفية بالمغرب بما يضع الأعلام على الطريق و يجلي الصورة أمام القارئ بكل وضوح مما يمكن تتبعه من خلال النصوص
ثم لا يلبث البحث أن ينتقل إلى الحديث عن العلاقة بين التصوف و الفلسفة فيرجع معاني التصوف إلى معنى واحد هو صفاء النفس وتصفية القلب، بتحليته بالفضائل الشرعية وتخليته من الرذائل ، ومهما تعددت أحوال الصوفية واختلفت مقاماتهم وتنوعت أوقاتهم وتلونت طرقهم، فهم مجمعون على أن النهج المشترك بينهم والأرجح لديهم هو " نهج الحب الإلهي" . وهذا ما يجعل الممارس للتجربة الصوفية ممارسا لحكمة المحبة.
أما الفلسفة فهي كما يقول المؤلف : تجربة إنسانية عميقة تمتاز بحركية الانتقال من الشعور بالدهشة إلى التأمل الذي يؤدي بالمندهش المتأمل إلى خيبة أمل و ارتباك، إلى ليل مظلم ، إلا أن هذا الليل الفلسفي أو العمى التام – على حد تعبير سقراط - سرعان ما ينتهي بانكشاف نتعرف به على الأشياء ونستأنس بها ونتآلف معها
ثم ينتهي بنا إلى النتيجة المرضية حيث يوصف طريق التصوف بحكمة المحبة وطريق الفلسفة بمحبة الحكمة، و حيث تبدو العلاقة بين التصوف و الفلسفة علاقة تكاملية تكاملا حركيا جدليا...
بعد ذلك يقف المؤلف وقفة فصيرة مع موضوع آخر يتعلق بالـعـدل و الاعـتـدال بين السياسة الشرعية و السياسة الإصلاحية ، فينطلق من الدلالة مقررا الحقيقة التالية وهي : أن الاعتدال ينطوي تحت العدل ، وإرجاع الاعتدال إلى العدل متجذر في البنية العربية الإسلامية لغة وعقيدة وفكرا ، معقبا على ذلك ببعض التساؤلات ، منتهيا إلى أن الأهم من كل ذلك هو تساؤلنا عن " القيمة الأخلاقية " و " السياسة الأخلاقية " لكل من الاعتدال والعدل في ضوء " السياسة الشرعية " و " السياسة الإصلاحية " و يستأنف المؤلف الرحلة بحديث سلس ممتع بين سؤال أو استشكال ، و جواب أو مناقشة و تحليل ، فيتحدث بالنسبة للاعتدال عن الوسط والزهد و الورع و القناعة ، و بذلك يكون المجال الفعلي للاعتدال هو المجال المجتمعي- حسب المؤلف - لأنه المجال الذي تتحدد فيه نوعية العلاقات بين الأنا والآخر عبر وسائط حسية أو اقتصادية أو فكرية أو وجدانية ، ذاتية أو موضوعية .
و من فضيلة الاعتدال إلى فضيلة العدل أو العدالة وهي أعم من الأولى و هنا يأتي الحديث عن الوسطية و عن التلازم بين العدل و الحق و المزاوجة بين الأخلاق و السياسة مما تهد له النصوص و تؤيده الوقائع أو التطبيقات التي يمكن إرجاعها إلى نوعين :
1- عدالة المعاملات أو عدالة الحدود والحقوق
2- عدالة التوزيع
و تقودنا قراءة هذا التأليف المفيد و تتبع فصوله و مباحثه إلى موضوع آخر على جانب كبير من الأهمية و الحساسية في الوقت ذاته ويتعلق الأمر بـ " العنف وثقافة السلام : رؤية إسلامية" حيث يثير المؤلف منذ البداية رؤية الآخر إلى الإسلام و تحامله عليه و رميه بالعنف والإرهاب و هي مواقف قد يكون لبعضها ما يبرره كما أن منها ما يرجع إلى العنصرية أو الجهل أو التحامل و التجني و التدليس و التلبيس ، مما يستدعي تصحيح الرؤية ودحض الفرية و هو ما تناوله الكتاب من زاويتين :
- أولاهما : العنف عامة وفي الإسلام خاصة
- و ثانيتهما : ثقافة السلام من وجهة إسلامية.
و بعد كلام طويل في هذا الباب و تحليلات دقيقة موضوعية و بيانات واضحة جلية يبحر بنا المؤلف نحو مكانة أخلاق الإحسان في تنمية الإنسان و هو موضوع جدير بالاهتمام حري بما يبدل في تعميق الوعي به من جهد و في هذا السياق يأتي التأكيد على أن هناك عاملين يوجبان الحديث عن الأخلاق والتنمية وهما: الراهنية أو الواقعية من جهة و الاعتبارية التاريخية من جهة ثانية ، و بعد تفاصيل كثيرة في ترابط و تسلسل و مناقشات و تحليلات يصل المؤلف إلى القول عن - قناعة - بأن أخلاق الإحسان لازمة لتنمية الإنسان
و تتوالى المواضيع و ينتقل من عالم إلى آخر ، في انسجام و تكامل ، معالجا لقضايا ذات أهمية بالغة فمن مشكلة البعث والخلود ودلالتها بين البنية اليونانية والبنية الإسلامية ، إلى جدلية الاغتراب والاندماج لدى المغاربة المهاجرين لأوروبا ، إلى صحة الشخص النفسانية في البنية التبعية المعولمة:العالم العربي نموذجا، إلى نشوء مجتمع المعرفة ، إلى اللسان والفعاليات المعرفية من خلال التجربة الصوفية الإسلامية إلى الحقيقة المحمدية أو عين الرحمة من خلال التجربة الصوفية الإسلامية إلى الحب الإلهي و مدارج الكمال الإنساني لدى أبي حامد لغزالي وأخيرا في الجـلال والجمـال:رؤيـة صوفــيـة .
و كانت نهاية الرحلة و مسك الختام تقديم ترجمتين موجزتين الأولى للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الحاتمي {ت638هـ} أنموذجا أنموذجا لتكامل المعارف والوصل بين الفقه والفلسفة والتصوف و الثانية للإمام الفقيه المجاهد ابن غازي المكناسي {ت919هـ} أنموذجا للفقيه الملتزم
نسأل الله تعالى للمؤلف الكريم مزيدا من العطاء المثمر مع دوام الصحة و العافية ، التوفيق و السداد في أعماله العلمية القدمة - والله ولي التوفيق
محمد عزالدين المعيار الإدريسي