تقديم  
   بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين  ، و الصلاة  والسلام على سيدنا محمد أشرف المخلوقين  ، و على آله  وصحبه أجمعين  ، و التابعين ومن سار على نهجهم القويم إلى يوم الدين .
     أما بعد فيقف الإمام  أبو زيد السهيلي ، بين  علماء الغرب الإسلامي في القرن السادس الهجري ، قامة  شامخة  في عصر  عمالقة  كبار  ،  يطول سرد أسمائهم  ...
     لكن  على الرغم  من هذه المكانة  السامقة ، ومن  الشموخ و الرسوخ في العلم  ، فما تزال الأبحاث و الدراسات التي اهتمت به و بتراثه معدودة محدودة  ، لعل من أوعبها  هذا الكتاب ، الذي يسعد المجلس العلمي المحلي لمراكش إخراجه  ، ضمن  سلسة  كتاب المجلس  ،  ليسد فراغا طالما عانى منه الباحثون في هذا المجال . 
   و هو في الأصل بحث جامعي  تقدم به المؤلف لنيل دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية ، ثم راجعه  و نقحه و أضاف إليه  بعض ما جد في الساحة من معلومات كانت غميسة  في ذلك الوقت ...  
 و قد انصب الاهتمام في  القسم الأول من  البحث  على حياة  الإمام   فكانت البداية بالحديث عن نشأته  في بيت علم و أدب و خطابة ، كما عبر ابن قاضي شهبة ، و كيف أنه  لم يكد يبلغ السابعة عشرة من عمره حتى فقد كريمتيه ، فعاش طول حياته ضريرا ، قد ضرب بينه و بين الدنيا بحجاب 
   و يبدو أن العاهة لم تقف حائلا بين الفتى السهيلي و بين طموحه ، بل تسلح بالإيمان بقضاء الله و قدره  ، و بأن الله قادر على تحويل السلبيات إلى إيجابيات ، كما يستشف من مثل قوله :" و قد عُزم لي بعد طول مطالبة من الزمان ، و مجاذبة لأيدي الحدثان،  و أمراض همة لا تغيب، و زمانة مرض الخاطر ، فلا يهب على جميع نبذ من نتائج الفكر اقتبستها في خلس الدهر "  
  و إذا كان قد  قضى  معظم  حياته في مالقة بالأندلس ، يشكو  إلى جانب  فقد البصر من  قلة ذات اليد ، مثله في  ذلك  مثل كثير من العلماء الذين عاكسهم الحظ ،  وأهملهم الناس لإملاقهم ، فإنه لم يلبث أن ابتسم لـه الحظ ،  و وافته الفرصة لعيش كريم  ، في أخريات حياته ، في ظل سياسة  ثقافية  منفتحة يقظة ،  نهجها الخليفتان الموحديان ، يوسف وابنه يعقوب، في استقدام العلماء والأدباء من شتى الجهات ليكونوا تحت الأنظار ، حيث تم في هذا الإطار ، استدعاء السهيلي  إلى مدينة مراكش.
  ويأبى  ابن دحية إلا أن ينسب إلى نفسه، فضل التعريف بالإمام السهيلي، لدى الموحدين فيقول :" وكان ببلده يتسوغ بالعفاف و يتبلغ بالكفاف إلى أن وصلت إليه وصحح "الروض الأنف" بين يديه فطلعت به إلى حضرة مراكش ،فأوقفت الحضرة عليه فأمروا بوصوله إلى حضرتهم ، وبذلوا لـه من مراكبهم وخيلهم ونعمتهم وقوبل بمكارم الأخلاق ، وأزال الله عنه علام الإملاق"  
  و الظاهر أن ابن دحية  وغيره من تلامذة السهيلي ساهموا – جميعا- كل من  موقعه في التعريف بأستاذهم وبكتابه النفيس " الروض الأنف" وكان بعضهم مكينا عند ملوك وأمراء الموحدين كأبي سليمان بن حوط الله و أبي القاسم بن بقي ...
