بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في ذاكرة ملك

تاريخ نشر المقال 07-05-20 12:18:58

    على الرغم من كثرة الموضوعات التي تناولها كتاب «ذاكرة ملك» لجلالة الملك الحسن الثاني، فلأن السمة التي تطبعه، تنسج خيوطه من أوله إلى آخره، هي سمة التوفيق بين الأصالة ولمعاصرة في خط متواز، وانسجام تام، لا تناقض فيه ولا نشاز
وهذا ما لا حظه الصحفي الفرنسي «إيريك اوران» حين قال في تقديم الكتاب:
«... فملك المغرب ذو الثقافة الغربية، ظل متمسكا بجذوره المغربية والإسلامية، كما أنه كان على الدوام الرجل الذي يوفق بين الصالة والمعاصرة».
ولا يخفى أن التوفيق بين الأصالة والمعاصرة شيء ضروري ولازم للدفع بالحياة إلى الأمام، في حركة فعالة هادفة، وأن كل انغلاق على الذات من شأنه أن يؤدي إلى الجمود والتخلف عن ركب الحياة التي لا ترحم الجامدين، كما أن التحرر المطلق يؤدي إلى فقدان الشخصية، وبالتالي إلى الضياع في مهب الرياح.
على أن التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ليس أمرا يسيرا، يمكن أن يقوم به كل الناس، بل هو من المعادلات الصعبة التي لا يستطيع حلها إلا الأفذاذ من الرجال.
وجلالة الملك الحسن الثاني من ذلك الطراز النادر من القادة العظام، الذين حباهم الله القدرة الفائقة على التجاوب مع الحياة في كل إيجابياتها، من منطلق مجموعة من المبادئ والقيم التي يؤمنون بها ويخلصون لها، وهو كما يقول عن نفسه:
«أنا رجل مبادئ ولست رجل مواقف، يمكن أن أغير موقفي إذا دعت الضرورة إلى التغيير، على ألا يكون ذلك البتة على حساب المبادئ».(1)
إن الحضارة الإسلامية – التي يعتز جلالته بانتمائه إليها – حضارة عالمية، تفتح ذراعيها للجميع وتطلب الحق والفضيلة أينما وجدا، وأيا كان مصدرهما.
وفي هذا يقول جلالته في كتاب «التحدي»:
«إن علينا أن نربط الماضي بالحاضر لنعد المستقبل لأنه – وأريد أن ألاحظ هنا بقوة – لا يوجد أي تناقض أو تعارض – بل على العكس – بين الرسالة الرئيسية للإسلام من جهة وبين التيارات الكبيرة العلمية والإبداعية الفنية المعاصرة والروح الإنسانية من جهة أخرى».(2)
وبعد، فنظرا لوفرة مادة هذا الكتاب الفريد من نوعه وتشعبها – مما يعجز المرء عن الإحاطة به واستعراضه في كلمة قصيرة كهذه - اكتفي هنا بتقديم جملة من الأمثلة، أعتقد أنها تبرز بجلاء ووضوح مدى قدرة جلالته على التوفيق بين الصالة والمعاصرة في شموخ عظيم وعبقرية فذة.

أولا: الملكية الدستورية:
يقوم نظام الحكم في المغرب منذ المولى إدريس الأول إلى جلالة الحسن الثاني على مبدأ البيعة التي تنظم العلاقة بين الراعي والرعية، وفق ما حددته الشريعة الإسلامية الغراء، وطبقه الرسول الكريم، والخلفاء الراشدون من بعده، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وهذا التكليف الإلهي يفرض، كما يقول جلالة الملك:
«أن يكون أمير المؤمنين مسلما سنيا، وأن يسهر على تطبيق الشريعة الإسلامية، وتسيير الشؤون الدنيوية».(3)

