بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

عبارة (أما قبل) - التاريخ و المعنى

تاريخ نشر المقال 07-08-24 05:18:52

    أما قبل فباسم الله أبتديء
أما بعد، فمن الأساليب العربية الحديثة التي تفتق عنها خيال الأديب العربي الكبير مصطفى صادق الرافعي، أو أحياها على الصحيح ، عبارة ما قبل كما صرح بذلك في أوراق الورد – رسائلها و رسائله ;حين قال: لم يقولوا في لغتنا (أما قبل) كما أقول أنا يا حبيبتي، ولم تخطر لأحد قط، ولا يصححها وجه ولا تعليل، ولكني أضعها من أجلك، وما أشك أنها ستكون عبارة معشوقة من أثرك وأثر الحب عليها: وأقولها لك ولا أرتاب في أن ألسنة المحبين سترمي بها في كل زمن مراميها عند كل حبيبة … وهي غريبة باللغة الغرابة؛ لأني صنعتها صنعة قلب لا صنعة لسان، ففيها الفن أي سر الحسن، أي حروف التصوير، أي المجلس الذي كان لنا أمس.
وكذلك ليست (أما قبل) إلا الوجه الممكن عندي لاتصالي بأمس، وانتقال قطعة كانت من وجودنا في وقت إلى وجودنا في كل وقت، وخلق ما كان من قبل خلقًا تصويريًّا في كلمة.
قالوا (أما بعدُ) وسموها فصل الخطاب وأنا أقول (أما قبل) وأسميها وصل الماضي؛ وبها نجعل لما فاتنا مما نحبه أو نؤثره لسانًا، ونعيد إليه الصوت، ونفتح له باب الساعة التي نكون فيها، ونخترع للمحبين لفظًا سحريًّا لم تستطع حواء بجنة خلد أن توحيه لآدم، و أوحيته أنت لي بمجلس حبك في لحظة!
لم أقف على ردود فعل معاصري الرافعي إزاء إبداعه هذا لا بالقبول و لا بالرفض كما لم أجد من استعمل هذه العبارة في الكتابة بعده لزمن غير يسير إلى أن ظهرت من جديد في بعض الكتابات و الإبداعات المعاصرة في نفس المجال كقول الشاعر الراحل محمود درويش:
أما بعد .. لن أحب أحدا بعدك !
أما قبل .. فأنا أساسا لم أعرف الحب إلا بك !
وفي مجالات أخرى غير المجال الذي حدده مبدعها ...
اختلفوا في أول من قال ; أما بعد إلى أقوال نظمها شمس الدين الميداني (ت 1033ه ) في البيتين التاليين:
جرى الخلف أما بعد ; من كان بادياً ** بها سبعة أقوال وداود أقرب
لفصل خطاب ثم يعقوب قسهم ** فسحبانُ أيوب فكعب فيعرب
وكان النبي عليه الصلاة والسلام ، يفتتح خطبه ورسائله بحمد لله ، والثناء عليه ، ثم يقول ; أما بعد و ما زال خطباء السلف الطيب و أهل البيان من التابعين بإحسان – على حد تعبير أبي عثمان الجاحظ – يسمون الخطبة التي لم يبتدئ صاحبها بالتحميد ويستفتح كلامه بالتحميد ; البتراء ; و يسمون التي لم توشح بالقرآن و تزين بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الشوهاء و قد أُلِّفَ و كُتِب عن ( أما بعد ) الشيء الكثير ...
أما أول من قال: أما قبل ; فكان يظن أنه الأديب العربي مصطفى صادق الرافعي في كتابه ; أوراق الورد ( لم يقولوا في لغتنا أما قبل كما أقول أنا يا حبيبتي، ولم تخطر لأحد قط، وهو ما رسخ في الأذهان أو كاد هذه الأولية ...
