مقدمة
ظلت العلاقة بين السلطة المعرفة في المغرب ، تتسم بكثير من التناغم، في توجيه تاريخه ، على مستوى الاختيارات الفكرية والمذهبية، والثوابت المجمع عليها. على نحو لا يكاد يوجد له نظير، بنفس الدرجة، في عدد من البلاد الإسلامية، بشكل اختلطت فيه السياسة بالدين ، واختلطت هذه بذلك ، حتى ليصعب وجود دولة إلا انضوت – على الأقل في الظاهر – تحت لواء اتجاه ديني واضح المعالم، بارز الأسارير 1 و هذا ما عبر عنه السلطان المولى إسماعيل في رسالة منه إلى علماء الأزهر حين قال :"العلم والخلافة أخوان متساويان في التقدير كركبتي البعير، و العلماء يحتاجون للخلافة ، و الخلافة تحتاج إلى العلماء ، لا غنى لأحدهما على الآخر 2
و قال جلالة المغفور له الحسن الثاني في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تأسيس دار الحديث الحسنية: . و إن فتوحات المغرب العلمية لا تقل شأنا عن فتوحاته السياسية ... 3
في هذا السياق يأتي الحديث، عن المشيخة العلمية ، وهي سلطة معنوية، لا تُكتسب إلا بالتحصيل العلمي العالي النافع ، والعمل الجاد المخلص الهادف، المنطلق من الدين و المنتهي إليه ... و كانت جامعة القرويين – على الدوام - مبعث الحركات الإصلاحية، و التطورات الاجتماعية، التي يزخر بها المغرب عبر تاريخه" 4
ولعل من شأن مثل هذا التشخيص و الاستشراف، أن يوضح الرؤية، ويسهم في الوقت ذاته في كتابة صفحات مشرقة من تاريخ العلماء بالمغرب، خصوصا على مستوى مؤسسة العلماء، وعلاقتها بالدولة وبالمجتمع، بمختلف شرائحه،إلى أمور أخرى كثيرة ذات صلة بالموضوع...
المحور الأول - إمارة المومنين و الثوابت الدينية بالمغرب
ظل ثابت "إمارة المومنين" 5 من لدن المولى إدريس الأكبر، إلى جلالة الملك محمد السادس، هو حامي الملة والدين، و الحارس الأمين ،لمنظومة الثوابت الدينية 6 التي ارتضاها المغاربة، وتشبثوا بها عبر العصور ...
و من الوصف البديع و الكلام البليغ عن إمارة المومنين7، ومكانتها و فضلها في الدين والدنيا في مستهل مؤلفه الشهير ما استهل به ابن عبد ربه الأندلسي {ت 328هـ} " العقد الفريد " باسم" كتاب اللؤلؤة في السلطان " و بدأه بقوله: "السلطان زمام الأمور ، و نظام الحقوق ، و قوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدين والدنيا ، و هو حمى الله في بلاده، و ظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، و ينتصر مظلومهم، و ينقمع ظالمهم، و يأمن خائفهم" 8 ثم ساق قول كعب الأحبار " مثل الإسلام و السلطان و الناس : مثل الفسطاط والعمود و الأوتاد، فالفسطاط: الإسلام، و العمود :السلطان، والأوتاد :الناس ولا يصلح بعضها إلا ببعض "9
والتراث المغربي حافل بآثار علمية قيمة، اعتنت بإمارة المومنين و ما يتصل بها، عناية فائقة في مؤلفات خاصة، أو في فصول أو مباحث ،ضمن كتب عامة، اهتمت بموضوع الإمامة العظمى بشكل مفيد، نشير منها في هذه العجالة إلى كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة لأبي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي {489 هـ} و سراج الملوك للطرطوشي{ت 520هـ} و كتاب في " فضل الخلافة و الإمارة " لأبي جعفر أحمد بن عتيق المعروف بالذهبي {ت 601 هـ} 10 وكتاب "تقصي الأنباء في سياسة الرؤساء " لأبي بكر ابن الصيرفي {ت752 هـ} والشهب اللامعة في السياسة النافعة لأبي القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجار المالقي الفاسي {ت 783هـ} تحقيق :د.سامي النشار والرسالة الوجيزية الى الحضرة العزيزية في علوم الخلافة لمؤلف مجهول عاصر السلطان المريني أبا فارس عبد العزيز الأول 11 و بدائع السلك ي طبائع الملك لأبي عبد الله ابن الأزرق {ت896هـ} 12 ، و" المعارف في كل ما تحتاج إليه الخلائق" لأحمد المنصور الذهبي {ت 1012 هـ} ورسالة في الإمامة العظمى في أحكام البيعة و التحذير من الخروج13 لمحمد بن أحمد ميارة {1072 هـ} تحقيق :د.عبد الرحيم العلمي و رسالة السلوك فيما يجب على الملوك لأبي القاسم الزياني 14 {ت 1249 هـ} و غيرها ...
وقد كان الإمام إدريس الأكبر رضي الله عنه، يدرك منذ أن وطئت قدماه أرض المغرب، و بعد أن اطمأن على نفسه في حمى أهله 15 ، أنه لابد لقيام الدولة، من سند شرعي، يعطيها حق الخروج على الخلافة العباسية في بغداد، مستحضرا تجربة الأمويين في الأندلس في عصر كان من الصعب قبول فكرة الولاء لإمارات خارجة عن إجماع المسلمين – كما قال الدكتور حسين مؤنس –حتى إن عبد الرحمن الداخل اضطر الى أن يدعو – على مضض - للخليفة العباسي فترة من الزمن، قبل أن يستقر له الحكم في الأندلس ...16
و على الرغم من أن الأمر - بالنسبة للمغرب - كان مختلفا عنه في الأندلس، و له أكثر من مبرر للخروج على الخلافة العباسية، بالإضافة إلى ما تلا قيام الدولة الأموية في الأندلس، من تأسيس المدراريين – من الخوارج الصفرية - لدولتهم بإقليم تافيلالت سنة 140هـ والرستميين – من الخوارج الإباضية -بالمغرب الأوسط سنة 160هـ ... فقد اتخذ للأمر عدته، فاعتمد في هذا السبيل على دعامتين قويتين، تجاوب معهما المغاربة و ناصروهما باعتزاز، وحققتا في الوقت ذاته مبتغى الجميع، وهما :
أولا – النسب الشريف: كان تعلق المغاربة به كبيرا ، بسبب محبتهم الغير محدودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و لعترته الشريفة، منذ أن أسلم الأوائل منهم على عهد الخليفتين الراشدين عمر و عثمان رضي الله عنهما فيما قيل17 ، قبل وصول الفاتحين، ثم نما ذلك و ترسخ بعد الفتح، ومن ثم لم يكن غريبا أن يذكَّر المولى ادريس المغاربة، في أول خطاب يوجهه إليهم، بما تعرض له آل البيت الشريف بالمشرق، من ظلم واضطهاد، ومن مطاردة وتقتيل و تشريد، من بني عمومتهم العباسيين :
" ... و اذكركم الله في ملوك تجبروا ، و في الأمانات خفروا، وعهود الله وميثاقه نقضوا، و ولد نبه قتلوا، وأذكركم الله في أرامل اختفرت، وحدود عطلت، وفي دماء بغير حق سفكت."
" واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف، الطريد الشريد، الخائف الموتور، الذي كثر واتره، وقل ناصره، وقتل إخوته، وأبوه وجده وأهلوه، فأجيبوا داعي الله، فقد دعاكم إلى الله، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء} 18
أعاذنا الله وإياكم من الضلال، وهدانا وإياكم إلى سبيل الرشاد.
وأنا إدريس بن عبد الله، بن الحسن، بن الحسن، بن علي بن أبي طالب - رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه جداي، وحمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة عماي، وخديجة الصديقة وفاطمة بنت أسد الشفيقة جدتاي، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء العالمين ، وفاطمة بنت الحسين سيد ذراري النبيئين أُمّاي، والحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله وسلم أبواي، ومحمد وإبراهيم ابنا عبد الله المهدي والزاكي أخواي." 19
ثانيا – العلم الشريف : الى جانب النسب الشريف كان المولى إدريس الأكبر، يدرك كذلك أن المغاربة لم يكونوا على استعداد لتقبل غير مذاهب أهل السنة، خصوصا وقد أصبحت في الأندلس دولة سنية قوية من جهة، و أنه ظهرت في المغرب - على العكس من ذلك - أطماع متطرفة من روافض وخوارج سعوا الى تأسيس إمارات في جهات متفرقة من البلاد ... فلم يتردد في تبني ما لم يكتب للعباسيين يوم عزم الخليفة العباسي المنصور على أن يأمر بأن تنسخ من موطأ الإمام مالك نسخ ثم يبعث الى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة ثم يأمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدونه إلى غيره..." مما لم يطاوعه عليه الإمام مالك وقال له دع الناس وما هم عليه و ما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم تورعا منه رضي الله وتجنبا لمختلف الحساسيات التي قد يثيرها مثل ذلك التصرف في مجتمع كانت توجد فيه مذاهب متعددة ...
لقد كان الإمام مالك يعرف موقعه و مجال نفوذه جيدا ، الشيء الذي لم يمنعه أن يقول للمنصور ثم للمهدي من بعده :"أما هذا الصُّقع – و أشار إلى المغرب – فقد كَفَيْتُكَهُ، و أما الشام ففيهم من قد علمتَ – يعني الإمام الأوزاعي – و أما العراق ، فهم أهل العراق " 20
عقب الأستاذ محمد بن ابراهيم الكتاني رحمه الله على ذلك بقوله :"... بهذه النصيحة وجه مالك تاريخ الغرب الإسلامي كله في إفريقيا الشمالية و إفريقيا الغربية و السودان والأندلس نحو السنة و قطع الطريق على الخارجية و الشيعة الغالية والاعتزال" 21
و في ترتيب المدارك أن إسحاق بن عيسى قال :" رأيت رجلا من أهل المغرب جاء مالك بن أنس فقال : " إن الأهواء كثرت قبلنا، فجعلت على نفسي إن أنا رأيتك أن آخذ بما تأمرني به، فوصف له مالك شرائع الإسلام : الصلاة والزكاة والصوم و الحج ثم قال : خذ بها و لا تخاصم أحدا" 22
هكذا ارتبطت الدولة المغربية منذ بداية التأسيس بالمدينة المنورة، من خلال النسب الشريف، و من خلال علم إمام دار الهجرة في حياته وعلى مسمعه ومرآه، وهو الذي تربطه بأسرة المولى إدريس روابط متينة فهو تلميذ أبيه عبد الله الكامل، وأحد المؤيدين لبيعة أخيه محمد النفس الزكية، القائلين ببطلان بيعة المنصور العباسي، المعرض بذلك بقولته الشهيرة :" طلاق المكره لا يجوز"وقيل إنه صرح بذلك حين أفتى عند قيام محمد بن عبد الله النفس الزكية، بأن بيعة أبي جعفر لا تلزم، لأنها على الإكراه 23
من هنا صح للمولى إدريس و هو يضع اللبنات الأولى للدولة المغربية أن يقول: "نحن أحق باتباع مالك، و قراءة كتاب مالك " 24 يضاف الى ذلك ما كان للإمام مالك من اهتمام ببلاد المغرب، وسؤال عن أخباره، ودعائه لولاة الأمر فيه ...
ويعزز ما جاء في خطاب المولى إدريس من جنوح إلى مذاهب أهل السنة، ما سجله له التاريخ من أنه لما بنى مسجد تلمسان وأتقنه وصنع فيه منبرا وكتب عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك في شهر صفر سنة أربع وسبعين ومئة " 25 فذِكْر اسمه مجردا، وترضيه على أسلافه ، بدل السلام عليهم، كما هي عادة الشيعة ، يؤكد اختياره السني بجلاء، و هو ما سار عليه خلفه المولى إدريس الثاني الذي اصطفى رجال دولته من هذا المعين 26
المحور الثاني : مشيخة 27 العلماء قبل المأسسة
لم يخل المغرب عبر تاريخه الطويل - منذ تأسيس الدولة المغربية ، من علماء كبار اشتهروا برجوع الناس إليهم في أمور الفتوى كأبي ميمونة دراس بن إسماعيل الفاسي{ت357 هـ}، وأبي جيدة بن أحمد {ت365 هـ} المشهور بفتواه في حكم أرض المغرب ، و عبد الله بن الزويزي بن أيمن ، الذي كان يضرب به المثل في الفتوى ، يقولون :" لا أفعل كذا ... و لو أفتاك به ابن الزويزي"28 كما استفتى ملوك المرابطين علماء أجلاء مثل يوسف بن عيسى ابن الملجوم{ت492 هـ} المحدث الراوية ... الفقيه الحافظ الرأس في الفتيا المتقدم في الأدب ، قدمه يوسف بن تاشفين لقضاء الجماعة بمراكش عام 474هـ الخ 29
و مثلهم بعض فقهاء أغمات كأبي علي المتيجي{ كان حيا عام 520 هـ } الذي كان علي بن يوسف بن تاشفين يرجع إلى فتاويه لدينه ، وأبي محمد عبد الله بن أحمد بن شبونة {كان حيا عام 520 هـ } - من مشاهير فقهاء المغرب يشار إليه في المعرفة بمذهب مالك - استشاره أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين وعول عليه في الفتيا ..