إن البيعة يقول جلالته:
«شيء لا يمكن التلاعب به، وأنا مرتبط بالتزاماتي تجاه رعاياي، كما أن هؤلاء مرتبطون بالتزاماتهم تجاهي، فإني في نفس الوقت خديمهم وملكهم، وهو أمر يصعب فهمه في الغرب».(4)
وفي ظل الكتاب والسنة يجتهد أمير المؤمنين والعلماء والفقهاء لإيجاد التأويل المناسب للاكتشافات والتطورات الطارئة على المجتمع مع الحرص - كما عبر جلالته الملك – على ألا تتعارض هذه التأويلات مع أصول الشريعة الإسلامية.(5)
أما إذا وقع التعارض فالموقف يختلف، يقول جلالته:
«إذا كانت العصرنة تتنافى مع ديننا، أو من شأنها أن تقوض هويتنا ومجتمعنا، فسأكون مضطرا في البداية إلى التنبيه، ثم إلى الإنذار، وأخيرا إلى المنع عند الاقتضاء».(6)
واعتمادا على الشورى امتثالا لقوله تعالى ?وأمركم شورى بينكم?، (7) ومواكبة للتطور، وفي إطار الديمقراطية التي يمنحها جلالته لشعبه، غدت الملكية بالمغرب وفق الدستور الجديد كما يقول جلالة الملك:
«مثل تلك المظلة يحتمي بظلالها الكثيرون، بينما أتلقى أنا ضربات الشمس».(8)

ثانيا: التربية ونظام الأسرة:
حظي جلالة الملك الحسن الثاني بتربية دقيقة من قبل والده المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه الذي حرص كل الحرص على أن يرى الأمير مولاي الحسن أهلا للمهمة الصعبة التي سيتقلدها من بعده، ومن ثم كان الأمر يصل أحيانا إلى حد الصرامة.
يقول جلالة الملك:
«عشت طوال سني الطفولة والمراهقة في جو يشبه جو المحكمة، كنت أعلم أنه يمكن في الطور الابتدائي للمحاكمة توقع صفح أساتذتي أو مربيتي، أما في الطور الاستئنافي عندما يصل الأمر إلى والدي، فإن العقاب يصبح أمرا واردا».(9)
وعاش جلالته وفق توجيه والده المقدس مثل سائر المواطنين، يقضي كل عطلة في شواطئ الرباط والدار البيضاء، حيث كان يمارس رياضة كرة القدم، هذه الرياضة الشعبية التي يقول جلالته:«إنه يحبها كثيرا».(10)
وقد هيأت هذه الحياة لجلالته فرصا كثيرة لأن يعاشر في صدر شبابه عددا من المواطنين، الذين أصبحوا بعد ذلك نزلاء سجون الحماية، ثم أساتذة جامعيين، كما استطاع أن يلمس عن كثب ظاهرة العنصرية التي كان يمارسها إذ ذاك بعض الفرنسيين المقيمين بالمغرب.(11)
وبفضل هذه التربية، وهذا التوجيه استطاع جلالته أن يتعرف على محيطه، يقول جلالته:
«إن ما أنقذني أنا هو أني قضين – بسبب ظروف الحرب – سنوات شبابي هنا بالمغرب، وإلا ربما كنت سأصبح نصف غريب في بلدي».(12)
وبذلك كان جديرا بالثقة التي كان يضعها فيه جلالة والده محمد الخامس طيب الله ثراه، فكان الساعد الأيمن له، والمؤتمن على أسراره.
وعند تنصيبه وليا للعهد لم يفت والده المنعم أن ينوه به أحسن ما يكون التنويه، وبذلك يقول جلالة الملك الحسن الثاني:
«أيقنت أني نلت بطاقة تعريفي كمواطن صالح وولد بار ووسامي كمقاوم أيضا».(13)
أما في مجال نظام الأسر، فإن جلالته مؤمن بدور الأسرة الحيوي في بناء المجتمع وتربية الأجيال، في إطار رابطة الزواج التي تضمن علاقة البر والإحسان بين الآباء والأبناء، ويرفض جلالته أن تكون الهجرة – مثلا – نحو المدن بالمغرب، مما يفضي إلى تفكك الخلية الأسرية قائلا:
«عن المدن تكبر وتتسع نظرا لكون الخلية الأسرية تتشكل من جديد، ذلك أن الابن يستقدم أبويه للعيش معه، وتصبح العائلة مكونة من عشرة أفراد يعيشون تحت سقف واحد».(14)
«إن تفكك الأواصر العائلية بالغرب – يقول جلالة الملك – مما يبعث على الشفقة، ويوم نشرع – لا قدر الله – في بناء دار لإيواء العجزة بالمغرب، فذلك يعني أن المغرب الحق قد انتهى، وعلى أية حال، سأكون أول من يتقرب إلى الله بإحراقها».(15)
ولا يخفي جلالته انشغاله بموضوع الزواج بالأجنبيات خاصة بالنسبة للأمراء.
يقول جلالته:
«إن ما يشغلني كثيرا إلى درجة أنني أفكر في تحرير ظهير بشأنه (...) هو تقنين زواج الأمراء المقبلين لأنني أريد أن أحظر – وإلى الأبد – الزواج من أجنبية ولو عربية كانت أو مسلمة، فالوطنية والتعلق بالوطن والتمسك بأصالته أشياء نرضعها مع حليب أمهاتنا...».(16)

