بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

الثوابت الدينية للهوية المغربية : المذهب المالكي نموذجا

تاريخ نشر المقال 28-09-18 11:09:48

    بسم الله الرحمن الرحيم

الثوابت الدينية للهوية المغربية
المذهب المالكي نموذجا
مقدمة:
قبل ولوج هذا الموضوع , نمهد له بالوقوف على مفردات العنوان، لما لتحديد المفاهيم ، من أهميةقصوى في ضبط مجال البحث ...
أولا- الثوابت الدينية : تعني - هنا - تلكم الثوابت التي قامت على الأصلين الكتاب والسنة والتي ظلت منذ إرساء دولة الإسلام بالمغرب الأسس والمقومات التي تضمن وحدة هذا البلد ، الدينية والدنيوية – إلى جانب ثابت إمارة المومنين - وهي التي جمعها الفقيه عبد الواحد ابن عاشر في بيت واحد من منظومة المرشد المعين والذي صار كالمثل السائر عند أهل المغرب :
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
أ- العقيدة الأشعرية: في قمة تلك المعارك الفكرية الضارية التي عرفتها البلاد الإسلامية منذ استشهاد الخليفة الراشد الرابع أمير المومنين علي كرم الله وجهه إلى أوائل القرن الرابع الهجري وما أثارته بعض الفرق الإسلامية السياسية منها والكلامية على حد سواء من أمور تمس العقيدة في جوهرها ... ظهر أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري [260- 334هـ] بفكره العقدي الوسطي المعتدل بعد إعلانه توبته عن مذهب الاعتزال وأقاويله في علم الكلام فقلب الموازين وصحح المسار وحقق للمسلمين في كثير من بقاع الأرض الطمأنينة والسكينة بجمعه بين المنقول والمعقول وبالرجوع الى التوحيد الصحيح والابتعاد عن الغلو والتعسف في التأويل ويمكن أن نمثل لعقلية هذا الرجل بمثل هذه المناظرة التي جرت بينه وبين أستاذه وزوج أمه أبي علي الجبائي [235-303 هـ] أحد أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره / 1)
وقد أقبل على العقيدة الأشعرية أهل المذاهب الأربعة باستثناء قلة من الحنبلية.
ب- المذهب المالكي: المذهب في اللغة الطريق وعند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة في الأحكام الاجتهادية استنتاجا واستنباطا وأصحاب المذاهب الفقهية علماء أجلاء وأئمة أعلام سطع نجمهم في الأفق خلال الدور الذهبي للاجتهاد من أول القرن الثاني الى منتصف القرن الرابع الهجري فسروا للناس ما ورد في الكتاب والسنة واستنبطوا منهما الأحكام تسهيلا على ما عجزوا عن فهمه منهما وكانوا جملة من المجتهدين دونت مذاهبهم وقلدت أقوالهم وآراؤهم ومن أبرزهم مرتبين حسب وفياتهم:
* أبو حنيفة النعمان [ ت151 هـ]
* أبو عمرو الأوزاعي [ت157 هـ]
* سفيان الثوري [ت161 هـ]
* الليث بن سعد [ت 175 هـ]
* مالك بن أنس [ت179 هـ]
* سفيان بن عيينة [ت 198 هـ]
* محمد بن إدريس الشافعي [ت204 هـ]
* أحمد بن حنبل [ت 241 هـ]
* داود الظاهري [ت 270 هـ]
* ابن جرير الطبري [ت 310 هـ] ، وغيرهم
وقد اختفت أكثر هذه المذاهب من حياة الناس ولم يبق لها وجود إلا في بطون الكتب أما المذاهب التي بقيت الى اليوم في العالم الإسلامي و المقلدة من جمهور المسلمين فأربعة منها المذهب المالكي الذي ينسب إلى الإمام مالك بن أنس [93- 179 هـ] و المنتشر في أقطار الغرب الإسلامي بالدرجة الأولى وأصول مذهبه يمكن تصنيفها في أحد عشر أصل لا يتسع المجال –هنا- لتفصيلها
ج- التصوف السني: عرف ابن خلدون التصوف بقوله:" هذا العلم من علوم الشريعة الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع الى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس الى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية" والحديث عن التصوف حديث ذو شجون ، وله في كل بيت مغربي حضور ، ونتمنى أن يجود الزمان بفرصة مماثلة لنبسط القول فيه
ثانيا - الهوية المغربية : تعني الهوية السمات والملامح التي يكون بها التميز عن الغير من حيث الخصائص الذاتية ومن حيث التفرد والاستقلال عن الآخر وذلك بسبب مجموعة من العناصر والمكونات والمقومات الأصيلة / أهم عناصر الهوية : الدين ، اللغة ، الوطن ،
ونجدنا أحببنا أم كرهنا في مواجهة العولمة وكيف نحافظ على هويتنا وفي الوقت نفسه كيف نعيش عالمنا الراهن في ظل ثقافة كونية 2) إلى أسئلة كثيرة لا يمكن تجاهلها ، ولا الحسم فيها بسهولة ، على أن العولمة لن تكون – فيما يبدو – نقيضا للهوية إذا احترمت خصوصيات الأمم ...
أنتقل بعد هذا إلى تحديد مفهوم المغرب أو الغرب في تراثنا لنجد الكلمتين يضيق مدلولهما ويتسع حسب الاستعمال والوضعية السياسية السائدة في كل عصر بالإضافة إلى أن التشريق والتغريب من الأمور النسبية فكل مكان له شرق وغرب ومن ثم فإن اللفظين كانا يطلقان في بداية الإسلام فيراد بهما شرق المدينة وغربها كما في بعض الأحاديث النبوية الشريفة مثل حديث عبد الله بن عمر [ض] قال :"قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال النبي [ص]:"إن من البيان لسحرا" 3) ومثل حديث سعد بن وقاص [ض]عن النبي [ص] قال:" لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة "4)
وسيأتي الكلام على هذا الحديث بتوسع خلال حديثنا عن اختيار المغاربة لمذهب مالك وحسبنا هنا أن نقول إن هذا الحديث لا يتكلم على الأرض وإنما على أهلها والناس إنما يتفاضلون بتقوى الله لأن الأمر لا يعدو في النهاية ما قاله سلمان لأبي الدرداء :"إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا وإنما يقدس الإنسان عمله" ولم يعط الإسلام قيمة للإنسان باعتبار انتمائه العرقي أو لسانه القومي وإنما بتقواه وعمله الصالح قال تعالى:[يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير]5)
وبالعودة إلى معنى الغرب في الحديث من منظور معظم علماء المسلمين خصوصا منهم أهل الحديث نجدهم تطغى على أكثرهم – للأسف الشديد - النزعة الإقليمية الضيقة
والواقع أن الأمر واسع سعة رحمة الله ، وأن فضله تعالى شامل لهذه الأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها [وكذلك جعلناكم أمة وسطا] 6) / [كنتم خير أمة أخرجت للناس]الآية...7)
وإذا كان أول المغرب بالنسبة للمدينة هو الشام ، فإن آخره حيث تنقطع الأرض من المغرب الأقصى كل هذا يقال له المغرب ومن ثم فالأمر محقق في المغرب الأقصى في كل الأحوال وبذلك قال غير واحد من علماء الأمة كـأبي عبد الها الحميدي وأبي الوليد الطرطوشي وأبي العباس القرطبي والشهاب القرافي وابن جزي وغيرهم
وشاع في العصر الحديث استعمال مصطلح "الغرب الإسلامي"للدلالة على الجناح الغربي من العالم الإسلامي ويشمل أقطار المغرب الكبير والأندلس 8)
المحور الأول: دخول المذهب المالكي الى المغرب
كان المغاربة في صدر الإسلام على مذهب جمهور السلف من الأئمة وربما بعثوا الى المشرق من يسأل لهم عن بعض الأمور التي تعترضهم في حياتهم اليومية قبل ظهور المذاهب الفقهية
عن خالد بن أبي عمران أنه أتى القاسم وسالما من الفقهاء السبعة بمسائل من المغرب فذهب يسألهما فأبيا أن يجيباه فقال لهما :"إنا بموضع جفاء في هذا المغرب ولأنهم حملوني هذه المسائل وقالوا لي إنك تقدم على المدينة ، وبها أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسلهم لنا ... فقال له القاسم : سل ، فسألهما خالد فأجاباه فيما سأل " 9)
كان دخول المذهب المالكي الى بلاد الغرب الإسلامي على فترات جد متقاربة وفيما يتعلق بالمغرب على وجه الخصوص فالظاهر أن المغاربة عرفوا هذا المذهب منذ وقت مبكر و من الثابت تاريخيا أن الإمام مالكا كان على صلة وثيقة بعبد الله الكامل والد المولى إدريس الأكبر بسبب تلمذته له من جهة و وبسبب البيعة لنجله الأكبر محمد النفس الزكية وإفتائه بعدم شرعية بيعة أبي جعفر المنصور من جهة ثانية ومن ثم فالراجح أن المولى إدريس الابن الأصغر لعبد الله الكامل هو أظهر إن لم نقل أول من أدخل مذهب مالك والموطأ الى المغرب وكان ذلك – كما هو معلوم – في حياة الإمام مالك ويؤكد ذلك مثل قوله :"نحن أحق با تباع مذهب مالك وقراءة كتابه " وهذا يوحي بأنه ربما كان يعرض بالعباسيين حين طلبوا من مالك فرض موطئه على العالم الإسلامي الشيء الذي رفضه مالك رحمه الله تورعا ...
ورد بعض الباحثين سبب ذلك الى رواية الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله الكامل والد المولى إدريس ومعلوم لدى المؤرخين أيضا أن إمارة نكور كانت على مذهب الإمام مالك وقد وصف أميرها صالح بن سعيد بن إدريس بن صالح [234-262ه] بأنه كان فقيها مالكيا حج وغزا بالأندلس قبل ولايته حكم البلاد 10)
يقول البكري عن أمراء نكور:"ولم يزل آل صالح في السنة والجماعة والتمسك بمذهب مالك بن أنس رضي الله عنه وكان سعيد وأبوه صالح يصليان بالناس ويخطبان ويحفظان القرآن "11)
المحور الثاني : أبرز أسباب انتشار المذهب المالكي بالمغرب
تعددت أسباب انتشار المذهب المالكي في الغرب الإسلامي ويمكن طرحها من خلال ثلاثة أسباب أو اعتبارات على النحو التالي:
أولا : أسباب يسميها الشيخ محمد المكي الناصري رحمه الله اعتبارات أدبية ويقول إنها أشبه ما تكون بالمناقب والبشائر التي تنشرح لها الصدور وتطمئن بها القلوب 12) ويبدو – والله أعلم –أن في ذلك من الأسرار والمعاني ما يدخل في إطار الغيب الذي أطلع الله عليه رسوله الكريم {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول}الآية 13)
و النبي [ص] أوتي جوامع الكلم وما أطلعه عليه من غيب مما كان وما يكون إلى قيام الساعة معلوم ضرورة لأهل العلم والإيمان مقطوع به عند أهل المعرفة والإتقان والحديثان الآتيان من أعلام نبوته [ص] وهو إخباره بالشيء قبل وقوعه والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره ولا ينزف غمره على حد تعبير القاضي عياض رحمه الله في الشفاء والمومن لا يسعه في كل الأحوال إلا أن يسلم بذلك ويعتقد وقوعه كما أن على المؤرخ المسلم أن يضع في الاعتبار أثر ذلك في حركة التاريخ وأن لا يفصل بين العوامل الغيبية والعوامل المشهودة في تفسيره له "14) والحديثان المشار إليهما هما:
أ- عن سعد بن أبي وقاص [ض] قال , قال [ص]:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة"15)
أثارت انتباهي رواية مسلم لهذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ورد فيها ذكر الغرب والمغرب والتي سقت منها في هذا البحث ثلاثة أحاديث تفرد بها الإمام مسلم عن الإمام البخاري مما قوي اعتقادي بأن ذلك كان أحد أهم الأسباب في تقديم صحيح مسلم على صحيح البخاري لدى من قال بذلك من المغاربة وإن لم يقع التنصيص عليه
استحضرت – أولا - بعض ما قيل في ذلك كقول القائل:
تنازع قوم في البخاري ومسلم لدي وقالوا أي ذ ين تقدم
فقلت لئن فاق البخاري صحة لقد فاق في حسن الصناعة مسلم
وقول الآخر :
قالوا لمسلم فضل قلت البخاري أولى
قالوا المكرر فيه قلت المكرر أحلى
ثم توقفت قليلا مع قول الحافظ ابن حجر:
"وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري فذلك فيما يرجع الى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع الى الأصحية ولو أفصحوا لرده عليهم شاهد الوجود " 16)
ومن المعلوم أن أهل المغرب اهتموا في البداية بموطأ مالك والى جانبه في الأول سنن أبي داود ثم اهتموا الى جانبهما بالصحيحين بعد دخولهما الى بلاد المغرب على يد أمثال الأصيلي والقابسي بالنسبة لصحيح البخاري وأمثال ابن الرسان و ابن الحذاء بالنسبة لصحيح مسلم ونظرا لما امتاز به صحيح مسلم من حيث التصنيف وسهولة التناول آثره عدد من علماء الغرب الإسلامي حتى اشتهروا بذلك بل قدمه بعضهم على صحيح البخاري في كل شيء خلافا لما قاله ابن حجر فيما تقدم من أن ذلك لم يقع كأبي الربيع سليمان بن حكم الغافقي القرطبي [ت618ه] الذي أقتطف من قصيدة له في الموضوع هذه اللقطات :
تحدى بإتقان الرواية مسلم وأوضح في الإسناد ما هو مبهم
وأبدع في علم الحديث عجائبا أبان بها ما لم يكن قبل يفهم
وخرج من محض الصحاح مصنفا
به كل من يهوى الأحاديث مغرم
الى أن يقول:
فيا طالبا للعلم دونك مسندا صحيحا به من علة الوهم تسلم
فما بعد فرقان هدينا بنوره أجل وأعلى منه قدرا وأعظم
ثم يقول بعد ذلك:
فلا تعتمد إلا عليه فإنه على كل ديوان يروى مقدم17)

ثم وجدت من المعاصرين من عبر عن ذلك بصريح العبارة
قال العلامة المحدث الشيخ المدني بن الحسني في قصيدة له طويلة في أمجاد الغرب وأعلامه :
فليس تزال طائفة بغرب بفضل الله قائمة السنام
كما جاء الحديث بذا صريحا عن المختار مولانا التهامي
فمسلم في الصحيح روى فأضحى صحيحا عندنا دون اتهام
ب- عن أبي هريرة [ض] عن النبي [ص] قال:" يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة " رواه الترمذي
ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه بسنده الى أبي هريرة " وقال عقبه:" سمعت يحي بن معين ذكر له قول النبي [ص] :" يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة " فقال يحي بن معين:" سمعت سفيان بن عيينة يقول:"نظن أنه مالك بن أنس " وقال سفيان بن عيينة في عقب هذا الكلام :"من نحن عند مالك إنما كنا نتتبع آثار مالك وننظر الى الشيخ إن كان كتب عنه وإلا تركناه "18)
قال القاضي عبد الوهاب البغدادي :"لا ينازعنا في هذا الحديث أحد من أرباب المذاهب إذ ليس منهم من له إمام من أهل المدينة فيقول المراد به إمامنا ونحن ندعي أنه إمامنا بشهادة السلف له أنه إذا أطلق عالم المدينة أو إمام دار الهجرة فالمراد به مالك دون غيره من علماء المدينة"
و قال ابن تيمية :" ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر متقرر لمن كان موجودا وبالتواتر لمن كان غائبا فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس بأكباد الإبل أكثر من مالك "19)
وقد روى عن مالك خلق كثير من العلماء جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبارهم فبلغوا حوالي ألف أونحوها - قال ابن تيمية وهؤلاء الذين اتصل الى الخطيب حديثهم بعد قريب من ثلاثمائة فكيف بمن انقطعت أخبارهم أو لم يصل إليه خبرهم"20)
ثانيا: أسباب تتعلق بالمدينة المنورة –مدنية المذهب- من أجل سكنى ومدفن رسول الله [ص] بها ولا يخفى أن تعلق أهل المغرب برسول الله وبآل بيته شيء يجري في دمائهم لكن دون مغالاة أو انحراف عن تعاليم الدين السمحة وفي احترام تام لسائر الصحب الكرام ولم يكن اختيار المغاربة لمذهب مالك نابعا مما كان غالبا عليهم من البداوة كما قال ابن خلدون ومن تابعه على ذلك وإنما لميلهم الى اقتفاء أثر أهل المدينة فيما كانوا عليه من التشبث بما كان عليه رسول الله [ص] وصحابته من بعده وهذا التعلق بدأ منذ وقت مبكر وهناك من يرجع به الى عهد النبي [ص] اعتمادا على نصوص وقرائن لا يمكن تجاهلها من ذلك هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن وأشراط الساعة عن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال:" كنا مع رسول الله [ص] في غزوة قال فأتى النبي [ص] قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافوه عند أكمة لفإنهم لقيام ورسول الله[ص قاعد] قال : فقالت لي نفسي :ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه قال : ثم قلت : لعله نجي معهم فأتيتهم فقمت بينهم وبينه قال فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي الحديث .. وفي آخره ثم تغزون الدجال فيفتحها الله .
قال النووي : هذا الحديث فيه معجزات لرسول الله [ص] وقال
ومعلوم أن أول تجسيد لوحدة الأمة الإسلامية في إطار كيان سياسي قائم على البيعة والشورى كان بالمدينة وعلى يد رسول الله [ص] وهو النموذج الذي ظل أهل المغرب يرونه المثل الأعلى الذي يجب الاقتداء به وقد ظلت المدينة المنورة على امتداد القرون الثلاثة الأولى محصنة ضد البدع بخلاف غيرها من المدن والأمصار حتى إن عمرو بن عبيد المعتزلي مر بمن كان يناجي سفيان الثوري ولم يعرفه فسأل عنه فقيل له هذا سفيان الثوري أو من أهل الكوفة فقال :لو علمت بذلك لدعوته الى رأيي ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيئونك من فوق "وعلى غرار المدينة قلت البدع بالمغرب في ظل التمسك بمذهب إمام دار الهجرة ومما يعد من فضل المغرب والأندلس أنه لم يذكر على منابرهما من السلف إلا بخير
وقرن أبو الوليد الطرطوشي هذا التعلق بحديث أهل الغرب فرد ذلك الى ما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين والاقتفاء لأثر السلف الصالح ورد غير واحد من العلماء قلة أهل البدع في المغرب والأندلس الى التمسك بمذهب مالك بن أنس هذا المذهب الذي أعتبر أسلم المذاهب أو أقلها على الأصح اشتمالا على أهل الأهواء والبدع بالقياس الى ما كانت تعرفه بعض المذاهب الأخرى وفي هذا يقول الخليفة الأموي الحكم المستنصر:
" وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رين على قلبه و زين له سوء عمله و قد نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء و قرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا ، فلم نر مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه فإنا ما سمعنا أن أحدا ممن تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع فالاستمساك به نجاة إن شاء الله تعالى "21)
والذين قاوموا العبيديين الروافض بافريقية هم المالكية بالدرجة الأولى وهم الذين تعرضوا لأقسى ألوان التنكيل والترويع والتقتيل كما هو مسجل في كتب التاريخ والتراجم
وربما كانت هذه المحن والشدائد وراء تمسك المغاربة بمذهب مالك الشيء الذي طبع حياتهم الفكرية بكثير من الاحتياط والميل الى الوضوح وتجنب التعقيد والتأويل وغير ذلك مما ينسجم مع الطبيعة المغربية، ولعل في الأبيات التالية لأبي العباس أحمد بن خليل السكوني الإشبيلي [ت581ه] في ترتيب العلوم ما يعكس نوعية التوجه الفكري والعلمي الذي كان مطلوبا التعليم :
إن العلوم لجمة وأجلها علم القرآن وسنة المختار
فا حفظ كتاب الله واحو علومه فإذا انتهيت فمل الى الآثار
واعرف صحيح رواية وسقيمها وتحر هدي السادة الأبرار
وعلى الإمام الأصبحي فعولن فهو العليم بموقع الأخبار
ولتحو من علم الكلام جوامعا تهديك يوم تحير النظار
واقف الإمام الأشعري تسر على غرا واضحة الصوى للساري
والنحو من شرط العلوم فإنه لغوامض الأقوال كالمسبار22)
والتعلق بكل ما هو مدني كقراءة الإمام نافع المدني [ت169 هـ] برواية ورش المصري [ت 197 هـ] دون أن يتعارض ذلك مع عنايتهم بالقراءات السبع والعشر وحفظهم وإ تقانهم لها ومثل ذلك تفردهم بالاحتجاج بالحديث النبوي الشريف في اللغة وإدخال شواهده في أدلة القواعد النحوية كما نجد عند الإمام السهيلي وابن مالك وابن خروف وغيرهم و زكى الإمام الشاطبي ذلك في الموافقات وناصره
ثالثا: أسباب تتعلق بشخص الإمام مالك رحمه الله
رابعا: أسباب مصلحية
خامسا: أسباب عقدية
موقف ابن حزم من مذهب مالك: على كثرة المذاهب الفقهية التي عرفتها بلاد الغرب الإسلامي بنسب متفاوتة فإنه لم يكتب لأي منها أن تشبث به أهل هذه البلاد تشبثهم بالمذهب المالكي الذي استقروا عليه فيما بعد مع ما كان من نفوذ وسلطان وقهر لبعضها ومن ثم اعتبر بعض الفقهاء كالقرافي وابن جزيء –كما تقدم – حديث أهل الغرب شهادة لأهل المغرب ولإمامهم بأن مذهبه حق توقيفا من الله تعالى وتصديقا لقول الصادق المصدوق [ص] وهي الفكرة التي رفضها أبو محمد ابن حزم متعسفا في الحكم ومتعصبا لمذهبه ...مما نتمنى أن نناقشه في بحث قابل إن شاء الله 23}
المحور الثالث خصوصيات
من خصوصيات المالكية بالغرب الإسلامي :
* اللباس الأبيض: اتخذ المغاربة اللباس الأبيض شعارا للدولة " اللباس التقليدي " وللمناسبات الدينية والوطنية تقليدا للإمام مالك وكان يرى أنه يستحب لأهل العلم أن يكون لباسهم أبيض 24)
* وجرى مجرى المثل قولهم :"صل بالرسالة وحج بابن عاشر" 25)
* المصطلحات الفقهية عند المغاربة :إذا قالوا: {العراقيون} – مثلا- فالمراد بهم القاضي إسماعيل والقاضي عبد الوهاب والأبهري ومن في طبقتهم وإذا قالوا:المغاربة فيشيرون الى ابن أبي زيد القيرواني والقابسي وابن اللباد واللخمي والباجي وابن عبد البر وابن رشد وابن العربي26)
