من رجالات مراكش:الإمام السهيلي بمراكش (579-581 هـ )
د. عز الدين المعيار الإدريسي (مجلة جامعة ابن يوسف)
مقـــدمة
كلما فكرت في موضوع رجال مراكش السبعة اعترضني أمران:
أحدهما: لماذا وقع الاختيار على هؤلاء الأعلام – بالذات – دون غيرهم؟ وما هي الخصوصيات التي انفردوا بها فجعلتهم في المقدمة وأخرت غيرهم؟ ولطالما تساءلت مع نفسي لماذا لم يكن يوسف بن تاشفين مؤسس المدينة وبطل الزلاقة أول سبعة رجال؟ولماذا لم تكن من بينهم امرأة – منية الدكالية – العابدة الزاهدة المشهورة – مثـلا- مع العلم أن علماء الحديث يطلقون الرجال على الذكور والإناث؟ ولماذا رقم سبعة بالذات؟
وفي كل مرة أعود فأقول: لعل وراء هذا الاختيار أسراراً ظاهرة وخفية منها:
1- الابتلاء الذي ابتلى به كل واحد من هؤلاء الرجال بشكل من الأشكال، فمنهم المنفي من بلده، وربما المقتول خنقا، ومنهم من فقد نعمة البصر فصبر، ومنهم من كان جسده يتساقط بسبب الجذام، فاحتسب وشكر، ومنهم من نذر نفسه لخدمة الفقراء والمحتاجين، فوفى وأنجز، ومنهم من ورث عن شيخه أمانة، فحفظها ورعاها حتى النهاية...
2- تفانيهم في حب رسول الله صلى الله عليهم كما تدل على ذلك آثارهم وأخبارهم، ويكفي أن نذكر من مؤلفاتهم: "الشفا" و " الروض الأنف" و "دلائل الخيرات" و" النقطة الأزلية" لنعرف أي رجال هم..
3- ما اجتمع فيهم أو تفرق من صفات السبعة الذين يظلهم الله في ظله المذكورين في الحديث الذي رواه الشيخان في الصحيح:
" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بالصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
وثانيهما: ما هو النشاط الذي قاموا به في المدة الأخيرة من حياتهم التي قضوها بمراكش قادمين إليها من بلدانهم الأصيلة – أو في مدينتهم- مراكش – نفسها التي عاشوا فيها كيوسف بن علي الصنهاجي (ت 593 هـ) وعبد العزيز التباع (ت914هـ) أو زاروها مرة واحدة ثم أقبروا بها كالجزولي فاستحقوا من أجل ذلك التتويج على رأس رجال المدينة؟
كل هذه الأسئلة وغيرها لا تفتأ تراودني كلما خطر هذا الموضوع ببالي.
وفي هذا الإطار يأتي هذا الرصد للمدة القصيرة والأخيرة من حياة الإمام السهيلي التي عاشها تحت سماء مراكش وبين أهلها وذلك على النحو التالي:
وصول السهيلي إلى مراكش :
عاش الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي في مالقة بالأندلس معظم حياته فقيرا معدما مثله في ذلك مثل كثير من العلماء الذين عاكسهم الحظ وأهملهم الناس لإملاقهم.
شغلنا بكسب العلم عن مكاسب الغنى كما شغلوا عن مكاسب العلم بالوفر.
وصار لهم حـظ من الجهـل والغنـى وصار لنا حـظ مـن العلم والفقر لكن لم يلبث أن ابتسم لـه الحظ، في أخريات حياته، في ظل السياسة الثقافية، التي نهجها الخليفتان الموحديان، يوسف وابنه يعقوب، في استقدام العلماء والأدباء من شتى الجهات، حيث تم في هذا الإطار، استدعاء السهيلي إلى مدينة مراكش.