والى جانب العلماء الذكور عرف تاريخ المغرب عددا من النساء العالمات، بلغت بعضهن درجة المشيخة في زمانهن، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : أم العز بنت محمد بن علي أبي غالب العبدري {610هـ} وأم المجد مريم" بنت أبي الحسن الشاري الغافقي السبتي (579-649هـ) وعائشة بنت علي بن عمر بن شبل الصنهاجي الحميري ومؤمنة بنت عبد الله بن يحيى الفاسي المجاورة بالحرمين الشريفين، والتي أجازت الشيخ عبد الله بن عمر بن العز ابن جماعة وعائشة الصنهاجية الآنفة الذكر، وقد روى عنها العلامة ابن حجر بواسطة. والأميرة العالمة خناثة بنت بكار{ ت1155ه} زوج السلطان مولاي إسماعيل. قال صاحب الجيش العرمرم :" و قد رأيت خطها على هامش الإصابة لابن حجر وعرف به من عرفه و قال : هذا خط السيدة خناثة أم السلطان مولانا عبد الله بلا شك " ...
و منهن زهرة بنت محمد الشرقي أو الشركي – بكاف معقوفة {ت1118هـ} التي يمكن تقديمها نموذجا للمشيخة العلمية للمرأة المغربية ...
هي عالمة محدثة نشأت بين أحضان أسرة عالمة، حيث كان أبوها عالما صالحا صوفيا أديبا بارعا، وكان أخوها محمد من العالم الفقيه الصوفي ، وهو والد العلامة محمد بن الطيب الشركي {ت1170هـ أستاذ العلامة مرتضى الزبيدي{ت 1205هـ} صاحب تاج العروس أضخم معجم في اللغة العربية ... ثم هي إحدى زوجات علامة عصره، وأعجوبة زمانه أبي علي اليوسي { ت 1102 هـ }
جاء في "عيون الموارد السلسة من عيون الأسانيد المسلسلة " لمحد بن الطيب الشركي في الحديث الأول المسلسل بالأولوية " "الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء :" ... وأنا به والدنا الفقيه الكاتب البارع الصالح الصوفي البركة أبو عبد الله محمد الطيب ابن محمد عن غير واحد من شيوخنا الفاسيين وغيرهم، كأبي سالم العياشي والزين الطبري والملا ابراهيم بأسانيدهم، ح وأنا به الوالد أيضا وعمتنا الشيخة التقية المسندة المقرئة الزهراء بنت محمد كلاهما عن زوجها إمام التحقيق أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي عن إمام العارفين أبي عبد الله محمد بن ناصر الدرعي عن سيدي محمد بن سعيد عن الإمام أبي محمد مولانا عبد الله بن علي بن ظاهر الشريف الحسني ..."
وعرفت الحواضر العلمية الكبرى في المغرب - عبر التاريخ - عددا العلماء الأفذاذ انتهت إليهم في زمنهم الرئاسة العلمية، وصفوا بشيوخ الجماعة، وهو لقب يكاد ينفرد به أهل المغرب - بالإضافة إلى مشاركتهم لعلماء المشرق في كثير من الألقاب العلمية الأخرى، بما فيها "شيخ الإسلام" الذي اشتهر به كثير من العلماء...
وفي كتب التراجم المغربية ، أسماء غير يسيةر لمن حملوا هذا اللقب، منهم شيخ الإسلام أبو زيد عبد الرحمان ابن الإمام {ت741هـ}من معاصري تقي الدين ابن تيمية{ت 728هـ}
و لعل من أواخر علماء المغرب الذين اشتهروا بهذا اللقب : شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي {ت1356 هـ = 1937م } و شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي {ت1384هـ = 1964م }
ويبدو أن لقب"شيخ الجماعة" ، إنما بدأ يتردد في كتب التراجم منذ أواخر القرن الثامن الهجري على الأقل ، واستمر إلى أوائل استقلال المغرب ... و هو لقب يكتنف معناه شيء من اللبس و الغموض ، نتج عنه اختلاف في الفهم ، فهناك من يرى أن شيخ الجماعة هو "من طال أمده في خدمة العلم وتدريسه، إلى أن صار معظم علماء البلد ممن تتلمذ له وأخذ عنه" و هناك من يرى أن "شيخ الجماعة " هو شيْخ العُلَمَاءِ و كَبِيرهُمْ ...
و مما لعل يساعد على فهم هذا اللقب، ربطه بلفظ " الجماعة " الذي تردد في فترات من تاريخ المغرب و الأندلس، منذ القرون الأولى مرتبطا بالقاضي: "قاضي الجماعة" و الذي يعد يحيى بن يزيد التجيبي أول من حمله
يقول النباهي:" الظاهر أن المراد بالجماعة جماعة القضاة، إذ كانت ولايتهم قبل اليوم غالبا من قبل القاضي بالحضرة السلطانية، كائنا من كان، فبقي الرسم كذلك، وأما قاضي الخلافة بالبلاد المشرقية فيدعى بقاضي القضاة "
و من المعلوم أن القضاء قام بدور بالغ الأهمية في الحياة الاجتماعية والدينية بالمغرب ، وكان للقضاة مقام سياسي كبير كما نجد في عهد المنصور – السعدي- و عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي الذي حرر مكتوبا رسميا إلى قضاة المملكة، يأمرهم فيه أن يتولوا مع علماء الجهات، النظر في شؤون إصلاح التعليم بما يتلاءم مع مقتضيات الوقت ... وارتكز اختيارهم قبل كل شيء على أساس ثقافتهم الواسعة في الفقه والأحكام ... وكان لعدد منهم، وجهة نظر خاصة في شؤون سياسية ووطنية، أبانوا عن شجاعة حقيقية في الجهر بها ..." وهذه السلطة للقضاة، ظلت سارية المفعول، إلى نهاية عهد الحماية تقريبا ...
يقول المستشرق الفرنسي المسيو مرسيه المكلف من قبل فرنسا لمساعدة الحجوي الثعالبي في وضع النظام التحسيني، في كلمة وجهها الى العلماء:"...كان أمر العلماء من زمان غير بعيد إلى يومنا هذا و حتاه مفوضا الى الفقيهين الوجيهين القاضيين بمدنه الحاضرة ..."
لقد كانت لقاضي الجماعة الصدارة، بين علماء المغرب منذ العصر الإدريسي مثل عامر بن محمد بن سعيد القيسي قاضي المولى إدريس الثاني ، و يوسف بن عيسى ابن الملجوم{ت 492هـ} قاضي الجماعة بمراكش زمن يوسف بن تاشفين " كان عنده حظيا مقبول الإشارة معتمد الرأي مسموع القول " .
وكانت المجامع العلمية ( مجامع الخلفاء ) في العصر الموحدي مطبوعة بطابع النظام كما عبر الأستاذ محمد المنوني رحمه الله حتى في ترتيب الجلوس، فكان يجلس إلى جانب الخليفة خطيبه، فقاضي الجماعة بمراكش، فرئيس الأطباء فأكبر علماء الحضرة فباقي الحاضرين على اختلاف مراتبهم " يحضرها عدد من كبار علماء المغرب والوافدين عليه من أقطار أخرى وفق ترتيب معلوم
أما " شيخ الجماعة " فهو لقب يعني "شيخ العلماء" كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو ليس كقاضي الجماعة ، الذي يكون في العاصمة، بل هو شيخ علماء إحدى الحواضر الكبرى فقط كفاس ومراكش وسلا ، أو حتى قرطبة التي كان ابن حمدين قاضي الجماعة بها على عهد علي بن يوسف بن تاشفين
و ممن وصف بشيخ الجماعة بمراكش على سبيل المثال في العصر المريني : أبو مهدي عيسى بن أحمد الغبريني {ت 815هـ} و مفتي مراكش المحدث عبد الواحد بن أحمد السجلماسي {ت1003هـ} في العصر السعدي ، و العلامة محمد بن ابراهيم السباعي {ت 1914م} في العصر العلوي ثم لم يلبث أن استبدل هذا اللقب فيما بعد بلقب: رئيس المجلس العلمي، كما في حال العلامة عبد الله بن خضراء {ت1324هـ} ... عين قاضيا بمراكش ... ثم في سنة 1317هـ أصبح قاضيا لمدينة فاس، حيث كان رئيسا لمجلسها العلمي ومستشارا للسلطان مولاي عبد العزيز ...
وهذا الوضع شاهد على أنه لم تكن للعلماء بالمغرب، قبل العصر الحاضر مؤسسة علمية قائمة الذات لها رئيس و أعضاء معينين من قبل السلطان ،وقوانين تضبط أعمالها، و أنه لم يكن بالمغرب منصب المفتي العام، بشكل رسمي ومنظم، باستثاء فترة من العهد السعدي، عندما قلد السلطان الغالب بالله، الفقيه العالم محمد شقرون بن هبة الله {ت983هـ} الفتوى، ورياسة العلم بحضرة مراكش، و سائر أقطار المغرب ، وجعل له كرسيا للدرس، في مشور قصره، كان يحضره السلطان وسائر الأمراء "
و الظاهر أن هذا المشهد، و هذه الصلاحيات لم تتكرر ، أو على الأقل لم تستمر طويلا، مما جاز معه للأمريكي" إدموند بورك" أن يذهب الى أنه : "لم يكن في المغرب وجود للمفتي، أو شيخ الإسلام الذي يرأس المؤسسة الدينية، كما كان الأمر في الدولة العثمانية، بل كان المسؤول الديني الأعلى بعد ( أمير المومنين ) هو قاضي القضاة ( وزير العدل ) كما يراقب الأحباس في مدينة فاس ... "... فمن جهة لم تكن هناك أية مؤسسة دينية في المغرب ... ومن جهة أخرى لم يكن للعلماء وجود كهيئة متميزة ... و لا يظهر عمل العلماء كطائفة، إلا في وقت بيعة السلطان، أو عند إصدار بعض الفتاوى ..."
المحور الثاني
المجلس العلمي التحسيني
و الإرهاصات الأولى لمأسسة للمشيخة العلمية
لم تكن للعلماء - كما سبقت الإشارة الى ذلك - في كثير من الفترات من تاريخ المغرب، هيئات علمية منظمة... بل كان جامع القرويين بفاس، وجامع ابن يوسف بمراكش، يقومان بهذا الدور في حدود معينة، وكان لقب العالم في المغرب، لا ينصرف إذا أطلق، إلا إلى خريجي إحدى الجامعتين المذكورتين من المثقفين ثقافة عربية صرفة ،متمكنة بالخصوص من علوم اللغة وعلوم الشريعة ، والتاريخ والأدب وغالبا ما يهتمون بالشؤون الدينية والثقافة الإسلامية المختلفة، وشؤون الفتوى وما إليها " وقلما ينصرف الذهن إلى عالم الرياضيات أو الفيزياء ..."
من هنا كان من البدهي أن تحظى جامعة القرويين بعناية ملوك الدولة العلوية، وأن تظل هذه العناية مستمرة متواصلة إلى عهد السلطان المولى يوسف، الذي حملته الأقدار إلى العرش سنة 1912 م، بإشارة من أخيه المولى عبد الحفيظ عندما تنازل عن العرش بعد توقيعه عقد الحماية
كان في مقدمة ما اهتم به السلطان الجديد بمجرد اعتلاء عرش أسلافه الميامين " إصلاح الحالة العلمية بالكلية القروية، والنظر في سد الخلل الذي كاد أن يتسرب إليها، والفحص بتدقيق في المراتب العلمية و تنقيحها، وإنزال كل من العلماء منزلته في المرتبة اللائقة به، وسحب الدخلاء الغير مستحقين من كل مرتبة. " الشيء الذي استبشر به العلماء خيرا فلم يتأخر لفيف منهم في رفع كتاب الى جلالته يطلبون فيه إنصافهم و في سياق سرد أعظم آثاره بفاس .
قال ابن زيدان :" و منها إصدار أمره الكريم، بإنشاء مجلس تحسيني لكلية القرويين ، ينظر فيما تتحسن بها حالة التدريس و التعليم و أسند الرياسة فيه لصديقنا أبي عبد الله محمد الحجوي نائب الصدر الأعظم في المعارف ..."
وينص النظام الأساس للمجلس التحسيني في القسم الرابع على أن "شيخ القرويين والناظرين معه"، ينتخبهم أعضاء المجلس العلمي منهم، أو من غيرهم، وترفع أسماؤهم لجلالة السلطان، ليصدق عليه، أو يأمر بإعادة الانتخاب، كلا أو بعضا.
