حظ المرابطين الأُوَّل من العلم
لم يكن لأسلاف المرابطين - قبل قيام دولتهم - علم بعلم من العلوم، و لا مذهب من المذاهب، على حد تعبير يحيى بن إبراهيم الكدالي، فيما قاله للفقيه أبي عمران الفاسي {ت 430هـ} في اجتيازه على مدينة القيروان، عقب عودته من البقاع المقدسة، بعد أن أدى فريضة الحج ،وكان قد حضر مجلس أبي عمران الذي لاحظ رغبته في التعلم ، سأله عن قبيلته و وطنه؟ فذكر له أنه من الصحراء من قبيلة كدالة، إحدى قبائل صنهاجة فقال الفقيه : ما مذهبكم ؟ فقال : ما لنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب، لأننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض تجار جهال ... لا علم عندهم وفينا أقوام يحرصون على تعلم القرآن و طلب العلم و يرغبون في التفقه في الدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلا فعسى يا سيدنا أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا ديننا الخ ...
هكذا أورد القصة كل من ابن عذاري في البيان المغرب وصاحب الحلل الموشية ، وفيها أن ذلك كان عام 440هـ و هو ما لا يصح لما تقدم من أن وفاة أبي عمران الفاسي كانت عام 430 هـ.
وأورد ابن أبي زرع في الأنيس المطرب القصة دون ربطها - هنا - بتاريخ معين، ومما جاء فيها من زيادات أن الفقيه اختبر يحيى الكدالي، وسأله عن واجبات دينه، فلم يجده يعرف منها شيئا و لا يحفظ من الكتاب والسنة حرفا، إلا أنه حريص على التعلم صحيح النية والعقيدة واليقين ، جاهل بما يصلح دينه ...
هذا هو المشهور المتداول في كتب التاريخ، لكن في ترتيب المدارك للقاضي عياض أن الأمر يتعلق بشخص آخر من كدالة، ممن كان يحب الخير يعرف بالجوهري بن سكن، مر بوكاك بن زلو اللمطي في داره التي بناها بالسوس للعلم و الخير و سماها دار المرابطين منصرفا من الحج، فرغب إليه أن يوجه معه رجلا من طلبته ليعلم قومه العلم ، إذ كان الذي عندهم قليلا، و أكثرهم جاهلية ليس عند أكثرهم إلا الشهادتان ، و لا يعرف من وظائف الإسلام سواهما"
وجد عبد الله بن ياسين {ت 551 هـ} الذي و قع عليه الاختيار لمرافقة يحيى بن ابراهيم الكدالي لتعليم قومه دينهم: أمام جهل هؤلاء وتعنتهم من جهة ، وفي مواجهة خصوم السنة من خوارج (برغواطة ) وروافض ( بجلية )من جهة أخرى ... فكان بذلك أمام مهمتين صعبتين، لا مفر من القيام بهما بشكل متواز : التربية و التعليم ، و الجهاد من أجل وحدة الأمة وتوحيد البلاد و هو ما قام به على أحسن وجه كما سيأتي ...
لقد كان القوم خاصة رؤساءهم وكبراءهم، و في طليعتهم يحيى بن ابراهيم الكدالي يعيشون في فوضى لا تحدها حدود ، يتزوج الرجل منهم بتسع نسوة و بعشر ، و أكثرهم لا يصلون و لا يزكون ... فلما بدأ عبد الله بن ياسين يعلمهم الدين، ويبين لهم شرائعه وما يحل لهم و ما يحرم عليهم ، لم يتقبلوا ذلك بل ضاقوا به ذرعا ، فلما رأى إعراضهم، وتشبثهم بما كانوا عليه من بعد عن الدين ، فكر في بداية الأمر في فكرة الرحيل إلى بلاد السودان، التي كان الإسلام قد ظهر فيها ، قبل أن يقترح عليه يحيى بن ابراهيم الكدالي - بدلا من ذلك - أن يعتزلا معا القوم في بلدهم بجزيرة في البحر ، يعبدان فيها الله إلى أن يلقوه ، وهو ما استحسنه عبد الله بن ياسين، فدخلاها و دخل معهما سبعة نفر من كدالة، فكانت تلك بداية مرحلة نهضة علمية واعدة ، انطلقت بإقامة رباط بالجزيرة المذكورة، في وقت كان الرباط من أهم أماكن التربية و التعليم، خصوصا بالبوادي والمناطق البعيدة عن الحواضر الكبرى...