والحقيقة أن الاستعمال قديم، نجده عند الشيخ زروق{ت 899هـ} و إن كان استعماله هذا في أول كتابه ; مقدمة التصوف يحتاج إلى تأويل ليستقيم الكلام ولا يصبح ما حقه التقديم مؤخرا لأنه بعد أن حمد الله و أثنى عليه و بعد أن صلى وسلم على رسول الله قال : (أما قبل و مع و بعد ). ويمكن القول مبدئيا بأن في إشارته إلى أبعاد الزمان الثلاثة : الماضي ( قبل ) و الحاضر ( مع ) و المستقبل ( بعد ) ما يفيد أن ما قبلها لا يتخلف و الله أعلم وهو ما فهمه قبلنا السيد رمضان محمد بن علي البدري محقق الحكم العطائية بشرح الشيخ زروق حين قال في مقدمة الكتاب ;أما قبل كل شيء ومعه وبعده ،فليس على الحقيقة إلا الله وحده ...
وقالها قبل الشيخ زروق بنحو خمسة قرون أحمد حميد الدين الكرماني { كان حيا سنة 411هـ} أحد أعلام الإسماعلية ودعاتها يلقب بحجة العِراقَيْن ، وكان في استعماله لـ (أما قبل) ;قد راعى ما حقه التقديم، فبدأ كتابه (راحة العقل) بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم و به ثقتي أما قبل فالمنة للمنعم الذي توجهت نحوه الرغبات ، والطول للملهم الذي قصدته الأنفس بالدعوات ، إلاها سبحت له الموجودات ... والصلوات الدائمات والكرامات التتابعات، على شمس الملة ومنقذ العباد من الشرك والذلة، محمد الذي دار فلك التوحيد بدعوته، واستنارت أهلة الدين بحكمته ... ثم بعد كلام طويل ختمه بالدعاء للحاكم بأمر الله الفاطمي قال : أما بعد فللحق أعلام وللأمور نظام ...
وقد ربط الرافعي أما قبل في كتابه ;أوراق الورد بـ ( وصل الماضي ) في مجال مخصوص " لا يصححه - حسب تعبيره- وجه ولا تعليل" وكأنه كان يتوخى بذلك عدم الدخول في أي نقاش أو جدل يكدر عليه أجواء السعادة التي كان يحياها و هو يحبر هذه الرسائل التي أفاضت على وجدانه أحاسيس لم يسبق له أن عاش مثلها فالكتاب"طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الحب و الجمال أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته ، ويثبت تاريخا من تاريخه ، في فترة من العمر لم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخا و لا من بعد" على حد تعبير محمد سعيد العريان في كتابه : حياة الرافعي
و في رسائل الرافعي إلى صديقه محمد أبي ريه، إشارات تدل على هذا المعنى كقوله له و قد طلب منه صورته لتبقى تذكارا كريما لديه :" يا أبا ريه ... أفكاري الآن منصرفة عن الصورة والتصوير، وربما آخذ الرسم بعد الفراغ من أوراق الورد ، لأني شديد التعب في هذا الكتاب و الكتابة فيه عسيرة جدا..."
و يبدو أنه حين انتبه الأدباء والمتأدبون إلى عبارته في أوراق الورد " أما قبل " بعد عقود من رحيله فمنهم من تلقاها بالقبول والإعجاب و منهم تصدى لها بالرفض والنقد، لكن دون المس في كلا الحالين بشخص الرافعي، أو التقيد برأيه الذي يقول إنه لا يجوز أن تستعمل (أما قبل) إلا في الحب أو البغض، فهي خاصة بالتفات النفس للذة أو ألم، كما لا يجوز عنده أن يقال منها (وقبل) كما قالوا (وبعد) لأنها حينئذ لا تكون كلمة مخترعة، ولا تدل على أكثر من الظرفية...
الذي يعنينا من كل هذا هو ارتباط " أما قبل " بالماضي عكس " أما بعد " المتطلعة إلى الغد و كأن أسلافنا كانوا يفضلون الحديث عن المستقبل، بدل شغل أنفسهم بالماضي
وفي مقال للدكتور حسن ظاظا رحمه الله ( أحد أساتذة كلية اللغة العربية بمراكش المنسيين) إشارة إلى أن النحوي اليهودي الأندلسي مروان بن جناح القرطبي {ت 1050م } عرض في الباب الأول من كتابه اللمع لمباديء الكلام في العبرية والعربية فقسمها إلى ثلاثة أقسام : الأسماء والأفعال و الحروف ...