عن هذا المشروع و مآله يقول الحجوي :"أقول من غير تمدح أو تبجح : إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال الى حيز الأعمال لكان محييا للقرويين ، مجددا لهيأتها التدريسية تجديدا صحيحا متينا ... ولكن مع الأسف المكدر تداخل في القضية ذوو الأغراض الشخصية، فبينما نحن نبني و نصلح و نرمم بفاس، و قد شرعوا في الهدم و التخريب في الرباط بغير فاس ، و ما كدنا نختم القانون المشار إليه حتى صدر أمر شريف برجوعنا و لم يبق من مشروعنا إلا أن راتب المدرسين ضعف أضعافا..."
و على الرغم من أن البرنامج الإصلاحي الذي حرره العلماء في هذا الصدد، قد حالت دون تنفيذه – إذ ذاك - عوائق ظاهرة وخفية، و لم يظهر منه للوجود إلا المجلس العلمي، وفق ما ذكره الثعالبي في الفكر السامي ... فإن هذا الإصلاح لم يلبث أن وجد طريقه إلى الى التنزيل، في أوائل عهد جلالة المغفور له محمد الخامس . مما أسهب في الحديث عنه المؤرخ عبد الرحمن ابن زيدان في كتابه الدرر الفاخرة حيث استطاعت الحركة الوطنية المنبعثة من نفس علماء القرويين و طلبتها أن يظفروا بالظهير الشريف الصادر سنة 1931 م المنظم للتعليم بالقرويين وملحقاتها، ويؤسس مجلسا آخر يتولى الإشراف على تطبيق ذلك الإصلاح ،
ثم امتد هذا الإصلاح بعد ذلك ليشمل جامعة ابن يوسف ، استجابة من جلالته لرغبة علماء مراكش في ذلك مما قال عنه جلالة المغفور له الحسن الثاني : "ما زلت أذكر الجلسة الأولى التي فتحها - والده - رحمه الله بفاس مع المجلس الأعلى لمدينة فاس بمحضر وزرائه إذ ذاك، كان النقاش محتدا حول برامج القرويين ونظامها و كان إذ ذاك الزحف التقدمي والسلفي الفكري واضحا لا غبار عليه و كانت العوائق الرجعية والاستعمارية تحاول يوما بعد يوم أن ترجع بتعليم القرويين إلى عهده السابق ... ولم يتم على تلك الجلسات الأولى إلا سنة أو سنتان و في ذلك فليتنافس المتنافسون حتى رأينا أهل مراكش وعلمائها و طلابها يقومون بشبه مسيرة الى الرباط محتجين على أن لا يكون لهم نظام كنظام القرويين ، محتجين على أن لا تكون لعلماء مراكش نفس العالمية التي حظي بها أهل فاس...
و هو ما تحقق بصدور ظهير شريف بتاريخ 08 شوال 1357 = 01 دجنبر 1938 الذي ينظم الدراسة بكلية ابن يوسف بمراكش على غرار القرويين مع إجراء شهادة العالمية بمراكش
و في اجتماع للمجلس العلمي الأعلى للتعليم الديني ترأسه أمير المومنين جلالة المغفور له محمد الخامس بقبة الصويرة بمدينة مراكش صدر عن رئيس كلية ابن يوسف قوله للمجتمعين:" إنكم لا تهتمون بالكلية اليوسفية اهتمامكم بالقرويين " فالتفت إليه صاحب الجلالة مبتسما وقال :" معاذ الله "
و الى جانب القرويين بفاس و ابن يوسف بمراكش صدر ظهير شريف في 20 محرم 1371 = 22 أكتوبر 1951 في شأن تنظيم التعليم الديني بالمنطقة الخليفية بتطوان - المعهد العالي
و مما أثلج الصدور و أدخل السرور على الطبقات المثقبة بالمغرب – كما قال الدكتور عبد الهادي التازي -–خطاب العاهل المغربي رحمه الله بمحراب جامعة القرويين مناديا بتعليم الفتاة المغربية ، و كان ذلك يوم 25 جمادى الآخرة عام 1362 = 29 يونيه 1943 و على الرغم من مناوشات السلطات الاستعمارية ومضايقاتها وتآمرها على القرويين فقد عرف جلالة المغفور له محمد الخامس كيف يرفع من معنوية القرويين و طلبتها و علمائها و نستطيع – يقول الدكتور التازي – التأكيد أن ميدان المواجهة بين القصر و الإقامة لم يعد شيئا غير مشكلات التعليم
وكان تعليم المرأة قبل هذا العهد محدودا لا يكاد يذكر، و إذا تم فإنما يتم في إطار ضيق بشكل عائلي غالبا، داخل البيوت ومن قبل الأهل غالبا ، كما أن هذه المشيخة العلمية للمرأة المغربية، كانت في حدود ضيقة و في أسر علمية قليلة، بل كان هناك من عارض تعليم المرأة أساسا، و هو ما انتبه له جلالة المغفور له محمد الخامس، الذي كانت الانطلاقة الحقيقية لتعليم المرأة على عهده، و كانت الأميرات الجليلات في طليعة من ولجن المدارس و المعاهد، كما ولجت المدارس للتعليم بنات بعض العلماء الذين مهدوا لهذا التوجه و ناصروه كالعلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي {ت1376هـ} و شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي {ت1964م } والعلامة محمد بن عبد الرزاق {ت2011م } على سبيل المثال و غيرهم
و خلال الظروف المتوترة بين القصر و الإقامة استطاع السلطان انتزاع الإذن بافتتاح معهد للفتيات تابع لجامعة القرويين يؤهلهن لنيل شهادة العالمية، و قد تم تدشينه في أوائل سنة 1949م و كان أول و آخر فوج من العالمات اللائي حصلن على شهادة العالمية من جامعة القرويين سنة 1957 م نذكر منهن الأستاذات : زهور -الزرقاء- الأزرق {1934 – 1993 م} وحبيبة البورقادي {1935 – 2012 م} رحمهن الله وفاطمة القباج {ولدت سنة 1938م - } عضو المجلس العلمي الأعلى أطال الله عمرها ...
المحور الثالث - مأسسة المشيخة العلمية
كان من أول ما عرفه عهد جلالة المغفور له الحسن الثاني من مظاهر اهتمامه بالشأن الديني، إحداث وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية لأول مرة في تاريخ المغرب سنة 1961، و إسناد مهمتها لرجل له رمزيته العلمية والوطنية هو الأستاذ علال الفاسي، ومما نص عليه الظهير الشريف المنظم لهذه لوزارة :"... إنشاء هيئة للإفتاء من كبار العلماء المغاربة تتكفل بالإجابة عن الأسئلة التي ترد عليها ..."
