بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان ، على سيدنا محمد بن عبد الله ، و على آله وصحبه و من والاه
أما بعد فمن الأمور التي اقتضتها الظروف ، و العقود التي دعت إليها الحياة المعاصرة "التأمين" في صوره الحديثة المختلفة ، تخفيفا لطوارئ مفاجئة ، و شرور و مصائب حادثة ، يصعب دفعها أو مواجهتها من الأفراد ، دون عون أو مساعدة من المجتمع ، و الفقه الإسلامي بسماحته المعهودة ، و رحابته المعروفة ومرونته المحمودة ، حريص على النظر في كل مجالات الحياة ومشاكلها ، و معالجة كل النوازل و المستجدات صغيرها و كبيرها ، بغية الوصول إلى الرأي السديد، والحكم السليم الناجع ، تجاوبا مع الحياة ، ورعاية لمصالح الناس ، وفق روح الشريعة الإسلامية، وأهدافها النبيلة السامية ...
و لعل موضوع التأمين التعاوني أو التبادلي ، من أهم العقود الجديدة ، التي جاءت لدفع الأخطار ، بعيدا عن الأرباح أو المكاسب المادية ، كما أنه في الوقت ذاته ، اشتراك متغير وليس قسطا ثابتا ، و من ثم جاء هذا البحث ، الذي أعده الأستاذ إحسان سعد الدين في موضوع (عقد التأمين التعاوني " عقد التأمين على الحياة أنموذجا ") من الدراسات الجادة ، التي حاولت معالجة هذا الموضوع ، بكثير من التأني و التبصر ، و إبراز موقف الشريعة الغراء ، من هذا العقد الهام في الحياة القائمة ، و كذا آثاره البعيدة على الإنسان ، طيلة الحياة و بعد الممات ...
ومما يلاحظ أن الدراسات الإسلامية ، في مجال التأمين التعاوني ، لا تزال في أمس الحاجة ، إلى مزيد من العناية و الاهتمام ، وإلى تعميق البحث و إغنائه بما يجليه ، ويخلصه مما يحيط به من غبش و غموض أحيانا ، خصوصا و أنه من العقود الجديدة ، التي لم يعرفها الفقهاء من قبل ، و المؤمن بطبعه يتحرى لدينه ، ما ترتاح إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، بناء على ما تشهد له النصوص، و يقع عليه الإجماع ، مما يوصل إليه الاجتهاد ، في زمن لا يقبل التأجيل، و لا يحتمل الانتظار ...
و قد سرد الباحث جملة من الدراسات السابقة ، و الجهود المتقدمة المعتبرة ، التي عنيت بالتأمين التعاوني ، بالشكل الذي يضع البحث في سياقه العلمي و الزمني ، متتبعا تاريخ التأمين ، مند نشأته الأولى في غابر العصور ، إلى ما عرفه من تطور في القرون الأخيرة ، مسجلا كيف تأخر المسلمون في معرفة ذلك و الخضوع له ، مستعرضا في الوقت ذاته ، جملة من التعريفات ،محللا و مناقشا و معلقا ...
و إذا كان مبدأ التعاون أو التكافل الاجتماعي ، غير غريب عن الإسلام في تعاليمه و تطبيقاته ، كما يشهد لذلك مثل حديث الأشعريين ، الذين قال في حقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم"، فإن الإشكال يبقى في التأمين على الحياة، الذي لم تعرفه المجتمعات الإسلامية قديما ، بل ظل عدد من الفقهاء إلى يومنا هذا ، يعتبرونه من الحرام ، الذي على المسلم أن يتحاشاه ، لما فيه من الغرر، وأكل أموال الناس بالباطل، والتعامل بالربا .
و كلا التأمينين مما عنيت به هذه الدراسة ، متغيية إضفاء الشرعية عليه ، و الخروج بحكم شرعي واضح ، اعتمادا على معاملات شرعية ، و قياسا على عقود معلومة ، مشفوعة بجملة من الضوابط و المقترحات ...
و أنا إذ أقدم هذا العمل ، لجمهور القراء الكرام ، أتمنى أن يجدوا فيه بعض ما يفيد في بابه ، و أن يتفاعلوا معه بما يرتقي بالبحث العلمي ويسمو به ، إلى المبتغى المنشود ، الذي يرضي الله و ينفع العباد ، سائلين الله عز و جل، أن يثيب مؤلفه ، و يجزيه أحسن الجزاء ، عما بذل فيه من جهد مشكور ، و تحر في طلب الحقيقة ، وفهم النصوص ، و الله من وراء القصد .
محمد عزالدين المعيار الإدريسي