وقد عرض ابن جناح لهذا التقسيم في كتابه المذكور فقال : إن النحاة العرب يضعون المستقبل قبل الماضي ويقولون إنه لا يكون ماض حتى يكون مستقبل ، نقول هو يفعل فإذا أوجب فعله قلت قد فعل" ، و هذا الرأي الذي ذكر ابن جناح لنحاة العرب هو رأي ابن القوطية في كتابه الأفعال :" والفعل المستقبل قبل الماضي لأنه لم يكن ماضيا حتى كان مستقبلا تقول : هو يفعل ، فإذا أوعب فعله ، قلت : قد فعل ، و أيضا فإنهم بنوا الماضي من الأفعال المعتلة بالمستقبل فقالوا : أغريت لما قالوا: يغري، و لو كان الماضي قبل لم تكن ضرورة تضم إلى قلب الواو ياء"
لم يكن الرافعي يسعى في رسالة " أما قبل " إلى تثبيتها على حساب " أما بعد " أو مزاحمتها بها على الأقل ، وإنما كانت غايته توظيفها توظيفا استثنائيا في رسالة تريد استحضار الماضي قبل كل شيء في علاقة عاطفية يريد لها البقاء و الاستمرار وهذا الأسلوب لا يختلف في كثير عما هو شائع بين الناس قديما وحديثا كقول مدني صالح {ت 2013 م}في أول كتابه "ابن طفيل قضايا ومواقف" :" يجب أن نذكر أولا و قبل كل شيء أن ... "
و إذا كان لا يوجد ما يمنع من استعمال " أما قبل " إذا جاءت مطابقة لمقتضى الحال، فإنها تصبح على العكس من ذلك، إذا جاءت في سياقات لا تقبل الإلغاء كالبسملة و الحمدلة ونحو ذلك
قال في لسان العرب :" وقولهم في الخطابة: أما بعد، إنما يريدون أما بعد دعائي لك، فإذا قلت: أما بعد فإنك لا تضيفه إلى شئ ولكنك تجعله غاية نقيضا لقبل، وفي حديث زيد بن أرقم: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خطبهم فقال: أما بعد، تقدير الكلام: أما بعد حمد الله فكذا وكذا."
ولا شك أن مصطفى صادق الرافعي و هو حجة ي في الأدب و اللغة كان يعرف ذلك جيدا، لهذا سرعان ما تخلى عن هذه العبارة التي كان يظن أنه لم يسبق إليها، فقال في أول الرسالة الموالية من أوراق الورد بعنوان " جواب غريب :" حدثنا الصديق قال : لما بعثت إليها برسالة ( أما قبل ) لم يكن جوابها غير أن أهدت إلي كتابا مطبوعا ولم تزد أن كتبت على غلافه هذه الكلمة : " أما بعد فإليك يا صديق جواب أما قبل والسلام "
وفي هذا إشارة إلى التخلي عن "أما قبل " و العودة إلى " أما بعد " ...
إنها كلمة حنانة، فيها الحب والذكرى، وفيها من نفسي ومن اللغة ومنك، وهي غريبة باللغة الغرابة؛ لأني صنعتها صنعة قلب لا صنعة لسان، ففيها الفن أي سر الحسن، أي حروف التصوير، أي المجلس الذي كان لنا أمس.
وكذلك ليست (أما قبل) إلا الوجه الممكن عندي لاتصالي بأمس، وانتقال قطعة كانت من وجودنا في وقت إلى وجودنا في كل وقت، وخلق ما كان من قبل خلقًا تصويريًّا في كلمة.
قال سيبويه في (أما بعد): إن معناها (مهما يكن من شيء) وقال الرافعي في (أما قبل) إن معناها (لقد كان ما كان …).
وقال غيره : إذا كان معنى أما بعد : مهما يكن من شيء بعد الذي تقدم من قول وغيره ، فإنه يكون معنى أما قبل قياسا على ذلك : مهما يكن من شيء قبل هذا القول وغيره