ثم تلا ذلك إعادة تنظيم جامعة القرويين التي عانت كثيرا تحت وطأة الاحتلال الفرنسي وتآمره، ثم لم يتورع بعض المسؤولين بعد الاستقلال عن الشروع في تنفيذ مخطط جديد للقضاء عليها ، مما كان التمهيد له كما قال الأستاذ عبد الله كنون بـ" إلغاء جامعة ابن يوسف بمراكش، التي تشبه دراستها إلى حد كبير دراسة القرويين ...كما ألغي المعهد بتطوان ..." ولم تتوقف هذه المخططات إلا عندما تولى جلالة المغفور له الحسن الثاني مقاليد الأمور، وأصدر ظهيرا شريفا بإعادة الحياة للقرويين . بتاريخ 12 رمضان 1382 (6 يبراير 1963) بشكل يتلاءم وروح العصر الحديث شكلا وتربويا، بما يحقق النهوض بهذه الجامعة، ويكتمل معه إطارها العام بمختلف الكليات، ويستجيب لتحقيق الغاية المنشودة منها بتكوين علماء متخصصين في فروع العلم والمعرفة، يشغلون وظائف هامة في الدولة ويقومون بخلق نشاط فكري وثقافي وحركة علمية في هذا المضمار.
و في فترة تولي الأستاذ محمد الفاسي {ت 1991 م} وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية والتعليم الاصلي بالمغرب في مطلع السبعينيات من القرن الميلادي الماضي ، وقع أحياء المجالس العلمية الموجودة – آنذاك- بكل من فاس، ومراكش، و تطوان، وأضيف اليها مجلس جديد بتارودانت، كما أصبحت هذه المجالس تتركب من رئيس وثلاثة أعضاء فقط من بينهم عضو كاتب .
وهذه المجالس هي التي كلفها جلالة المغفور له الحسن الثاني بتحقيق تفسير المحرر الوجيز لابن عطية ، و هو تكليف يحمل كثيرا من الإشارات منها حث جلالته للعلماء على الاشتغال بالتحقيق و التأليف و كان علماؤنا في العهود السابقة مقصرين في هذا الباب
يقول الأستاذ محمد بن أحمد الحجوي الثعالبي {ت1418 هـ = 1997 م}– أول كاتب عام للمجلس العلمي الأعلى - :" ... وفي جميع هذه الأحوال، لم تكن تلك المجالس تتوفر على نصوص تشريعية تحدد اختصاصاتها وتضبط أحوالها، وإنما كانت تعتمد في سيرها على ظهائر التعيين بالنسبة للرؤيا ، وعلى بعض القرارات الوزارية المتعلقة بتعيين الأعضاء."
لذا كان من الضروري إحداث اطار قانوني لهذه المجالس، نظرا لأهمية الدور الملقى على عاتق العلماء و المسؤولية التي يتحملونها في تأدية الرسالة الإسلامية السامية،و نظرا لما هو مناط بهم من تحقيق التطلعات و الآمال في مجال التوجيه والإرشاد، و الإفتاء ، والاجتهاد ، وتوثيق الصلة بين ماضي الإسلام المجيد ، وحاضره المتحفز بأسلوب بساير روح العصر ، ويلائم تطور الأوضاع و متطلباتها. و هذا ما حدا بأمير المومنين جلالة المغفور له الحسن الثاني الى احياء المجالس العلمية، وتوسيع نطاقها و انشاء المجلس العلمي الاعلى ، و إحداث اطار قانوني ينظم اختصاصات المجالس و مسطرة سيرها . بإصداره رحمه الله ظهيرا شريفا بذلك في 3 جمادى الآخرة 1401 موافق 8 أبريل 1981، و تسليمه بيده الشريفة مساء يوم 10 رمضان 1401 هجرية ) 12 يوليوز 1981( ظهائر تعيين رؤساء أربعة عشر مجلسا علميا اقليميا، وظهير تعيين الكاتب العام للمجلس العلمي الاعلى ...)
و قد جاء في الأسباب الموجبة لذلك قول جلالته :" و قد قر رأينا بعد أن أصبحنا نشاهد ما ينذر به شيوع بعض المذاهب الأجنبية من خطر على كيان الأمة المغربية و قيمها الأصيلة، أن يستمر عملنا المتواصل في إطار مؤسسات تنتظم فيها و تتناسق جهود العلماء الأعلام للعمل برعاية جلالتنا الشريفة و إرشادها ..."
تعززت كليات جامعة القرويين في وضعها الجديد بتأسيس دار الحديث الحسنية بالرباط سنة 1964 م ثم بإحداث شعب الدراسات الإسلامية بكليات الآداب بالجامعة المغربية سنة 1980م
و كانت أستاذتنا الكبيرة الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطي ء رحمها الله { ت 1419هـ = 1998 م } خير من مثل المشيخة النسوية بالجامعة المغربية في أعلى مستوياته خصوصا بدار الحديث الحسنية بالرباط، حيث كانت أول وأبرز عالمة تعتلي كرسي التدريس بها، وتشرف على رسائل و أطاريح عدد من خريجيها من علماء أجلاء منهم من قضى رحمهم الله، و منهم من لا يزال على قيد الحياة أطال الله أعمارهم ...
وفي سنة 1988 م عادت الدراسة لجامع القرويين في إطار التعليم العتيق بأمر من جلال المغفور له الحسن طيب الله ثراه ، و بعد اثنتا عشرة سنة من الدراسة أقيم في أول عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله برحاب جامع القرويين يوم 14 رجب 1421 حفل تكريمي للفوج الأول من الخريجين الحاصلين على شهادة العالمية في ثوبها الجديد.
و قد عرف الشأن الديني في المغرب على عهد أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس تطورا كبيرا في وقت و جيز و بشكل دقيق منضبط خصوصا منذ 30 أبريل 2004م حين بادر جلالته في خطوة موفقة ناجحة إلى إرساء وتفعيل ما سهر جلالته "على إعداده، من استراتيجية مندمجة وشمولية متعددة الأبعاد، ثلاثية الأركان لتأهيل الحقل الديني وتجديده، تحصينا للمغرب من نوازع التطرف والإرهاب وحفاظا على هويته المتميزة، بالوسطية والاعتدال والتسامح "
فكان من نتائج ذلك أن أصبح الشأن الديني في المغرب، يقوم على قواعد متينة ثابتة...
