بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

خواطر و انطباعات من وحي ذكرى الراحل الأستاذ الشاعر عبد الجليل بن عباد

تاريخ نشر المقال 03-10-18 12:33:59

    خواطر و انطباعات من وحي ذكرى الراحل
الأستاذ الشاعر عبد الجليل بن عباد
من منطلق الإيمان برسالة الشعر و البيان، وخطابهما الذي لا يقوم مقامه خطاب، مصداقا لقوله عليه الصلاة و السلام "إن من البيان لسحرا، و إن من الشعر لحكمة" واعترافا بالجميل لمن أسدى إلينا معروفا، يسعد المجلس العلمي المحلي لمراكش، أن ينظم هذا اللقاء، لقاء الحب و الوفاء، تخليدا لذكرى رجل كان يعطي بلا حساب ....
إنه الأخ العزيز الأستاذ الشاعر عبد الجليل بن عباد ، الذي غادر هذه الدنيا إلى دار البقاء، منذ أكثر من ثمانية أشهر خلت - يوم 16 يوليوز 2016م- ما زلت أذكر أني كنت يومها في مدينة الرباط، و على الرغم من معرفتي بحالته الصحية المتدهورة ، ومعاينتي عن كثب لمعاناته الطويلة مع المرض، فإنني لم أتمالك نفسي و لا استطعت حبس دمعتي عندما بلغني النعي، شعورا بفداحة فَقْد صديق، كانت الفجيعة فيه أكبر من أن تقاوم...
لا يخفى عليكم أيها الإخوة و الأخوات أن المجلس العلمي المحلي لمراكش ، دأب منذ سنوات، على تنظيم أمسيات شعرية في شتى المناسبات، و أحيانا في اليوم العالمي للشعر، وكنا في هذه السنة قد عولنا على أن يتم هذا اللقاء يوم 21 مارس، لكن نزولا عند طلب بعض الأصدقاء الذين كنا حريصين على حضورهم، أجلنا الموعد إلى هذا اليوم .
أيتها السيدات و السادة أيها الإخوة و الأخوات
اسمحوا لي أن أجمع في حديثي هذا، بين كلمة الافتتاح و الترحيب، وبين خواطري و عواطفي نحو الفقيد، تحاشيا لأخذ الكلمة مرتين
ترجع صلتي بالأستاذ عبد الجليل بن عباد إلى أوائل الثمانينيات عن طريق كلية اللغة العربية بمراكش حرسها الله و حماها من كل مكروه، وبدأت – هذه العلاقة - تتقوى منذ أوائل التسعينيات، لترتقي إلى أعلى المستويات منذ مطلع الألفية الثالثة، قبل أن تتعزز في الأخير بالجوار في السكنى في حي واحد.
كان من القلائل الذين عرفتهم، ممن يفعلون الخير ويسعون إليه بعفوية وتلقائية، دون حسابات مسبقة، أو أهداف مكشوفة أو مضمرة، مؤمنا عميق الإيمان، يعطي بسخاء، لا يكاد يتخلف عن الموعد، وتقديم الدعم المادي والمعنوي مهما قل أو كثر، لعدد من التظاهرات العلمية والأدبية، داخل مدينة مراكش وخارجها...
اعتاد في السنوات الأخيرة من حياته، أن يقوم صبيحة كل يوم جمعة، بزيارة ضريح الولي الصالح أبي العباس السبتي، فيتصدق بما تيسر له، ثم يشتري شيئا من خبز العباسية، قبل أن يعود قافلا إلى بيته، و لطالما خصني منه بخبزة أو أكثر – برد الله مضجعه -
كان مشاء بامتياز، يقطع المسافات الطويلة راجلا، في خطو متميز لا يشبهه فيه أحد، وقد كان الرجل متميزا في أمور كثيرة، في خلقه و خلقه ، متميزا في صوته، متميزا في خطه، متميزا في صبره ، متميزا في صداقته متميزا في عداوته متميزا في شعره و كثير من اختياراته..
طبع على الوفاء لأصدقائه و البرور بهم، و ما أحسست منه طيلة معرفتي به، أنه يضمر العداوة لأحد .
أذكر أنه مرة أثاره شخص، فنظم قصيدة في هجائه، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى مزقها نادما على ما صدر منه إزاء ذلك الإنسان ،و انتظر أول فرصة ليرد له الاعتبار، و كأن شيئا لم يكن ...
لعله وجد نفسه في أواخر حياته في الشعر، فأصبح ملاذَه الذي يأوي إليه ليجد فيه راحته، و الإ جابة عن كثير من التساؤلات التي تدور بخاطره...
طلبت منه قبيل وفاته بقليل، ترجمة أحد أساتذتنا من علماء الجامعة اليوسفية، ذكرها الله في الصالحات، و كان بينهما صلة قرابة و مصاهرة، فاعتذر لي أولا وثانيا، ثم لم يلبث أن استجاب، بنظم سيرة موجزة للرجل، في قصيدة كانت محور حديث طويل ، بيني و بينه في حديقة بيته، أفضى إلى إتمام الترجمة .
و أذكر أني وجدته يومها، منهمكا في كتابة وتسجيل بعض اللواعج و النفثات كما أخبرني بذلك، وكان رحمه الله، يُسَرُّ كثيرا بزياراتي له، لهذا طوى أوراقه على الفور، و سد آلةالتسجيل ليتفرغ لي، ثم أقبل علي بالكلية، وطالت بنا الجلسة و أذكر بالمناسبة أن الأستاذة الفاضلة أرملة الفقيد لم تتخلف - جازاها الله خيرا - في تقديم شاي وقهوة وحلويات، ساعدت على تمديد الجلسة التي كانت من أواخر ذكرياتي التي لا تنسى، عن الفقيد العزيز رحمه الله.
لم يهزمه المرض أو يعقده ، بل كانت معنوياته مرتفعة جدا، و صبره يذكر بالسلف الصالح، فلم أسمع منه أنينا و لا شكوى، بل كنت تراه – أحيانا - يتحامل على نفسه فيذهب إلى المسجد للصلاة، و يحضر أحيانا بعض الأنشطة العلمية والأدبية، وربما نظم أو كتب شيئا بالمناسبة ...
كان و هو المريض ينصح المرضى بمثل قوله :
فداوم على الدواء و ارق شرابه . . . بفاتحة القرآن رقيا لأسقم
بسبع من المرات في كل جرعة . . . بسبع ليال تشف فيها و تغنم
فأيقن شفاك الله من كل علة . . . يقينا بلا شك تداو و تسلم
و عندي وصفة مفصلة بخط يده لهذه الرقية
كان ينشد الحرية في الحياة، ميالا إلى التحلل من كثير من القيود والتقاليد الاجتماعية، الشيء الذي لم تسلم منه حتى تجربته الشعرية، فكان يكتب الشعر على سجيته في حرية تامة و تحرر شبه كامل من عروض الخليل وقوافيه
لا أعرف متى بدأ يقرض الشعر، لكن الذي أعلمه أنه إنما أكثر من ذلك في العقدين الأخيرين من عمره ، و كل ما تحت يدي من شعره و هو ليس باليسير لا يتعدى هذا التقدير، و كأني به قد تفتقت شاعريته بدافع من اللاشعور، تشبثا بالحياة، بعد أن ظهرت عليه أولى علامات المرض الخبيث الذي أودى بحياته.
و من يرجع إلى قصائده ويرتبها ترتيبا زمنيا، فسيلاحظ أن الرجل كان كلما اقترب من النهاية، كلما ظهرت في شعره فلتات لاشعورية، دالة على إحساس عميق بهذا الموعد الوشيك
انظر: قصيدة : نفحات من نور القرآن في شهر رمضان / الشعر لا يموت /يا أحمد الشباب/ في تأبين العلامة الفلكي عباس الدباغ / بانكيمون / الشاب هشام البوزيدي / أخي العباس/ أين عزلتي / يا رب / أيها الصديق
بدأ هذا الشعور واضحا في شعره منذ مرثيته للشاعر مولاي الحسن بدور:
أحقا مات الشاعر البدور هنا . . . لا تصدق الشعر لا يموت حين ينتظم
أفي الموت أعمار و في وثاقها . . . إحياؤنا أم حظوظ و نحن نقتسم
نبيء حاسديه نبيء حاسدي معا . . . أنَّا فرسان و الشعر عادل حكم
و لم يقف ذلك عند شعره بل انعكس أيضا على سلوكه و انفعاله كما رأيت منه عندما جاءني عقب وفاة العلامة الأديب مولاي الصديق العلوي ليقرأ علي مرثيته فيه حيث لم يكد ينهيها حتى انفجر بالبكاء و النحيب بشكل لم أعهده منه من قبل :
أيها الصديق في ذمة الله كيف . . . كيف أوفيك صدق عبرتي و رثائي
لا كان شعري من بعد موتك شعرا . . . إن لم يقم يبكيك فيه حق بكائي
كان ذلك في شهر يناير 2014 م و في فبراير من السنة نفسها يقول في تعزيته للأستاذ الزميل الحاج عمر ازدادو في نجله أحمد :
ما للمراثي داهمتني هجمتها . . . فالشعر مدمعه على خدي منهمر
ويقول في قصيدته نفحات من نور القرآن في شهر رمضان:
- رمضان ترحل كيف آسى . . . عليك بل على نفسي كيف آسى
أأنت امتحانا كنت كل عام . . تأتي شهــــرا كي تختــــــار ناسا
و ما يلاحظ أنه ظل لمدة يذيل قصائده باسمه وتاريخ الانتهاء من نظمها، و ربما و ضع التاريخ قبل القصيدة ، ثم أصبح في عدد من قصائده الأخيرة يضيف رقم هاتفه، و لاشك أن لذلك دلالات، و كأني به رحمه الله، ربما توسم الخير و البركة في بعض الناس في مرضه الذي لم يعد قادرا على الخلاص منه، راجيا أن يجد من يساعده على التخفيف منه، لكن في حياء وعفة نفس...
بقي أن أقف قليلا عند مكتبته"مكتبة الفتح"بحي الرميلة التي ظلت لسنوات ملتقى عدد من رجال العلم و الفكر و الأدب ، من المقيمين بمدينة مراكش ومن الوافدين عليها كذلك والعابرين ، سماها أولا بهذا الاسم بحكم موقعها القريب جدا من سينما الفتح التي أصبحت من زمان في ذمة التاريخ :
الفتحُ مكتبة بمراكش معروفةٌ مشتهرة ... قرب الجامع السعدي باب دكالة ومزدهرة
روادهـــــا أهلُ علم و آداب أساتذةٌ ... رجـــال علم و فن ونقد فيه مشتهرة
ثلاثون عاما تمضي و الآن تغلق مكتبة . . .
و ينطفي نجمها و الله فعال له الحمد اولاها و الآخرة
ثم أبدل – فيما بعد - اسمها الأول باسم : مكتبة نجم مراكش ، وهنا اسمحوا لي أن أقول- و هذا مجرد رأي - إن إغلاق المكتبة كان إيذانا بنهاية صاحبها، لأن سنة الله قضت منذ الأزل، أن حياة الإنسان تنتهي بنهاية رسالته. و كل ذلك يتم خارج الإرادة و الله أعلم
تغمد الله أخانا الأستاذ الشاعر عبد الجليل بن عباد بواسع الرحمة والغفران، وأسكنه فسيح الجنان، و ألهم ذويه – الذين أحييهم باسم الجميع تحية خاصة – الصبر والسلوان، لله ما أخذ و له ما أعطى، ولله الأمر من قبل و من بعد، والله من وراء القصد .