توطئة:
على مدى خمسة عشر قرنا أو تكاد، ظلت الحضارة الإسلامية، تسطع أنوارها أحيانا حتى تملأ الدنيا بكاملها، وتخفت حينا، لكن دون أن تنطفئ أو يخبو نورها.
فجر ينابيعها الوحي الإلهي، وجسدها حقيقة ملموسة باهرة، محمد بن عبد الله، رسول الله، وصفوة خلقه، ومن يومها والمسلمون – بتوفيق من الله وعونه – يدعمونها، ويذودون عنها، كل حسب طاقته وظروفه,
وقد حفظ لنا التاريخ، أسماء رجال عظام، قبضهم الله لخدمة هذه الحضارة ودعمها، فنقشوا عليها بصمات، يضعها الزمان على مفرقة تاجا، وفي فمه أغرودة عذبة رائعة، تتغنى بها الأجيال تلو الأجيال.
ومن أولئك الأفذاذ، الذين يشرف التاريخ أن ترصع أسماؤهم جبينه، وتوشي أعمالهم نسيجه، أمير المومنين جلالة الملك الحسن الثاني، رائد البعث الإسلامي، ومحقق آمال المسلمين، فمن وحي دور جلالته، في دعم الحضارة الإسلامية أقتبس هذه الأقباس.
الفكر الحضاري لجلالة الحسن الثاني
ننطلق في تقديم بعض ملامح الفكر الحضاري لجلالة الحسن الثاني، من كلمة سامية لجلالته، اقتطفناها من خطاب العرش لسنة 1986م.
يقول جلالته: لقد دخل المغرب دائرة الحضارة، يوم دخل في دين الله، ويوم جعل كتاب الله وسنة نبيه ورسوله، دليل حياته، الذي لا يخطئ ولا يزيغ
نعم، إن هذه الثقافة المستمدة من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، هي التي أمدت الحضارة الإسلامية، بكل عناصر القوة والصلاح، فغدت حضارة عالمية إنسانية خالدة، تتميز بالرحمة والإنصاف، وتتجاوب مع طبائع النسا ومواهبهم.
واهتمام جلالة الحسن الثاني بالكتاب والسنة، علما وعملا، أمر تحدثت به الركبان. وقامت شاهدة عليه شواهد العيان. كيف لا، وهو حفيد رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، ووارث سر محمد الخامس طيب الله ثراه، يفتتح خطبه ويختتمها بآيات من الذكر الحكيم، ويستهد في كثير من المواطن بأحاديث النبي الكريم. ويعرف المطلعون على أحوال جلالته – في حياته الخاصة – أنه لا ينام كل ليلة، إلا بعد أن يقرأ حزبا من القرآن، قراءة إمعان وتدبر، واستلهام وتفكر. (2)
وقد بلور جلالته أفكاره السديدة، المنطلقة من الكتاب والسنة، في الرسالة السامية، التي وجهها إلى أبنائه المغاربة – خصوصا- وإلى إخوانه المسلمين عموما – بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجري فشفى وكفى، وأزال الغشاوة عن العيون، ووضح المنهج السليم والصراط المستقيم، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك.
إنها رسالة تاريخية عظيمة بحق، وهي كما عبرت مجلة دعوة الحق وثيقة عمل للتغيير الإسلامي المنشود، سواء في الفكر والتصور والرأي والتنظير، أو في الواقع والحركة والفعل الحضاري لأمتنا من جهة، وللإنسانية جمعاء من جهة ثانية .
