من عناية الملك الحسن الثاني بالتفسير والحديث:
أولى جلالة المغفور له الحسن الثاني الدراسات القرآنية والحديثية عناية فائقة، فساهم في توجيهها من خلال دروسه الدينية الحسنية وخطبه ورسائله، وحث العلماء على ذلك، وأسس المؤسسات لتخريج القراء والمحدثين، وأعاد الاعتبار لجامعة القرويين، وأمر بطبع كثير من كتب التراث الإسلامي النفسية.
وطور الدروس الحديثية الرمضانية بالشكل الذي أصبحت عليه الآن، وغدت بحق مطبوعة بطابعه حاملة لاسمه.
لقد لاحظ جلالته في السنوات الأولى لاعتلائه عرش أسلافه الميامين أن عددا من كبار العلماء بدؤوا يرحلون تباعا إلى جوار ربهم، وأن الساحة بدأت تخلو بغيابهم من الأطر العلمية الكفئة التي كانت تغني هذه الدروس بأبحاثها ودراستها القيمة، فعمد إلى إنشاء دار الحديث الحسنية لإيجاد الخلف القادر على حمل الراية من جديد، وإعداد الدروس الحسنية بنخبة من العلماء في مستوى أسلافهم رحمهم الله.
وظل جلالته يوجه العلماء إلى النموذج المطلوب في التفسير والحديث، ويمكن القول بأن هذا الأنموذج ينشد الجمع بين الأصالة والمعاصرة.
يقول جلالته في درسه الديني الذي ختم به الدروس الحسنية لرمضان عام 1388هـ/1968م منذ ثلاث سنوات:"قررنا أن نضع اللبنة الأولى لدار الحديث حتى نلقح علماءنا الشباب والكهول بلقاح جديد، وحتى نعطي لهذه المادة مادة الحديث معناها الحقيقي.
كنا نسمع بالمحدث الذي يعرف الأصول، ويتقن كتاب الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بال وبينة تامة من الفقه والقانون، ولكن لم نكن نسمع محدثا يحاول أن يستنبط من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن آيات كتاب الله القواعد العصرية، الفقهية، التقنية، العلمية التي من شأنها لأن تجعل مجتمعنا مثلا للحضارة، لا مجتمعا راكدا".
ويقول جلالته في كلمة توجيهية في ختام الدروس الحسنية لرمضان سنة 1405هـ والتي تميزت بمشاركة نخبة من الأساتذة المختصين في العلوم والآداب العصرية.
"إننا نشكر جميع الأساتذة الذين شاركوا في هذه الدروس الرمضانية، وإن هذه الجلسات كانت بالنسبة لنا مجالا للإحاطة بعدة زوايا من علوم لم تكن تقرأ ولا تدرس في مثل هذه المجالس، لا لأننا قاصرون وكسالى، ولكن لأننا بدأنا، ويجب أن نقف هنا، بدأنا نعتبر أن الدين دين والحياة حياة".
علينا أن نبين أنه لا حاجز بين ربط كل مسألة مسألة بالدين وبالسنة، وثانيا أن نفتح للمجتهدين حلبة السباق، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
لكن من نشدان جلالته الجمع بين الأصالة والمعاصرة في تفسير القرآن وشرح الأحاديث النبوية، فإنه يعطي الأولوية للأصالة، ويدعو إلى مراعاة مناهج علماء المسلمين واستخدام أدواتهم في ذلك.
يقول جلالته في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية: الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري بمناسبة اختتام الدروس الحسنية ليلة القدر المباركة لعام 1413هـ:
"إننا نريد بواسطة كتابنا هذا أسمى الله قدره تبليغك سابغ رضانا وتوجيهك إلى حض علماء مملكتنا السعيدة على الاحتفاظ لهذه الدروس بطابعها الأصيل الذي يجعل الدرس حيا، بتنوع فنونه، غنيا بإشاراته وكثرة علومه، جامعا لما ينبغي أن يشتمل عليه الدرس من: نكت بلاغية ولغوية، وقواعد فقهية وأصولية، وقواعد وفرائد من فنون الأدب، وعلوم العربية، إضافة إلى ما يقوم عليه من علوم القرآن وعلوم الحديث، باعثا لذلك النموذج الأصيل الذي اشتهر به علماؤنا الأعلام في ماضي أمتنا المجيد، وعلماؤنا حفظهم الله إذا أرادوا فعلوا وأجادوا".
وإبرازا لهذه المفاهيم مجتمعة أقدم هذين الأنموذجين من درسين حسنين لجلالته، حرصت على أن يكون أحدهما في التفسير والآخر في الحديث.
أولا: التفسير
في رمضان عام 1388هـ ألقى جلالته في ختام الدروس الحسنية درسا في التفسير انطلاقا من قول الله تعالى:"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا سورة الأحزاب الآية 72
قسم جلالته الموضوع تبعا للآية إلى قسمين:
القسم الأول: لعرض الله تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال.
القسم الثاني:لحمل الإنسان الأمانة.
يبدأ جلالته التفسير بشرح الكلمات الرئيسية في الآية اعتمادا على ما جاء في اللغة العربية، مع ربطها بمفردات القرآن، وإبداء ملاحظات تمتاز بذوق رفيع وإدراك عميق لمواطن الجمال في لسان العرب. وفي هذا السياق أقدم هذا الأنموذج:
يذكر جلالته أن أبى بمعنى رفض، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن في حق إبليس كذلك حينما أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر على الله تعالى، أما السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
وينتقل إلى معنى الإشفاق فيشير إلى أنه يعني في اللغة الإحذار من قولهم: أشفقت من كذا بالألف حذرت.
ثم يقول جلالته وأنا باجتهادي الخاص أفضل الزهد في المسؤولية، أما الإحذار ففيه نوع من الخوف وعدم التصرف، ونوع من الإجبار، أما الزهد ففيه نوع من الحرية والاختيار
وينتقل جلالته إلى الشق الثاني من الآية فتستوقفه كلمة (وحمله). وفي ذلك يقول حاولت أن نبحث في جميع القراءات هل سأجد حملها وحدها أو تحملها أو حملها بضم الحاء لأنه لو وجدنا تحملها أو حملها بضم الحاء لكان المعنى منعكسا تماما لما سنحلله، لكن كانت القراءات كلها هي وحملها الإنسان بفتح الحاء، أي حملها الإنسان عن طواعية واختيار
وبذلك- كما يلاحظ- يكون الانسجام التام بين التفسير الأول لـ- أشفقن- وهذا التفسير لحملها.
ثم يعود جلالته إلى بيان الفرق بين إباء السماوات والأرض والجبال، وبين قبول بل تهافت الإنسان على تحمل المسؤولية، لينتقل بعد ذلك إلى الكنه والمغزى الحقيقي لهذه الآية، وهو لفظ (الأمانة). وهنا يتوسع في معنى الأمانة ومرتبتها من الواجبات الأخرى في الدين الإسلامي، ويستحضر في هذا السياق حديث جبريل، فيقرأه بتمامه ثم يعلق عليه من ناحية صناعة الحديث، ويتكلم على الساعة ومعانيها بشكل دقيق وعميق.
ثم يتوقف طويلا عند المسؤولية، فيقسمها إلى: مسؤولية مطلوبة وأخرى مفروضة، فيرى أن تحمل هذه الثانية أخطر من تحمل الأولى، لأنه لا فرار من تحملها.
ويتحدث عن الضمير المهني انطلاقا من مفهوم الإحسان في الحديث، قبل أن يختم الدرس بدعوات طويلة عبر فيها عن مدى اهتمامه بأحوال المسلمين، ومتمنياته لهم، والدعاء لأسلافه المنعمين، وفي طليعتهم والده المنعم جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه.
ثانيا: الحديث
في رمضان من عام 1387هـ ختم جلالة الملك الحسن الثاني الدروس الحسنية بدرس ديني، انطلاقا من الحديث الشريف كم من رجل لو أقسم على الله لأبره
أقام جلالته هذا الدرس على رؤية مقارنة بين الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، فتناول كل واحدة منها من حيث الزمان والمدلول والرسول الذي دعا إليها، والمعجزة المؤيدة له، منتهيا إلى أنه إذا نحن مثلنا الديانات بالعملة، فالعملة الجارية، العملة القوية، العملة التي يمكن أن يتعامل بها في كل زمان ومكان، وهي الذهب، هي النبي صلى الله عليه وسلم، فرسالته من ذهب. عملة قوية يتعامل بها عند جميع الأجناس، وفي جميع الأماكن، وفي جميع الأزمنة.
ثم يعود جلالته إلى نص الحديث، فيذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بلفظ (كم) ولم يذكر في الحديث (كيف)، فهذا استبشار عظيم، كلكم-يقول جلالته- أو الكثير منكم لو أقسم على الله لأبره، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يشترط أن تكون في الشخص مواصفات معينة، فورد الكم دون أن يكون مقرونا بالكيف بفتح الأمل لرجل الشارع، للقوي والضعيف، للمذنب وللطائع، لكن عدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الشروط لا يعني الاستغناء عنها، فهذا الموقف بل من الطبيعي أن هذا العبد في المقام لا يكون إلا مسلما مؤمنا محسنا.
ثم يتحدث جلالته عن شمول الرسالة المحمدية، ويذكر في السياق حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده . فيقول جلالة الملك إن القرآن كما جاء للناس كافة، جاء الحديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة. كان في إمكانه عليه السلام أن يقول:المسلم من سلم الناس أي جميعهم من لسانه ويده.
ثم يضيف: وأنا أقول(ويده) تدخل فيها الكتابة، فالمسلم من سلم الناس من لسانه ويده وقلمه، حيث إن القلم يخط فيكذب(....)، فالمسلم من سلم الناس من لسانه ويده التي يدخل فيها القلم الذي يكتب، فالله يا أهل القلم، الله يا أهل الصحف، اتقوا الله حتى تكونوا مسلمين
ويسترسل جلالته في المقارنة والتحليل مستحضرا ورابطا الدرس بالواقع المعيش، مذكرا بالمسؤوليات، خاتما بمجموعة من الدعوات الصادقة المعبرة عن إيمان عميق وتعلق كبير بالله عز وجل.
هذا جانب آخر من معالم الشخصية العلمية لملك العلماء، وعالم الملوك، أمير المؤمنين جلالة الحسن الثاني، طيب الله ثراه، وخلد في الصالحات ذكره...