وينسب ابن دحية إلى نفسه، فضل التعريف بالإمام السهيلي، لدى الموحدين فيقول:" وكان ببلده يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف إلى أن وصلت إليه وصحح" الروض الأنف" بين يديه فطلعت به إلى حضرة مراكش فأوقفت الحضرة عليه فأمروا بوصوله إلى حضرتهم وبذلوا لـه من مراكبهم وخيلهم ونعمتهم وقوبل بمكارم الأخلاق وأزل الله عنه علام الإملاق"
والظاهر أن ابن دحية وغيره من تلامذة السهيلي ساهموا – جميعا- كل من موقعه في التعريف بأستاذهم وبكتابه النفيس " الروض الأنف" وكان بعضهم مكينا عند ملوك وأمراء الموحدين كأبي محمد عبد الله بن حوط الله الأنصاري (ت 612 هـ) ولي القضاء بمدن كثيرة في الأندلس والمغرب، وكان يميل في الاجتهاد في نظره، ويغلب طريقة الظاهرية، ومثله أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي الأنصاري (ت 625 هـ) وكان قاضي الخلافة المنصورية ويميل هو الآخر إلى الظاهر في أحكامه وعلى ذلك كان المنصور الموحدي
ومهما يكن فإن السؤال الذي يطرح نفسه – هنـا – هو متى كان وصول السهيلي إلى مراكش؟ وكم بقي فيها إلى أن وافاه الأجل المحتوم؟
إن جل المصادر والمراجع، تجمع على أن مدة إقامة السهيلي بمدينة مراكش، نحو ثلاث سنوات، هي تمام العمر ونهاية الأمر، وإذا كانت وفاته في أواخر شعبان سنة 581 هـ حسب ابن دحية وأكثر مترجميه، فإن مجيئه إلى مراكش سيكون في حدود 578 هـ أو 579 هـ على عهد يعقوب يوسف بن عبد المومن الموحدي (ت 580)
نشاطــه بمراكـش
كان يعتقد إلى وقت قريب، أننا لا نعرف الكثير عن نشاط السهيلي بمراكش ولا عمن أخذ عنه بها.
وإذا كان ذلك صحيحا إلى حد ما، فإنه ليس على إطلاقه، لأن ما نقف عليه بين الفينةو الأخرى من معطيات جديدة، يشجع على المضي في البحث ويقربنا من الحقيقة ولو نسبيا، وفيما يلي جملة من المعلومات المرتبطة بالموضوع وبعضها يكشف عنه لأول مرة فيما أعلم :
أولا- دروسه بمراكش :
على الرغم من قصر المدة التي عاشها السهيلي تحت سماء مراكش فقد كان له نشاط علمي متميز.
يقول صاحبا أعلام ملقة :" وامتد به أجله وأنساه في شأو الحياة مهله، حتى تطلع في سماء مجلس أمير المومنين بدرا، وتبوأ منه بعلمه البارع محلة ووكراً فخلع على أهله من منمنم أمداحه خلعا وابتع من مليح قريضه بدعا أصارت إليه منهم قلوبا وأنالت من أكفهم مأمولا ومطلوبا.."
ويبدو أنه استطاع بذلك، أن يسرق الأضواء من بعض علماء الموحدين "الطلبة" حتى ضاقوا ذرعا.
يقول ابن دحية :" وفي كل يوم يجنيهم من حديثه أزهارا، ويقطفهم من ملحه أسا وبهارا، حتى حسده الطلبة، وجردوا لملامه حساما، وحددوا للكلام فصولا وأقساما"
ومن المعلوم، أن ملوك وأمراء الموحدين،كانوا من العلماء، وكان المنصور، كثيرا ما يعد أمورا للمذاكرة بمجلسه.