وبالنسبة لجامعة القرويين ، كانت البداية بتنظيم التعليم العتيق كأهم رافد لها وذلك بصدور ظهير شريف رقم 09 . 02 .1 في 15 ذي القعدة 1422 ( 29 يناير 2002 ) بتنفيذ القانون رقم 01 . 13 في شأن التعليم العتيق
مرسوم رقم الخ الجريدة الرسمية عدد 5378 صادر في 29 شوال 1426 الخ في شأن التعليم العتيق
هذا التعليم الذي أطلق عليه أسلافنا اسم – العتيق – بكل ما يحمله من دلالات التقدم و العراقة زمانا و مكانا و رتبة، و من صفات الكرم و الخلو من الرق والذي حافظ على كتاب الله غضا طريا و على اللغة العربية، فصيحة نقية، وعلى الدين في وسطيته و اعتداله، و على الهوية المغربية في أصالتها و انفتاحها ...
وفي هذا العهد أخذت المرأة المغربية العالمة، مكانها إلى جانب أخيها العالم،واعتلت المنابر كما اعتلاها، وتم ترسيم مشيختها العلمية مثل مشيخته.
يقول أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس في الظهير الشريف رقم 1.03.300 المتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية : "و يقينا منا بما بلغته المرأة المغربية بحكم تكوينها العلمي و مشاركةتها الفاعلة في كل الميادين ، و ممارستها لكل المسؤوليات من مؤهلات جديرة بالاعتبار ... قررنا إشراك المرأة العالمة في هذه المجالس إنصافا لها و ثقة في إيجابية إسهامها فيها"
وبعد الرعيل الأول من خريجات جامعة القرويين الآنف الذكر، توالى تخرج أفواج من الأستاذات من كليات القرويين سابقا، و من دار الحديث الحسنية وشعب الدراسات الإسلامية و معهد محمد السادس للأئمة المرشدين و المرشدات و غيرها . و وقع في هذا العهد المحمدي الزاهر الاهتمام بالفتوى بشكل غير مسبوق
يقول أمير المومنين جلالة المك محمد السادس نصره الله في الظهير الشريف رقم 1.03.300 المتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية :" و من المهام الجسيمة التي تنتظر مجالسنا العلمية مهمة القيام بأمانة الإفتاء الشرعي ...."
و يقول حفظه الله في خطاب جلالته افتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى بفاس ( جمادى الأولى 1426/ 07 يوليوز 2005 :" وتفعيلا لتوجيهاتنا السامية، بشأن تحديد مرجعية الفتوى، التي هي منوطة بإمارة المؤمنين، أحدثنا هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى، لاقتراح الفتاوى على جلالتنا، وفيما يتعلق بالنوازل، التي تتطلب الحكم الشرعي المناسب لها، قطعا لدابر الفتنة والبلبلة في الشؤون الدينية، وإننا لننتظر منكم، أن تجعلوا من هيئة الفتوى، آلية لتفعيل الاجتهاد الديني، الذي تميز به المغرب على مر العصور، في اعتماده على أصول المذهب المالكي، ولاسيما قاعدة المصالح المرسلة، وقيامه على المزاوجة الخلاقة، بين الأنظار الفقهية والخبرة الميدانية. وبذلكم نقوم بتحصين الفتوى، التي هي أحد مقومات الشأن الديني، بجعلها عملا مؤسسيا، واجتهادا جماعيا، لا مجال فيه لأدعياء المعرفة بالدين، ولتطاول السفهاء والمشعوذين، ولا للمزاعم الافترائية الفردية.
وفي هذا السياق، قررنا أن تكون فاتحة أعمال المجلس العلمي الأعلى تكليفه، طبقا لما يراه من رأي فقهي متنور، بتوعية الناس بأصول المذهب المالكي، ولاسيما في تميزه بالعمل بقاعدة المصالح المرسلة، التي اعتمدتها المملكة المغربية، على الدوام، لمواكبة المتغيرات في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة، من خلال الاجتهادات المتنورة،لأسلافنا الميامين ولعلمائنا المتقدمين. وهو الأصل الذي تقوم عليه سائر الأحكام الشرعية والقانونية المنسجمة والمتكاملة، التي تسنها الدولة بقيادتنا، كملك وأمير للمؤمنين، في تجاوب مع مستجدات العصر، والتزام بمراعاة المصالح، ودرء المفاسد، وصيانة الحقوق، وأداء الواجبات ..."
بهذه التوجيهات المولوية السامية التي رسمت معالم الطريق الشاملة، ووضحت خطة العمل الكاملة، واسترشادا بها وسيرا على نهجها أصبحت التجربة المغربية اليوم رائدة في مجال الفتوى الجماعية و الاجتهاد الجماعي وفق قواعد مرسومة و ضوابط معلومة ( الجذوة - مجلة محكمة يصدرها المجلس العلمي الأظعلى بالمملكة المغربية - العدد 2 ص 156 - 172 )
الهوامش :
1 - تصدير عبد الرحمن بدوي لترجمة كتاب: ألفرد بل : الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم" ص:6 و قال الدكتور عبد الهادي التازي: الحقيقة أن العلماء منذ كانوا ، و هم الساعد الأيمن لرئيس الدولة ، فيما كان المستعمر يصور العلماء على أنهم مصدر كل المتاعب و عنصر كل شهر ( جامع القرويين :3/736 ) نوانظر ما ييقرب من هذا القول الأخير في خواطر الصباح – عبد الله العروي :2/60
2 - رسالة السلطان المولى إسماعيل إلى علماء الأزهر – الخزانة الحسنية ضمن مجموع - انظر:السلطة العلمية و السلطة السياسية بالمغارب - تنسيق : حسن حافظي علوي :286 ( الطبعة 1 : 1433هـ = 2012م – دار أبي رقراق – الرباط
3 - النشرة الدورية لدار الحديث الحسنية - العدد الأول – السنة الأولى / ص 9
- دعوة الحق العدد 8 السنة12 / ص5 ( جامعة القرويين في عهد جلالة الحسن الثاني للأستاذ عبد الله كنون )
- عرف ملوك المغرب ألقاب : الخلافة والإمامة العظمى وإمارة المومنين و معناها واحد هو رئاسة الدولة الجامعة لمصالح الدين والدنيا كان لقب كل من المولى إدريس الأكبر و المولى ادريس الأزهر " الإمام" فيما اكتفى محمد بن إدريس الثاني ومن جاء بعده إلى سقوط الدولة الإدريسية بالأمير، وبه تسمى من جاء بعدهم من ملوك دولة زناتة المغراويين واليفرنيين وتسمى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين مراعاة لوحدة الأمة على أساس أن أمير المومنين هو الخليفة ببغداد و على ذلك بقي ملوك الدولة المرابطية بعده، فلما ظهور المهدي بن تومرت اتخد لقب الإمام، فيما اغتنم ملوك الدولة الموحدية فرصة ضعف خلافة العباسيين و الفاطميين فأعلنوا أنفسهم خلفاء قبل سقوط دولة المرابطين ثم اتخذ عبد المومن لقب أمير المومنين الذي استمر ملوك الموحدين متشبتين به إلى نهاية دولتهم ... فيما اتخذ المرينيون بعدهم لقب أمير المسلمين ، قبل أن يتلى ملوك الدولتين السعدية و العلوية بلقب أمير المومنين
- ترتيب الثوابت الدينية بالمغرب حسب الظهور : 1- إمارة المومنين مع المولى إدريس الأكبر ( الإمام ) 2- المذهب المالكي مع تأسيس الدولة المغربية 3- العقيدة الأشعرية بدأت ارهاصاتها الأولى على عهد الدولة المرابطية مع أمثال : أبي بكر الحضرمي و يوسف الكلبي و القاضي عياض، واستقرت البلاد عليها على عهد الدولة الموحدية 4 - التصوف السني ظهر أواخر المرابطين و ترسخ على عهد الموحدين ، وكل هذه الثوابت نشأت و ترعرعت في ظل إمارة المومنين / والذي أدخل الموطأ و مذهب الإمام مالك هو المولى إدريس الأول وكان دراس بن إسماعيل {ت357هـ} و طبقته من علماء المغرب الرعيل الأول من فقهاء المالكية بالمغرب.