   وتجمع  معظم المصادر والمراجع  على أن مدة إقامة السهيلي بمدينة مراكش،  كانت في حدود  ثلاث سنوات، هي تمام العمر ونهاية الأمر، و إن كانت  كما  قال ابن دحية :" كلها أضغاث أحلام  
  و على الرغم من قصر المدة التي عاشها  السهيلي تحت سماء مراكش ،قبل أن يلحق بجوار ربه ، فقد كان له  مع ذلك ، نشاط علمي متميز.
 يقول صاحبا كتاب  أعلام مالقة :" ثم امتد به أجله وأنساه في شأو الحياة مهله، حتى تطلع في سماء مجلس أمير المومنين بدرا، وتبوأ منه بعلمه البارع محلة ووكراً ، فخلع على أهله من مُنَمنم أمداحه خِلعا وابتدع من مليح قريضه بدعا ، أصارت إليه منهم قلوبا،  وأنالت من أكفهم مأمولا و مطلوبا.." 
  و هكذا سنجد السهيلي  إلى جانب حضوره المجالس السلطانية يجلس للتدريس ،  و يتولى القضاء قبل أن يمتحن و يتعرض للإقصاء ، و هي مجالات وقف عندها البحث بما يكفي من التحصيل و البيان ... 
  و في مقابل هذا القسم يأتي القسم الثاني ، الذي اهتم بالتراث العلمي للإمام السهيلي ، وفق تعدد مجالات اهتمامه ، و تكوينه العلمي المتين ، و فهمه الثاقب الدقيق ، مع  ما أكرمه الله به من صفاء الروح و ذكاء القلب... 
  و قد تعبر عن هذه الموسوعية   من جهة أولى : مصنفاته و رسائله ما طبع منها  و ما لم يطبع  ، كما تعبر عنها من جهة ثانية :  المصادر التي ترجمته في تنوعها ، فهو مقرئ و مفسر  ومحدث و مؤرخ و فقيه و أصولي و لغوي   و نحوي  و كاتب  و شاعر ...  مما فصله هذا الكتاب  تفصيلا ، معززا بالشواهد و الأمثلة ...
   يقول  ابن الزبير الغرناطي في صلة الصلة :"كان رحمه الله واسع المعرفة غزير العلم نحويا متقدما أديبا لغويا عالما بالتفسير و صناعة الحديث حافظا للرجال   و الأنساب ، عارفا بعلم الكلام و أصول الفقه حافظا للتاريخ القديم   والحديث نبيها ذكيا صاحب اختراعات و استنباطات مستغربة و اهتداءات نبيهة و تواليف جليلة " 
  و كان أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري المالقي  ابن الفخار {ت590هـ}  أحفظ أهل زمانه  حتى قال :" ثلاثة كتب هي عندي كسورة من القرآن : كتاب " مسلم " - يعني الصحيح -  و" المقدمات" لأبي الوليد ابن رشد و " التقصي " لأبي عمر بن عبد البر   
 و لعلمه و جلال قدره  ، استجلبه المنصور الموحدي سنة 580هـ  إلى مراكش . 
قال أبو سليمان ابن حوط الله : سمعت شيخنا أبا زيد السهيلي يقول :" لما شهدت من حفظ أبي عبد الله ابن الفخار صاحبنا ما عجز عنه غيره ، و رأيته قد تقدم في ذلك ، قلت كيف أسود مع هذا ؟ فرزقني الله من الفقه ما قصر عنه و سواه و الحمد لله على ذلك كثيرا " 
  إلى حديث لا يمل ، و تناول بديع متقن ،  بأسلوب سلس متين ... 
   رحم الله مؤلف الكتاب الزميل العلامة الأديب الرقيق الدكتور محمد اليوسفي  برحمته الواسعة و أسكنه فسيح الجنان مع النبئين و الصديقين و الشهداء  الصاحين و حسن ـأولئك رفيقا