لقد أبرز جلالته كيف أن الإسلام المنبثق من كتاب الله وسنة رسوله.، هو دين يقرر كرامة الإنسان، ولا يرضى له بالتعرض للذل والهوان، وهو دين العلم والحرية، الذي لا يعرف التحفظ ولا التقية، يدعو أتباعه دعوة ملحة إلى تعلم العلوم والفنون واللغات، ويسمح لهم بالتفتح على جميع الحضارات، إذ بذلك ينالون أسباب القوة والخلود، ويتفادون أخطار الجمود والجحود، وهو دين الوفاء بالعهود، والعدل الوارف الظلال، والإحسان الشامل للوجود، وهو دين تقوم تكاليفه على أساس الرفق والتيسير، ورفع الحرج والبعد عن كل تعسير، وهو دين يعامل الناس بالإنصاف والسوية، ويلزم بالشورى بين الراعي والرعية، ويحذر المسلمين من التنازع المؤدي إلى الفشل، ويحضهم على وحدة الهدف والعمل 4
إنها درر غالية، وفهم عميق لفلسفة الإسلام ومبادئه، وربط محكم للحاضر بالماضي، واستشرف لغد أفضل، وأكثر تألقا وإشرافا، ولا عجب في ذلك، فإن الحضارة هي عمل الإنسان القائم على العلم والهداية، وباعتباره صانع الحضارة وأهم ركن فيها، وجلالة الحسن الثاني مؤمن بالمنهج الرباني، مقتبس من أنواره، معتمد عليه في تفكيره وسيرته، باعتباره أميرا المؤمنين، فهو يمثل القيادة الحازمة التي تجد في إيصال الهداية إلى الناس، وتحقيق نتائج الحضارة الإسلامية، المتمثلة في السعادة العلمية للناس، وتجنيبهم ويلات التنازع والاختلاف. ولن يتم ذلك إلا في حضارة يتم فيها التناغم بين الروح والمادة، (5) لتنسجم مع فطرة الإنسان وتكوينه الرباني المتكامل.
وهذا ما أشار إليه جلالة الحسن الثاني، بدقة وبلاغة في قوله وهو يتحدث عن الحضارة المادية القائمة.
إذا كان التقدم المادي، قد خطا خطواته العملاقة (...) على حساب القيم الإنسانية؛ فإنه يسير ولعله قد وصل الآن إلى متاهات الضياع، فأصبحت المجتمعات المتقدمة تبحث عن نفسها أو عن نصفها الضائع، وهذا البحث يشكل إحدى معضلات العصر الكبرى، وأبرز أسباب القلق فيه 6)
وباختصار شديد، فإن جلالة الحسن الثاني بكل الخصائص والخلال التي يتحلى بها ويتصف، وبكل ما حباه الله من إمكانات هائلة، وطاقات فائقة، وما ألهمه من رشد وسداد وحكمة ونفاذ، لا يؤمن بحضارة منغلقة على نفسها، نرجسية أنانية تعشق ذاتها وتكفر بغيرها، بل الحكمة ضالة المومن أنى وجدها التقطها، والحضارة الإسلامية حضارة عالمية تفتح ذراعيها للجميع، وتطلب الحق والفضيلة أينما وجدا وأيا كان مصدرهما.ودون أدنى تبعية أو ضغوط خارجية، ومن ثم علينا كما قال جلالة الحسن الثاني:
أن نربط الماضي بالحاضر لنعد المستقبل، لأنه – وأريد أن ألاحظ هنا بقوة – لا يوجد أي تناقض أو تعارض – بل على العكس – بين الرسالة الرئيسية للإسلام من جهة، وبين التيارات الكبيرة العلمية، والإبداعات الفنية المعاصرة والروح الإنسانية من جهة أخرى
جلالة السحن الثاني وحوار الحضارات:
يجد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في جلالة الحسن الثاني، المجمع لأمة الإسلامية، الموحد لصفها، المتفاني في الإخلاص لقضاياها، وما دعوة جلالته، لانعقاد أول مؤتمر إسلامي على أرض المملكة المغربي، عقب إحراق المسجد الأقصى سنة 1969م، إلا شاهد – من عدة شواهد – على ذلك، ثم ما أعقبه من مؤتمرات إسلامية وعربية في المغرب الذي أصبح بفضل عبقرية وحكمة جلالة الحسن الثاني، أرض الحوار البناء الهادف، ومركز القرار الصائب الواعد..