ثالثا: الثقافة:
يبدو جلالة الملك الحسن الثاني من خلال «ذاكرة ملك» متنوع المعارف، متسع الآفاق، قد اغترف من معين الثقافة الإسلامية أو في نصيب، ونال من الثقافة الغربية عيونها، وروائع فكرها وآدابها، ومن ثم يلتقي في أحاديث جلالته الشرق والغرب، يبدأ أحاديثه بآية من الذكر الحكيم، أو بحديث من أحاديث جده المصطفى الأمين، ثم لا يلبث أن يستحضر عددا هائلا من النصوص والأفكار لكبار الزعماء والفقهاء والمفكرين والعلماء المتخصصين، وهو في كل ذلك منسجم مع المحور الذي يدور الحديث حوله، مالك لزمامه ببراعة وبلاغة قلما تتفقان لأحد، حتى إن الجنرال «دوكول» - وهو من هو من حيث التجربة الطويلة، والأصالة في الفكر والنظر – لم يكن يخفي إعجابه الكبير بثقافة جلالته، وسلالة عبارته، إلى درجة قوله: «ليس من السهل التحدث قبلكم يا صاحب الجلالة»، (17) وذلك عقب الخطاب الذي ارتجله جلالته بقصر «الإيليزي» بفرنسا، ردا على خطاب الجنرال «دوكول»بمناسبة منح كلية الحقوق «ببوردو» دكتوراه فخرية لجلالته.
وعلى الرغم من أن تكوين جلالته الأول قانوني إلا أن ذلك لم يحل دون تعميقه لثقافته في شتى مجالات العلم والمعرفة، وإلمامه الكبير بالتاريخ، حتى كان كما يقول عثمان العمير في مقدمة الطبعة العربية لـ: «ذاكرة ملك»:
«يبسط لك قرونا كاملة تجمعت في أربعة عقود من الزمن في جرعة صغيرة من الفصول».
وبعد، فإن جلالة الملك الحسن الثاني هو ضمير هذه الأمة، وقلبها النابض، وصانع أمجادها، ومحقق آمالها، والمعبر الصادق الأمين عن واقع المغرب الأصيل المتحضر، أو كما قال جلالته:
«إن بلدنا هذا لم ينكمش قط ولم ينغلق، بل كان لمثابة الشجرة جذورها في أعماق الأرض الإفريقية، وأغصانها وأوراقها ممتدة نحو أروبا».(18)

(1) ذاكرة ملك: 21 الطبعة العربية.
(2 )كتاب «التحدي» لجلالة الملك الحسن الثاني: 298. ط:2 الطبعة الملكية 1403هـ/1983م.
(3) نفسه:55
(4) نفسه:56.
(5) نفسه: 56.
(6) نفسه: 56.
(7) االشورى: 38.
(8) ذاكرة ملك:58.
(9) نفسه:11.
(10) نفسه: 29.
11) نفسه: 3.
12) نفسه:133.
13) نفسه: 13.
14) نفسه: 147.
15) نفسه: 127.
16) نفسه: 124.