يقول ابن عبد الملك المراكشي:" كان المنصور من بني عبد المومن كلما وقعت له مسألة غريبة وقدر شذوذها ذكرا أو فهما عن الحاضرين بمجلسه من أهل العلم".." أجرى ذكرها بينهم فوقعت المذاكرة فيها بينهم حتى استوفى كل منهم ذكر ما حضره فيها استشرق المنصور إلى الشفوف عليهم باستقصاء ما من الأجوبة فيها لديهم"
لكن وجود مثل أبي محمد ابن الفرس في المجلس، طالما أفسد على المنصور خطته،إذ كان سرعان ما يتقدم فيقول:" بقي فيها كذا وكذا فيأتي على ما كان المنصور قد أعده للظهور بينهم، وكثر هذا من أبي محمد حتى استثقله المنصور فكان من أكبر الدواعي إلى هجرته"
ومن ثم فلا عجب، أن يناصب طلبة الموحدين،أبا زيد السهيلي العداء، لأنهم كانوا يعتبرون أحاديثه، الغنية بالعلم والأدب، تعالما عليهم واستعلاء، مع ما كان يمتاز به، على كثير من معاصريه، من ذكاء حاد وفهم ثاقب.
كان أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن الفخار الأنصاري المالقي المتوفى بمراكش سنة 590هـ أحفظ أهل زمانه حتى قال:" ثلاثة كتب هي عندي كسورة من القرآن" كتاب مسلم" يعني الصحيح و" المقدمات" لأبي الوليد بن رشد و" التقصي لأبي عمر بن عبد البر"
ولعلمه وجلال قدره،استجلبه المنصور الموحدي إلى مراكش سنة 580هـ،عن هذا الرجل يقول السهيلي، فيما رواه عنه تلميذه أبو سليمان بن حوط الله قال:" سمعت شيخنا أبا زيد السهيلي يقول:لما شهدت من حفظ أبي عبد الله ابن الفخار صاحبنا ما عجز عنه غيره، ورأيته قد تقدم في ذلك، قلت: كيف أسود مع هذا؟ فرزقني الله من الفقه، ما قصر عنه وسواه، والحمد لله على ذلك كثيرا"
تلامذته لإمام السهيلي بمراكش:
يستفاد من تراجم تلامذة السهيلي بمراكش – الآتية أسماؤهم- أن المادة التي كان يدرسها لهم هي السيرة النبوية من خلال كتابه:" الروض الأنف" ومعلوم أنه في هذا العصر كانت الكراسي العلمية قد أخذت مكانها ببعض المساجد والجوامع بعد انطلاقتها أواخر العصر المرابطي بكل من جامعة القرويين بفاس وجامعة ابن يوسف بمراكش:
1- أبو حفص عمر بن عبد الله ابن صمع القرشي(ت 598هـ) تونسي نزل مراكش وبها مات(11)
2- أبو عبد الله محمد بن عبد الحق بن سليمان اليعمري أو اليفرني ويقال البطوني تلمسيني(ت 625(هـ) له برنامج في شيوخه سماه:" الإقناع في ترتيب السماع" مات بتلمسين(12)
3- أبو العباس أحمد بن مفرج اللخمي النباتي (ت 637 هـ) سمع على السهيلي بمراكش السير وتأليفه" الروض الأنف" في شرحها(13)
هؤلاء بعض تلامذته الذين أخذوا عنه بمراكش زيادة على الذين لقوه أو يمكن أن يكونوا قد لقوه بمراكش من تلامذته القدماء كابن دحية ومحي الدين بن عربي وأبي القاسم بن بقي وغيرهم.
ثالثا- قضاء مراكش :
أكد الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ تولى الإمام السهيلي خطة القضاء، فقال:
" وبلغنا أن السهيلي ولي قضاء الجماعة فحمدت سيرته كذا وجدت على ظهر كتاب فرائضه"(14)
وذكر كل من الصفدي في نكت الهميان وابن الجزري في غاية النهاية أن السهيلي تقلد منصب قضاء الجماعة وحسنت سيرته(15).
