عصر سيادة المذهب المالكي
عن طريق المذهب المالكي تأسست الدولة المرابطية منبثقة من الصحراء بمبادرة من فقهاء كبار: من أبي عمران الفاسي الذي بعث إلى تلميذه وكاك بن زلوان ،أن يختار لأهل الصحراء من نجباء الطلبة من يعلمهم دينهم، الذي لم يتأخر في انتداب تلميذه عبد الله بن ياسين معلم المرابطين و موطد دولتهم للقيام بهذه المهمة النبيلة ...
إنها سلسلة ذهب من المشايخ الأعلام ...
و من ثم لم يكن غريبا أن تؤول - فيما بعد - مقاليد الحكم، ووظائف الدولة في عهد المرابطين الى الفقهاء ، والعلماء، ما دامت دولتهم قد قامت على إحياء الشريعة وتطبيقها في كل شيء، بحيث لم يكن أمراؤها يبرمون أمرا أو يصدرون حكما إلا بمحضر الفقهاء وإتباع ما يشيرون به كما نلمس ذلك بوضوح في سيرة يوسف بن تاشفين ... كما أن القاضي كان لا يحكم إلا بمحضر أربعة فقهاء ومشاورتهم، لا يشذ احد عن هذه القاعدة ولو كان في أصقاع ممتلكتهم الواسعة ... مما صح معه القول بأن هذا العصر هو عصر الفقهاء الذهبي ... وبالأحرى تكون مملكة المرابطين تعج بالفقهاء الواقفين عند حدود الله الملتزمين مذهب الإمام مالك وعقيدة أهل سنة ، لا يحيدون عنها قيد أنملة ..
مع العلم أن صلة المغاربة بالمذهب المالكي بدأت في مجال ضيق من خلال إمارة نكور ثم اتسعت الرقعة لتشمل كل بلاد المغرب التي كانت تحت نفوذ دولة الأدارسة التي كان مؤسسها إدريس بن عبد الله أول من أدخل موطأ مالك إلى المغرب و دعا إلى الأخذ بمذهبه ... ثم ترسخ ذلك مع خلفه إدريس بن إدريس بن عبد الله ...
لم يكن أخذ أهل الغرب الإسلامي بمذهب الإمام مالك وتشبثهم به، ولا توجه طلب العلم في رحلاتهم إلى مالك اعتباطيا، بل لما اشتهر به من علم وفضل واستقامة ، ولما كان في مذهبه من سلامة من البدع و الانحرافات ..
" ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك أن الحكم المستنصر الأموي ، وكان ممن بحث عن أحوال الرجال، ونقر عن أخبارهم تنقيرا، لم يبلغ فيه، شأوه كثير من اهل العلم، كتب إلى الفقيه أبي إبراهيم إسحاق ابن ابراهيم التجيبي كتابا جاء فيه:
«وكل من زاغ عن مذهب مالك، فإنه ممن رين على قلبه، وزين له سوء عمله، وقد نظرنا طويلا في اخبار الفقهاء، وقرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا، فلم نر مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه، فإنا ما سمعنا أن أحدا ممن تقلد مذهبه، قال بشيء من هذه البدع، فالاستمساك به نجاة إن شاء الله تعالى»
و قد امتازت المالكية - كما عبر الدكتور حسين مؤنس - بأنها لم تكن مذهبا فقهيا فحسب، بل مذهبا سلوكيا أيضا، وأن الذين تخرجوا بمدرسته من تلامذته المباشرين و غير المباشرين عرفوا كيف يقيمون لأنفسهم في البلاد التي استقروا فيه سلطانا روحيا معنويا وسياسيا، دون أن يثيروا مخاوف أهل السلطان"