* ومما اصطلحوا عليه أنه إذا اختلف المغاربة والعراقيون قدم المغاربة والى ذلك أشار القائل:
ورجحوا ما شهر المغاربة والشمس بالمشرق غاربة
وقد نظم بعضهم جملة من هذه المصطلحات فقال:
هاك اصطلاحات جرت وانتشرت على لسان من عزا النقل بدت
أولهــا ابن نــــــــــافع وأشــــهب هما القرينان لـــدى من ينسب
كذا مطرف ونجل المـــــاجشـــون كلاهما بالأخوين نا قلــــــــون
ونجل قصار وعبد الوهـــــــــــاب قد لقبا بالقاضيين في البــــــــاب
ونجل مواز مع ابن سحنــــــــــون في العزو بالمحمدين يعنــــــون
وابن أبي زيد الرضى والأيهري قد لقبــــــا الشيخين لست تمتري 27)
وظل الفقه المالكي نشيطا متجاوبا مع الحياة متأثرا بها ومؤثرا فيها بحسب الظروف والملابسات فهذا الفقيه المغربي الشفشاوني ابن عرضون قال بحق المرأة في اقتسام الثروة مع زوجها على التساوي مقابل الخدمة التي تقوم بها والجهد الذي تبذله داخل البيت وخارجه وفي هذا يقول صاحب العمل الفاسي :
وخدمة النساء في البوادي للزوج بالدرس وبالحصاد
قال ابن عرضون لهن قسمة على التساوي لحساب الخدمة
قالوا لهم في ذلك عرف يعرف لكن أهل فاس فيها خالفوا


أ/د. محمد عز الدين المعيار الإدريسي
كلية اللغة العربية – مراكش
• الهوامش :
• 1- انظر: موسوعة مناظرات الأذكياء :3/*137
• 2- عالم الفكر عدد:أكتوبر/ ديسمبر 1999/ ص106 / الأمة الإسلامية في مواجهة التحدي الحضاري / د.التويجري 44- 45
• 3- صحيح البخاري :كتاب الطب / باب من البيان سحرا-
• 4- صحيح مسلم : كتاب الإمارة / باب قوله [ص] :" لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"
• 5- الحجرات :13 .
• 6- البقرة :143
• 7- آل عمران: 110
• 8- أنظر:الحضارة العربية في اسبانيا لبروفنصال :9/ ترجمة د.الطاهر أحمد مكي
• 9- طبقات علماء افريقية وتونس لأبي العرب :245-246 / رياض النفوس للمالكي :1/163
• 10- أعمال الأعمال :ق:3/ص:174
• 11- المسالك والممالك لإبراهيم الإصطخري :97 / تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي للدكتور محمد بن حسن شرحبيل:75
• 12- ندوة الإمام مالك بفاس :1/70
• 13 الجن:26
• 14 - أنظر:المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره للدكتور محمد رشاد خليل :103
• 15- أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – كما سبقت الإشارة الى ذلك في كتاب الإمارة / باب قوله [ص] :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم حتى ياتي أمر الله"
• 16- نخبة الفكر :18
• 17- الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي :بقية السفر:4/ص:64-65
• 18- تاريخ ابن أبي خيثمة / مخطوط
• 19- مجموع فتاوى ابن تيمية :20/323
• 20- نفسه:20/320 .
• 21- ترتيب المدارك للقاض عياض :1/22
• 22- الذيل والتكملة: السفر:1 / القسم :1/ ص:114
• 23- أنظر الرسالة الباهرة لابن حزم :ضمن مجلة "مجمع اللغة العربية بدمشق " الجزء:1/ المجلد 64/ ص:3-79
• 24- ندوة الإمام مالك :1/106
• 25- نفسه :1/ 103
• 26- مباحث في المذهب المالكي بالمغرب للدكتور عمر الجيدي: 266
• 27- المنتقى المقصور لابن القاضي : 2/ 735 / وانظر المرجع قبله :268