بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنام وعلى آله وصحبه الكرام والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يو الدين
أما بعد فلا يخفى ما لخطيب الجمعة في المجتمع الإسلامي عامة، والمغربي منه على وجه الخصوص، من مكانة مرموقة، واعتبار خاص ، لقيامه بمهمة إسلامية جليلة ، وأدائه لعبادة دينية عظيمة، هي الخطبة في المؤمنين، والصلاة بهم يوم الجمعة، نيابة عن الإمام الأعظم ...
يقول جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه :" ما زلنا نعتبر إمام الجمعة وخطيبها نائبا عنا بوصفنا أميرا للمومنين في هذا البلد الأمين ، يتمتع بثقتنا واحترامنا، ويحظى باعتزازنا وإكبارنا وإجلالنا، ويتفيأ وارف ظلال رعايتنا، لكونه ينوب عنا في الصلاة برعايانا وهدايتهم وإرشادهم والاهتمام بأمورهم"
ويضيف جلالته موضحا ما ينبغي أن يتحلى به الخطيب، من معرفة بأحوال المجتمع، وما يسيطر على النفوس من هواجس وهموم، ليتسنى له بذلك أن يعالج كل حالة أو مرض بما يناسبه " إن خطبة الجمعة التي تبقى معزولة عن قضايا الجماعة، خطبة خرساء، لا رجع لصداها، وكلمة بكماء، لا تتجاوز من ألقاها"
ذلك أن الخطبة فن من فنون القول ، تهدف إلى إقناع السامعين واستمالتهم والتأثير فيهم، بصواب قضية أو خطأ أخرى، وبلوغ موضع الاهتمام من عقولهم، وموضع التأثير فيهم.
وتعني في الشرع كلاما يشتمل على حمد الله عز و جل، وعلى التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والقراءة ... وتتكون من خطبتين يجلس الخطيب قبلهما وبينهما، ويلقيها من على المنبر واقفا، متكئا على عصا، كما هم مبسوط في محله.
وتعتبر أهم الخطب الدينية كلها، لتكرارها مرة من كل أسبوع في نفس اليوم ، ولأنها واجبة وشرط في صحة هذه الصلاة عل الأصح. ومن ثم كان على الخطيب أن يهتم بها غاية الاهتمام ، وأن لا يجعلها أمرا تقليديا، يسير على وثيرة واحدة، تبعث على السأم، وقد تدفع إلى الإعراض عن سماعها .
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أمرين اثنين هما :
أولا- موضوع الخطبة، و يختلف باختلاف الظروف والمناسبات، والأمكنة والأزمنة، فلا يصح أن تكون المناسبة - على سبيل المثال- حدثا دينيا أو وطنيا كالأعياد والذكريات، ثم يكون موضوع الخطبة لا صلة له بالمناسبة ... كما يجب مراعاة الجمهور فيما تعالجه الخطبة من موضوعات عامة، لأن ما يصلح أن يكون مجالا للخطبة في منطقة قروية، قد لا يكون صالحا لها في منطقة حضرية والعكس صحيح .
على أن تظل الخطبة في سائر الأحوال دينية، تعبر عن موقف الدين الصريح لا تتعداه، وأن تكيف الأحداث حسب ذلك ، وتقارن بينها وبين ما يشابهها من أحداث التاريخ الإسلامي ، خصوصا ما كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولتحقق خطبة الجمعة هدفها، وتكون فعالة هادفة ، على الخطيب ألا يشحنها بعدد من الأغراض التي تضيع وسطها الثمرة المرجوة من ورائها ، لأن الانتقال من فكرة إلى أخرى، يفوت على السامعين التركيز، فلا تحصل الفائدة المنشودة ...
ومن ثم يكون الاختيار الصائب الموفق، هو أن يفرغ الخطيب كل طاقاته في موضوع واحد، يعده بعناية فائقة، ويحكم ربط معانيه ربطا يجعل المصلين يصغون إليه بكل اهتمام ، لا يسأمون من ذلك ، حتى لو طالت الخطبة في بعض الأحيان .
مع التأكيد على أنه يستحب اختصار خطبة الجمعة ، وأن تكون قصيرة، فلا تنسى كما قال الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه :" و إذا وعظت فأوجز، فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا"
و صح أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يختصر خطبة الجمعة اختصارا " فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا" كما صح أنه قال:"إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فاطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة و إن من البيان لسحرا"
وهذا يسلمنا إلى فقه الخطيب وثقافته، وإذا كان الجانب الأول من هذا الشرط يلتقي فيه مع غيره من الأئمة، انطلاقا من أن أولى الناس بهذه المهمة أفقههم كما قال الإمام مالك مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم :"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " ولا شك أن الأقرأ من الصحابة هو الأفقه ضرورة حسب تعبير ابن رشد في البداية فإنه في الجانب الثاني يزيد على الإمام بضرورة الاتصال بالقراءة والتحصيل، يتلو كتاب الله على الدوام، ويتدبر آياته، ويقف على تفسيره وأحكامه، وينظر في السنة النبوية المطهرة، ويرجع إلى شروحها، مع التمكن من اللغة العربية وقواعدها، والإلمام بالفقه المالكي على وجه الخصوص ... وأن يستعين ويستأنس في إعداد خطبه، بدواوين الخطب المنبرية التي وضعها علماء سابقون أكثرهم من مشاهير الخطباء كالعلامة عبد الرحيم بن محمد بن نباتة قديما و الدكتور أحمد الشرباصي حديثا ...
و لعل هذا الكتاب الذي بين أيدينا و الموسوم بــ " المنبر الوافي من خطب عبد الكريم تارفي" من الدواوين الجديدة التي راعت كلها هذه الأمور، فجاءت متجاوبة مع ما ينشده الخطيب من تنوع وشمول، و إيجاز مقبول، بعبارة قوية مثيرة للعاطفة مؤثرة في الوجدان وأسلوب يجمع بين التأثير والإقناع...
وهي نتيجة طبيعية لخطيب محب لهذه المهمة الشريفة ، ممارس لها أكثر من عشرين عاما، مع المواظبة على القراءة والبحث، والاهتمام بال بما يشغل الناس، و يستولي على تفكيرهم والحريص على تعهد هذه الخطب بالمراجعة والتنقيح، قبل أن يقتنع بطبعها وتوزيعها على المهتمين لوجه الله مجانا دون مقابل ...
نفعه الله بذلك وتقبله منه صدقة جارية، وعملا صالحا...
{ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ }