بسم الله الرحمن الرحيم
     ترددت كثيرا قبل الإقدام على كتابة هده المقدمة ، لما  يكتنف الحكم الشرعي الواضح في مسألة  الغناء و الموسيقى  من غموض  واضطراب ، ولما يجده المرء من  حيرة  وتحفظ  في الاختيار الراجح من بين مختلف الأقوال و الأحوال  ، ثم لم ألبث أن توكلت على الله  وتصديت للموضوع بما صح لدي من نصوص قطعية أو ظنية ، و ما ترجح لدي من أقوال الأئمة الأعلام الأول ، و كبار أهل العلم على مر الأعصار ، دون التفات إلى المتشددين ، ممن لا يرون في هدا الدين  الحنيف مجالا للترويح على النفس ،  فيطلقون الأحكام و لا يخصصون ، و يضعون علامات المنع في كل اتجاه ... { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } [الأعراف:32]  
   إن الحكم على الغناء و الموسيقى  بالحل  أو الحرمة   دون تقييد  ،أمر غير مسلم ، و إلا  لما اختلف فيه أهل العلم  ، و تضاربت مواقفهم منه .
 يقول  ابن جزي  رحمه  الله : " أما الغناء فروي منعه عن مالك و الشافعي و أبي حنيفة ،و منع مالك شراء الجارية المغنية ، و رأى أن الغناء فيها عيب ترد به ، و أجازه قوم مطلقا و هو مذهب أكثر المتصوفة ، وقال بعضهم إنما يحرم منه أربعة أشياء:                                                                                                                                           
 أولها: غناء امرأة لا يحل سماع صوتها .                                                                                                 
  الثاني: إن اقترن به آلة لهو كالمزامير و الأوتار و اختلف الناس في الشبابة                                                           
     الثالث : إن كان الشعر مما لا يجوز .                                                                                                     
  الرابع : إ ذا كان الغناء يحرك قلب السامع إلى ما لا ينبغي "  [القوانين الفقهية: 318 ]   
   و الظاهر أن الغناء الملتزم بضوابط الشرع ، جائز في  كثير من المناسبات ،  بشرط أن  يكون النص  سليما ، و الأداء محترما ...   
   يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله :"إن الغناء المحتشم في المناسبات جائز ،   ولكن يجب أن نتنبه إلى أن الغناء فيه نص و فيه أداء ، قد يكون النص محرما من أوله وإن لم يغن ... و لنفرض أن النص سليم ، ولكن يتم أداؤه بتثن و ميوعة  ولا دخل للغناء فيه ، إنه يخرج الغناء عن معناه و عن مضمونه و ينقله إلى الحرام حتى و إن كان قد أحل في بعض المناسبات  "[فقه الحلال و الحرام :117ـ118 ]
و يدخل فيه الصوت الجميل الرخيم ،  يدل عليه  ذم الله تعالى  للصوت القبيح ، في قوله عز من قائل :{ إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» [ لقمان 19]
  و قد أباح الإسلام في الأعياد و الأفراح و غيرها من المناسبات  الغناء و الضرب بالدف ، و رد الرسول الكريم على أبي بكر رضي الله عنه عندما اعترض على مغنية كانت تغني في بيت السيدة عائشة رضي الله عنها في يوم عيد قائلا  :"دعهما يا أبا بكر فإننا أيام عيد " 
     و كان عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها  ،  فتاة يتيمة تربيها فزوجتها لرجل من الأنصار، و حضرت عائشة زفافها ، فلما عادت قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عائشة أما كان معكم من لهو ، فإن الأنصار يعجبهم اللهو " و في رواية " فهل بعثتم جارية تضرب الدف و تغني  "  
 وبعد أن لخص القاضي أبو بكر بن العربي أهم ما قيل في تفسير "لهو الحديث"  من قوله تعالى :{ و من الناس من يشري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } [لقمان:6]  و أنها ترجع إلى ثلاثة أمور هي :   الغناء ، و الباطل ، و الطبل .                                                                                                                       عقب على  ذلك بقوله: "هده الأحاديث التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال ، لعدم ثقة ناقليها إلى من ذكر من الأعيان فيها ، و أصح ما فيه قول من قال :إنه الباطل 
 ثم ذكر أن طبل الحرب لا حرج فيه  لآنه  يقيم النفوس و يرهب على العدو  ، أما طبل اللهو فهو كالدف ، و كذلك آلات اللهو المشهرة للنكاح ، يجوز استعمالها فيه لما يحسن من الكلام           و يسلم من الرفث [أحكام القرآن:3/447 ]
  و قد سرني و أراحني أن يعالج المؤلف الفاضل  ، الباحث المقتدر الأستاذ عبد الرحمن الملحوني ، الموضوع  بكثير من الحيطة  والحذر،  ومن المراعاة  لضوابط  الشريعة  ومطالب الطبيعة ، مع التوسع و الشمول في التناول ، و هو شيء يجعلني و إياه في آخر المطاف ، طالبي حق و نجاة ، نسأل الله  تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا  لوجهه الكريم ...                                                                                                                                                     كما اعتنى المؤلف بهذا الجانب و رصد له ما استطاع من نصوص ، مما كفاني مؤونة البحث عن الدليل ، في هدا التقديم الذي لا يحتمل التطويل  ، و حشد له  جملة  من المصادر والمراجع الوازنة ، فجاء الكتاب دراسة علمية موضوعية رصينة  بشكل عام ، وإن لم تخل من بعض الانطباعات     والنظرات  الخاصة  و هي أشياء عادية  في مثل هذا العمل ، خصوصا في ظل  تجربة طويلة  في هدا المجال ، و اشتغال  دائم  بقضاياه ...  
                                                   و بالله التوفيق و هو حسبنا و نعم الوكيل      
                                                        محمد عز الدين المعيار الإدريسي