ولم تقف همة جلالته وفكره الحضاري، عند حدود خارطة العالمين العربي والإسلامي، بل تجاوز ذلك إلى العمل من أجل الإسهام في تحقيق العدل والسلام، والتعايش بين سائر الأمم والديانات في جميع أنحاء المعمور، حتى غدا جلالة الحسن الثاني، أحد أبرز رجالات السلم والحوار في تاريخ المعاصر، سواء على مستوى الأمم المتحدة، أو في إطار دول عدم الانحياز أو منظمة الوحدة الإفريقية، أو غير ذلكن بالإضافة إلى دور جلالته الفعال في منظمة الوحدة الإفريقية أو غير ذلك، بالإضافة إلى دور جلالته الفعال في منظمة المؤتمر الإسلامي، والجامعة العربية، واتحاد المغرب العربي.
وفي إطار التسامح الديني، والحور الإسلامي المسيحي يفي العصر الحاضر. نجد جلالته يقوم بزيارة للفاتيكان سنة 1980 بصفته رئيسا للجنة القدس، وناطقا باسم منظمة المؤتمر الإسلامي. وفي سنة 1985، يقوم البابا يوحنا بولس السادس – من جهته – بزيارة مماثلة إلى المملكة المغربية، استجابة لدعوة كريمة من أمير المومنين جلالة الحسن الثاني، فكان ذلك من أروع صور الحوار البناء، الهادف إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة، التي علقت بأذهان المسيحيين إزاء الإسلام والمسلمين زمنا طويلا، ومن أعظم المبادرات المباركة الصادقة، التي تعمل على تقريب الهوة بين مختلف الديانات السماوية، وبالتالي بين سائر الشعوب والأمم لنشر المحبة والتفاهم والسلام بين كل الأنام.
ولا يخفى أن هذا هو عمق الحوار الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من الله تعالى عند نزول هذه الآية:
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله).(8)
فما أشبه اليوم بالأمس، وما أحوجنا إلى مزيد من المبادرات الناضجة المخلصة، من أجل تحقيق حضارة إنسانية متكاملة يتساوى تحت ظلالها كل البشر.
وموقع المغرب وتاريخه، يؤهلان لأن يلعب أعظم الأدوار في هذا الاتجاه، لأنه كما قال جلالة الحسن الثاني:
;المغرب يشبه شجرة تمتد جذورها المغذية امتداد عميقا في التراب الإفريقي، وتتنفس بفضل أوراقها التي يقويها النسيم الأوروبي.
بيد أن حياة المغرب، ليست عمودية الامتداد فحسب، بل هي تمتد كذلك امتداد أفقيا نحو الشرق، الذي نحن مرتبطون معه بالتالد والطارف من الصلات الثقافية(...)
إننا ورثة الذين أعادوا إلى الغرب في الماضي حضارة يونانية وأخرى متوسطية كانتا مجهولتين في أوربا". (9)
إلى أن يقول جلالته: إن الإسلام على الدوام عنصر تركيب – كما برهن على ذلك فيما مضى – وهذا التركيب والتوحيد هما اللذان نحتاج إليهما جميعا. إن بلدنا هو جسر فوق الزمان والفضاء (10)
من مظاهر الحضارة الإسلامية بالمملكة المغربية في العهد الحسني:
تلك بعض إسهامات جلالة الحسن الثاني، من أجل إسعاد البشرية، وتقريب الهوة بينها، سقناها بين يدي ما نحن بصدد الوقوف عليه. من معالم الحضارة الإسلامية بالمغرب، في ظل القيادة الرشيدة لجلالة الحسن الثاني، إيمانا منا أن الحضارة صرح مشترك بين جميع الأمم، وأن كل أمة تضع فيه من اللبنات بقدر ما تسمح به بيئتها وظروفها.
إننا إذا ما ذهبنا نتتبع، ما أنشأه جلالته من مآثر دعما لكتاب الله المبين، وسنة نبيه الأمين، وما أقامه من مؤسسات، وما حققه من إنجازان منبثقة من تعاليم الإسلام، مندرجة تحت لواء حضارته؛ فسنجد أنفسنا إزاء آثار لا حصر هلا ولا حدود، ولا تتأتى صياغتها مجتمعة في مقال محدود كهذا، ومن ثم فليس في وسعنا إلا أن نقتصر على بعض الإشارات، قصد التذكير والإشادة، لا الحصر والتعداد:
1- نظام الحكم والشورى:
يقوم نظام الحكم في المغرب، منذ إدريس الأول إلى الحسن الثاني، على مبدأ البيعة التي تنظم العلاقة بين الراعي والرعية، وفق ما حددته الشريعة الغراء، وطبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم – من بعده ثم من سار على دربهم إلى يوم الدين.
وعليه بالملك هو أمير المومنين، وخليفة رسول رب العالمين، يهتدي بهديه ويقضي بقضائه، ويجتهد في ظل روح شريعته، مواكبة للعصر وانسجاما مع الظروف القائمة، والمستجدات الطارئة.
وينص الدستور المغربي في الفصل التاسع عشر على أن:
"الملك أمير المومنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات.
أما الرعية؛ فهم المومنون المأمورون بالسمع والطاعة والنصيحة لأمير المومنين، وفق أمر الله عز وجل:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول).(11)
وأمير الومنين جلالة الحسن الثاني المؤتمن على نظام الحكم بالمغرب، ووارث أسلافه المنعمين، يدرك أن الدولة لا يمكن أن تكون إسلامية إلا إذا قامت حياتها على أساس من مبادئ الإسلام في السياسة والاجتماع والأخلاق، وإلا إذا صبت هذه المبادئ في صلب دستورها السياسي، وإلا إذا اعتمدت الشورى أساسا لرعاية حقوق الرعية، امتثالا بقوله تعالى:
(وأمرهم شورى بينهم).(12)
من هذه المنطلقات، وبناء عليها، استطاع جلالة الملك الحسن الثاني أن يضمن لبلاده دولة إسلامية عصرية متطورة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، توتي أكلها كل حين بإذن ربها، لا تزيغ عن المنهج الذي رسمه القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ولا تصطد مع أرقى أنظمة الحكم والسياسة في العالم.
2- الثقافة الإسلامية:
غير خاف أن الثقافة جزء من شخصية الأمم، وأن الأمة التي تفقد ثقافتها تفقد تاريخها، وبالتالي هويتها، وجلالة الحسن الثاني – رائد البعث الإسلامي وأبرز رجالات الصحوة الإسلامية ورموزها في العصر الحاضر – أدرك منذ الولهة الأولى.
ما للثقافة الإسلامية من دور هام في بناء الحضارة وازدهارها، ورأى أن كثيرا من مقومات هذه الثقاة بدأت تتقلص، وأن عددا من روادها بدأوا يرحلون تباعا إلى جزار ربهم؛ فعمد جلالته إلى إعادة بناء ما تهدم أن اندرس من عوامل قيام ثقافة إسلامية متجددة، قابلة للتطور، قادرة على العطاء، وهضم ثقافة العصر والتجاوب معها. جاعلا القرآن الكريم أول ما يغذي أرواح الأطفال وعقولهم، قبل أن يلجوا المدرسة، ويقبلوا على شتى المعارف والعلوم، ومختلف الثقافات والفلسفات، ضاربا المثل بفلذات أكباده الأمراء والأميرات، وفي مقدمته ولي العهد المحبوب سيدي محمد وصنوه السعيد مولاي الرشيد.
وإذا كان جلالته قد شيد المدارس والمعاهد والجامعات بمختلق كلياتها وشعبها، واهتم بجامعة القرويين – خاصة – فأعاد تنظيمها وأحيا كراسيها، وخص اللغة العربية بعناية فائقة باعتبارها اللغة الدينية والوطنية للمغرب.
وإذا كان جلالته قد وشع معارف الشعب المغربي، في كي ميادين المعرفة الثقافية، من خزائن ملكية ومكتبات عمومية، واستخدام كامل للمطبعة الملكية، التي أسسها جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، إلى غير ذلك من الأيادي البيضاء الناطقة بعظمة جلالته. مما تعيا الأقلام في إعطائها بعض حقها، فكيف بحقها كله، فلهذا آثرنا أن نكتفي في هذه العجالة بالوقوف على بعض المعالم الثقافية الشامخة، التي تفتقت عنها عبقرية جلالة الحسن الثاني، وانفرد بها عهد مساهمة مشرقة تدعم الحضارة الإسلامية، وتزيد من إشعاعها.
أولا: مصحف الحسن الثاني
تفنن المسلمون في كتابة المصاحف وتزويقها وتجليدها وحبك أورقاها وما إلى ذلك تكريما للقرآن الكريم، وتفانيا في خدمته.
وقد ظل المغاربة يحافظون على المصحف الشريف، حفظا في الصدور وكتابة بين السطور، وامتلكوا من المصاحف نسخا ترجع إلى عصر الصحابة – رضي الله عنهم – كالمصحف العثماني والمصحف العقباني. (13)
وفي هذا الإطار، يأتي المصحف الحسني ليؤكد هذه الحقيقة، وليبرز مدى العناية الفائقة التي أولاها أمير المومنين جلالة الحسن الثاني لكتاب الله تعالى، حتى برز في حلة أنيقة رائعة، مع كامل الضبط والإتقان، وجمال الخط والطبع، وموافقة رسم قراءة الإمام نافع المدني من رواية تلميذه ورش.
وإلى جانب هذه العناية بالمصحف كتابة، اهتم جلالته بالمصحف سماعا، فكان المصحف الحسني المرتل على أشرطة كاسيط راديو بالقراءة والرواية نفسيهما – أعني قراءة نافع برواية ورش – وهو عمل مبرور، يتمم الأول ويعضده وساهم بالتالي في الحفاظ على الاختيار المغربي في القراءة، والذي لا ينفي ما عداها من قراءات ثابتة تهم المختصين.
ثانيا: الدروس الحسنية وإشعاعاتها
تعتبر الدروس الحديثية، التي أحياها أمير المومنين جلالة الملك الحسن الثاني اقتداء بجده الأعظم صلى الله عليه وسلم، وجريا على عادة أسلافه المنعمين، ومحطة إشعاع إسلامية كبرى، يلتقي فيها علماء الإسلام من كل الأصقاع، تنبثق من وحيها عدة مبادرات، فهي سوق علمية عالمية فريدة، تتلاقح فيها الأفكار، وتتقارب المشارب والمذاهب، وتستمر طوال شهر رمضان المعظم من كل عام. يتم خلالها الاحتفاء بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة في صور قدسية رائعة تتجلى في دروس التفسير والحديث، التي يلقيها بين يدي العاهل الكريم نخبة من ألمع علماء الإسلام، والتي ساهم فيها أمير المومنين نفسه في بداية الأمر.
وفي أجواء إحياء ليلة القدر المباركة، يعلن عن انتهاء هذه الدروس بختم صحيح البخاري، أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل.
وتجدر الإشارة إلى أنه بموازاة مع هذه الدروس التي تقام بالقصر الملكي بمحضر جلالته، تقام بجميع مساجد المملكة دروس ومحاضرات يومية خلال شهر رمضان، ثم تستمر وفق برنامج محدد طوال السنة تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجالس العلمية الإقليمية.
ويأبى الله تعالى إلى أن تكون روح محمد الخامس طيب الله ثراه حاضرة مرفرفة في سماء هذه الأجواء الربانية العطرة، حيث يتم في العاشر من رمضان، إحياء ذكرى وفاة فقيد العروبة والإسلام، وبطل الحرية والاستقلال. لكل خشوع وإجلال، وفاء لروحه الطاهرة، وما أسداه من أياد بيضاء لبلاده وأمته والإنسانية جمعاء، وما قام به من أدوار مشرقة خالدة، من أجل دعم الحضارة الإسلامية وإذكاء أنوارها.
ثالثا: دار الحديث الحسنية
من المآثر الفكرية الحضارية الشامخة، التي ادخرها الله لأمير المومنين جلالة الحسن الثاني، دار الحديث الحسنية، تلك المعلمة الفريدة من نوعها في العالم الإسلامي، والتي حقق بها جلالته أمنية عزيزة عليه. ودعا جديدا للدراسات الإسلامية "التي يتميز بها المغرب بين الأقطار الإسلامية الأخرى والتي هي إحدى مميزته الأصيلة".(14)
ومهمة خريجيها لن تكون هي الوعظ والإرشاد ولكن علماء يكونون الإطارات التي يتعادل في كفاءتها وإطلاعها من عرفه المغرب من عملاء مرموقين في هذا الميدان". (15)
وقد قطعت هذه المؤسسة العلمية العليا، منذ تأسيسها سنة 1384هـ إلى الآن، أشواطا هائلة، في سبيل النهوض بالدراسات الإسلامية في ضوء مناهج البحث الحديثة، ومعطيات العصر ومعارفه، وفق التعليمات السامية لأمير المؤمنين الذي يرعى هذه الدار، ويتتبع مسيرتها، ويشجع خريجيها، ويتطلع لغد أفضل لها.
في هذا الصدد، يقول جلالته في كلمة توجيهية لدى اختتام الدروس الحسنية ليلة القدر من سنة 1407 هـ
.فرجائي منكم معالي العلماء والمشايخ أن تبنوا دروسكم المقبلة إن شاء الله، على هذا المنهاج، وخصيصا الذين يتابعون دروسهم أو دراستهم في دار الحديث الحسنية، فمع الأسف منذ ثلاث سنين أو أربع سنوات لم أر خريجا واحدا من دار الحديث الحسنية، أتى ليلقي الدرس أمامنا، وما وضعت دار الحديث إلا لحفظ الحديث وطرقه، والتطرق إليه كما يجب، وكما ينبغي.
نحن في ليلة القدر، فهذا الكلام ليس لوما ولا مؤاخذة، لكن هو تشجيع لخريجي دار الحديث (وأما بنعمة ربك فحدث)، (16) حتى نرى على الأقل غرسنا يانعا ومبشرا بالخير . (17)
رابعا: المجلس العلمي
ظل العلماء في تاريخ الإسلام، يشكلون فئة ممتازة في المجتمع الإسلامي، للرسالة السامية التي أناطها الدين الحنيف بهم، وهي وراثة الأنبياء، التي تستلزم إرشاد الناس إلى مسالك الخير والإرشاد، وبذل النصيحة لهم، وإيصال الدعوة الإسلامية النقية إلى أكبر عدد منهم.
وعلى الرغم من أه هيئات العلماء كانت موجودة منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، إلا أن انتظامهم في إطار مجالس عملية، يعتبر خاصية مغربية متفردة، أبصرت النور على يد السلطان المقدس مولاي يوسف عام 1333هـ ونشأت وترعرعت على يد المغفور له جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه، ونضجت واكتملت على يد جلالة الملك الحسن الثاني أدام الله حفظه ونصره، الذي خطا بها خطوة رائعة إلى الأمار، تنسجم مع متطلبات العصر وأساليبه، وأسبغ عليها من عطفه ورعايته، ونصحه وتوجيهه، ما جعلها تحقق أهدافها بنجاح، وتؤدي المهام المنوطة بها على أحسن ما يرام، وبالتالي خلق بعث إسلامي واضح الملامح، وصحوة إسلامية راشدة.
خامسا: أكاديمية المملكة المغربية
لا شك أن أكاديمية المملكة المغربية – التي تفتقت عنها عبقرية جلالة الحسن الثاني – تعتبر من أعظ مظاهر افتتاح حضارة الإسلام على العالم، وتجاوب ثقافته واستعدادها للحوار مع كل الثقافات، إيمانا منها أن العلم لا وطن له، وأن كل أمة تساهم فيه بمقدار، ليكون النهاية ملكا مشاعا بين سائر الناس.
من هذا المنطلق، وضعنا أكاديمية المملكة المغربية، ضمن المعالم الثقافية الإسلامية التي خص الله بها جلالة الحسن الثاني، فهي ملتقى عدد من ألمع الكفاءات عاليا في مختلف مناحي العلوم والآداب والفنون، بغض النظر عن دياناتهم وأجناسهم ولغاتهم، مما أعطى نتائج باهرة في مجال البحث والدراسة، في أعلة المستويات وأرقاها، وفق ما رسمه لها جلالة الحسن الثاني من أهداف نبيلة، وغايات سامية.
3- المعمار والزخرفة (مسجد الحسن الثاني نموذجا):
اهتم جلالة الحسن الثاني بالهندسة المعمارية والزخرفة الإسلامية بشكل واضح، حتى أصبح له أسلوب خاص متميز، يزاوج بين الأصالة والتجديد، وينم عن ذوق رفيع، وحس مرهق رقيق.
وأمام كثرة ما شيد جلالته وبنى، بدءا بمدينة أكادير التي قامت من تحت الأنقاض، بفضل عزيمة جلالته، لتصبح من أجمل مدن المغرب والعالم كله، مرورا بما عرفته مختلف المدن والقرى من اتساع عمراني كبير، وهندسة معمارية بديعة، وما شيد من منشآت مختلفة في شتى أنحاء المملكة مما يتعذر تعداده في هذه العجالة، إلى أن نصل إلى ضريح جلالة المغفور له محمد الخامس ومسجده، مما يمثل قمة في الإبداع والزينة والتنسيق، علاوة على ما يمثله من وفاء وبرور بفقيد العروبة والإسلام وبطل الحرية والاستقلال.
أمام هذا التعدد والتنوع، نكتفي – هنا – بالوقوف على معلمة القرن، مسجد الحسن الثاني بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء لنرى ما يمثله من إشارات حضارية رائعة.
إنه تأكيد لفكرة عالمية الحضارة الإسلامية، المتمثلة بجلاء في عمار المساجد، مما نرى فيه ربطا وثيقا بين الفكرة والأثر بين الدين، ومكان ممارسة بعض طقوسه.
لقد أعجب المستشرق الفرنسي (آرنست رينان) – على الرغم من تعصبه ومذهبيته – بالمسجد باعتباره مظهرا حضاريا لمجتمع مسلم عبقري، فلم يتمالك أن قال:
"ما دخلت مسجدا قط للمسلمين، إلا تملكني انفعال شديد، وهو لو أفصحت عنه، لكان نوعا من الأسف، على أني لم أكن مسلماّ. (18)
في هذا السياق، تأتي معلمة القرن "مسجد الحسن الثاني" أكبر مسجد ي العالم بعد الحرمين الشريفين، والذي شيد فوق سطح كباه البحر تحت شعار الآية الكريمة: (وكان عرشه على الماء) (19) وسيظل هذا المسجد – بإذن الله ( شاهدا على عظمة حضارة الإسلام في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي، ناطقا بالإكبار والثناء على ما قدمه أمير المومنين جلالة الحسن الثاني، من جلائل الأعمال، خدمة لهذا الدين الذي ارتضاه الله لأمة محمد عليه السلام، وجعلهم به خير أمة أخرجت للناس.
4- مظهر حضاري متميز
(المسيرة الخضراء)
لم تعرف أساليب تحرير الأوطان، واسترجاع أجزائها المغتصبة في التاريخ كله، مسيرة سلمية مظفرة، كالمسيرة الخضراء، اللهم إلى أن تكون الحديبية التي كانت فتحا لمكة، ونصرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام والمسلمين وكلا المسيرتين من إفراز حضارة الإسلام وأخلاقه.
إن أوجه التشابه بين المسيرتين كثيرة. (20) سواء في التخطيط والإعداد أو في التنفيذ والأبعاد، أو في التشبث بالحق والمشروعية والتحلي بالأخلاق والفضيلة.
لقد كانت المسيرة الخضراء، حدثا أدهش العالم، وأربك كل الحسابات والتوقعات، فبعد اعتراف محكمة العدل بلاهاي – ان هناك روابط قانونية وروابط بيعة بين المملكة المغربية وبين الصحراء – مباشرة تحرك 350.000 نفر من الرجال والنساء الهزل، في مسيرة خضراء سلمية نحو أرضهم لتحريرها، ونحو إخوانهم ليصلوا معهم الرحم، سلاحهم المصحف الكريم، والعلم الوطني، وصور القائد الملهم جلالة الحسن الثاني.
هكذا استعاد المغرب صحراءه، وبذلك تغلبت الحكمة والرشد على البطش، ورجحت كفة السلم على كفة الحرب، ودخلت المسيرة الخضراء التاريخ، من أوسع أبوابه مظهرا حضاريا متميزا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسرة مكة يوم الفتح. (اذهبوا فأنتم الطلقاء) قال حفيده جلالة الحسن الثاني للمغرر بهم من رعاياه الصحراويين: "إن الوطن غفور رحيم".
وبعد، فهذه باقة من حديقة الحسن الثاني الغناء، المشتملة على كل الغلال والزروع، والأزاهير والورود، بألوانها وطعومها المختلفة، ومائها الذي لا ينضب معينه، ولا يتغير طعمه ولا لونه، نقدمها اليوم بمناسبة عيد الشباب السعيد، سائلين العلي القدير أن يحفظ أمير المومنين جلالة الحسن الثاني ويطيل عمره، وأن يحقق به وعلى يديه الرغاب والظنون، وأن يقر علينه بسمو ولي عهده الأمجد الأمير الجليل سيدي محمد، وصنوه السعيد مولاي الرشيد، وسائر أفراد الأسرة الملكية الشريفة، إنه سميع مجيب.
1) نفسها والعدد: ص 13.
2) تقوم الحضارة – بمفهومها الحديث – على أساسين اثنين هما: "المادة" وتدل عليها كلمة "مدنية" وعلى "الروح" ويطلق عليها علماء الاجتماع "ثقافة" والصلة بينهما وثيقة، لأن المدنية هي التجسيد الحي للمعروفة النظرية "الثقافة".
3) مجلة "دعوة الحق" العدد 223/21
4) كتاب: "التحدي" لجلالة الحسن الثاني: 298/ط2 – المطبعة الملكية 1403هـ 1983م
5) آل عمران: 64
6) التحدي: 295
7) التحدي: 298
8) النساء: 59
9) الشورى: 38
10) انظر: مجلة "دعوة الحق" ع: 278/ص: 147-150 (ضمن بحث الأستاذ عبد القادر تحت عنوان "من المصحف العثماني إلى المصحف الحسني").
11) من خطاب جلالته بمناسبة تأسيس دار الحديث الحسنية (انظر النص كاملا بالنشرة الدورية لدار الحديث الحسنية العدد 1 الصفحة: 6).
12) نفسه والصفحة.
13) الضحى: 11.
14) انبعاث أمة: 32/216.
15) عن توفيق محمد سبع: قيم حضارية في القرآن الكريم: 150 –سلسلة البحوث الإسلامية) السنة 4 العدد 50 الشركة المصرية للطباعة والنشر 1392هـ/1972م.
16) هود: 7.
17) انظر: دعوة الحق: العدد 260/ص:5 (ضمن مقال للأستاذ المرحوم عبد الله كنون بعنوان: مسيرة الفتح).
18)عن توفيق محمد سبع: قيم حضارية في القرآن الكريم: 150 –سلسلة البحوث الإسلامية) السنة 4 العدد 50 الشركة المصرية للطباعة والنشر 1392هـ/1972م.
19)هود: 7.
20)انظر: دعوة الحق: العدد 260/ص:5 (ضمن مقال للأستاذ المرحوم عبد الله كنون بعنوان: مسيرة الفتح).