- قال الماوردي { ت450هـ} في كلمة موجزة في الأحكام السلطانية: ص 15 " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا " و كلمة ابن عبد ربه في العقد الفريد مفصلة جامعة مانعة اخترناها لذلك و لسبق صاحبها من حيث الزمن ثانيا ولمغربيته من جهة ثالثة .
- العقد الفريد :1/9
- العقد الفريد :1/10
- التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار :1/70 - ضبط نصه و علق عليه : جلال الأسيوطي ( الطبعة الأولى : 1429 هـ = 2008م - دار الكتب تالعلمية – بيروت
- إعداد و تقديم :أحمد الدغرني - الطبعة الأولى
- إعداد و تقديم :أحمد الدغرني - الطبعة الأولى :1407 هـ = 1987 م - مطبعة المعارف الجديدة – الرباط
- تحقيق وتعليق علي سامي النشار
- الإعلام للمراكشي :1/391
- الأنيس المطرب : 22 و انظر : الشافي لعبد الله بن حمزة :1/716
- انظر : شيوخ العصر في الأندلس : 16
- انظر:كتاب سير الأئمة وأخبارهم ( تاريخ أبي زكرياء ( يحيى بن أبي بكر : 50 – 51 و كتاب الأنساب لابن عبد الحليم :74 و كتاب مفاخر البربر لابي علي صالح بن عبد الحليم الإيلاني : 193 – 195 ( دراسة وتحقيق : عبد القادر بوباية – الطبعة الثانية :2008م - دار أبي رقراق - الرباط
- سورة الأحقاف: الآية 32
- الشافي لعبد الله بن حمزة :1/717 - 720 ( تحقيق : مجد الدين المؤيدي منشورات مكتبة أهل البيت اليمن – صعدة ط1 : 1429 هـ = 2008 م – و انظر : الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية 18 - 22 (مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن الإسلامي - الرباط )
- الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء لابن عبد البر :80
- سلفية الإمام مالك للأستاذ ابراهيم الكتاني – ضمن كتاب " الإمام مالك " باعتناء حمزة الكتاني :156 و انظر : الإمام مالك والموطأ و المدونة بعيون مغربية لكاتب هذه المقالة :9
- ترتيب المدارك 2/47
- انظر : ترتيب المدارك 2/130 و كتاب المحن لأبي العرب :264 - 265
- تاريخ الجزائر العام 1/186
- الأنيس المطرب بروض القرطاس: 25
- الأنيس المطرب بروض القرطاس: 32
- قال الراغب في المفردات :" يقال لمن طعن في السن :" الشيخ " و قد يعبر به فيما بيننا عمن يكثر علمه لما كان من شأن الشيخ أن يكثر تجاربه و معارفه" يقول أبو مروان عبد الملك بن زيادة الله الطبني مخاطبا من المشرق ابنه زيادة الله بالأنلس:
يا أهل أندلس ما عندكم أدب ... بالمشرق الأدب النفاح بالطيب
يدعى الشباب شيوخا في مجالسهم ... و الشيخ عندكم يدعى بتلقيب
( الصلة لابن بشكوال : 2/362 –الدار المصرية للتأليف و الترجمة – 1966 م )
واتخذ الشيخ لقبا في عهد الدولة العثمانية لكل من يقوم بوظيفة " الإمامة" في الدين، ويكون أكبر مقاما لدى سلطان المسلمين –( العلماء العزاب لأبي غدة :30 ) قال الشيخ عبد الحي الكتاني : "... ويطلق الشيخ مجازا على المعلم و الأستاذ لكبره و عظمه و جمعه شيوخ، ثم استعملت المشيخة علما على الكراريس التي يجمع الإنسان فيها شيوخه، و هو اصطلاح قديم " فهرس الفهارس 2/52 و انظر: الرسالة المستطرفة لمحمد بن جعفر الكتاني : 105 و فهارس علماء المغرب لعبد الله الترغي :39-40 ،
- ترتيب المدارك :7/110
- الذيل و التكملة 8/ ع224 وله ترجمة في التكملة :3/281
- معجم السفر لأبي طاهر السلفي : ص 46 ( تحقيق : عبد الله عمر البارودي طبعة : 1414هـ = 1393م –دار الفكر - بيروت
- معجم السفر لأبي طاهر السلفي : ص 46
- لم يفرق علماء الحديث بين المرأة والرجل في الرواية ... يقول الحافظ أبو عمر ابن عبد البر : إن خبر الواحد النساء فيه والرجال سواء ، وإنما المراعاة في ذلك في الحفظ والإتقان والصلاح، وهذا لا خلاف فيه بين أهل الأثر ومن ثم سموا العلم الذي يهتم بالرواة علم الرجال، أي رواته ذكورا وإناثا
- معجم المحدثين والمفسرين :18 - معجم شهيرات المغرب : 48 (التمهيد :1/319 )
- ذيل التقييد لمعرفة رواة السنن