وإذا صح ذلك فالأقرب أن يكون بمدينة مراكش خلال المدة القليلة التي قضاها بها والتي خرج فيها من عهود الفقر والعوز إلى عهد السعة واليسار.لكن قضاءه في هذه الفترة بالذات يطرح عدة تساؤلات من أهمها كيف يتأتى له ذلك وهو فقيه مالكي في ظل توجه ظاهري لا يخفى للمنصور الموحدي مع ما للعلماء في تولي المكفوف القضاء من كلام وربما يكون قد تولى القضاء في إطار مخصوص وبتوجيه من السلطان كقضاء النساء-مثلا، مع ما كان يتميز به من استقلال الشخصية وانتصار للرأي الاجتهادي القائم على الاستقراء والتأمل مما يجعله يتفق أحيانا مع الظاهرية عن غير قصد كقوله:" إن البسملة آية من كتاب الله تعالى مقترنة مع السورة وهو قول داود وأبي حنيفة وهو قول بين لمن أنصف"(16)
رابعا- السكنى بالقنارية :
حكى ابن الموقت في " السعادة الأبدية" أن السهيلي لما استقدم إلى مراكش لم يطق فراق بيته وأهله ولم يخف ذلك عن السلطان الذي أمر بتصوير محله وبنيانه بمراكش على ما هو ببلده مالقة فبنى كذلك وبعث لأهله من غير علمه إلى أن وصلوا للمحل، الذي هو نظير محلهم فبعد ذلك أمر السلطان الفقيه المترجم لله أن يجتمع بأهله في محله فلما دخل وجد أهله والمحل كأنه محله الأصلي من غير زيادة ولا نقصان ووجد جميع ما يملكه في محله الأول حاضرا فتعجب من ذلك"(17)
إن تشابه هذه القصة مع قصة ابن زهر لا تفيد التعارض كما يفهم لأول مرة، بل تفيد التعاضد ومن تمام الاهتمام بالشخصيات العلمية المرموقة أن تحاط بالعناية اللازمة وتوفر لـهم كل أسباب الراحة وفي مقدمتها السكن المريح ثم إن الشيء الذي يؤكده هذا البحث هو أن السهيلي ترك- فيما يبدو فعلا- أهله بمالقة كلهم أو بعضهم.
لقد تساءل الدكتور محمد إبراهيم البنا- من قبل- عن سر تعدد كنى السهيلي فهو أبو القاسم وأبو زيد وأبو الحسن ثم قال:" لعله كني بأسماء أولاده، وإن كنا لا نعرف عنهم شيئا(18).
واليوم نحن نقول : إننا نعرف واحدا من أبناء السهيلي على الأقل وقد ترجمه صاحبا أعلام مالقة وهو أبو الحسن علي وقالا:"إنه كان رحمه الله من أهل الطلب والنباهة عفيفا فاضلا دينا ورعا وكان مشتغلا بصنعة التوثيق مشهور الفضل والديانة"(19)
خامسا- محنته: تمثل مسألة نسب المنصور- إن صحت- خاتمة غير سعيدة لحياة الإمام السهيلي وذلك أن أبا القاسم الملاحي(ت 619 هـ) وهو تلميذ السهيلي قال في معرض التعريف به في تاريخه:" أقصاه المنصور وأبعده لسقطة سقطها وهي أنه ألف كتابا في المنصور الموحدي- من ذرية عبد المومن بن علي- وجعله من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أكد معجزات" (20).
وهـذه مسألة غير بريئة وتحتاج إلـى مزيـد مـن البحث لأن وراءهمت فيما يبدو ومؤامرة مدبرة مـن طلبة الموجدين وإلاَّ كيف يكون إثبـات شرف يعقوب سببـا لإقصائـه؟
وفاتــه :
قال ابن دحية:" وكان وصوله إلى الحضرة والعمر قد عسا وذبل عوده وأفل سعوده فعندما عاش مات"(21) .
أو كما قال القاضي عبد الوهاب ونفسه تتصعد:" لا إلـه إلا الله لما عشنا متنا".
وكانت وفاته حسب أقدم نص في الموضوع" بحضرة مراكش يوم الخميس ودفن ظهره وهو اليوم السادس والعشرون من شعبان عام أحد وثمانين وخمسمائة".
ودفن بما كان يسمى " جبانة الشيوخ" بحي باب الرب وضريحه معروف.