تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين و على آله و صحبه أجمعين
أما بعد، فما فتئت الرغبة في كتابة تاريخ جامعة ابن يوسف بمراكش، تراود أبناءها البررة، منذ أن تحركت همة العلامة المرحوم محمد بن عثمان المراكشي {ت1945م} فألف كتاب "الجامعة اليوسفية بمراكش في تسعمائة سنة وكان طموحه في أن يلم في هذا الكتاب بتاريخ هذه الجامعة و إشعاعها ، منذ تأسيسها إلى لحظة نشر الجزء الأول من كتابه، لكن يبدو أن القدر لم يمهله، حتى يتم تحريره و إخراجه كاملا، حيث لم يتجاوز طبع الجزء المذكور، الذي قال في آخره : "هنا وقفت بنا اليراعة في إتمام الجزء الأول من تاريخ الجامعة اليوسفية، وهو خاص بمآثر الدولة المرابطية، و يليه الجزء الثاني، وهو مشتمل على عهد الدولة الموحدية والمرينية ، ثم الجزء الثالث و هو مشتمل على عهد دولة الأشراف السعديين ودولة الأشراف العلويين ، نرجو الله تعالى أن يهيئ لنا أسباب طبع الجزأين في القريب العاجل، والوقت الملائم ... "
وبعد الرحيل المفاجيء للأستاذ محمد بن عثمان رحمه الله، انقطعت أخبار الجزأين الأخيرين من الكتاب، و لم يظهر لهما أثر إلى اليوم، حتى باتت في حكم المفقود، إلى أن يأذن الله في الأيام القابلة، بخروجهما إلى حيز الوجود، وما ذلك على الله بعزيز ...
ويأتي الدكتور حسن جلاب فيعيد نشر الكتاب، ويَعِدُ في تقديمه بعزمه الأكيد على إتمامه بعمل جديد، يقول عنه : إنني أعتزم إن شاء الله تعالى إتمام الكتاب، اعتبارا للمادة التي اجتمعت لدي عن هذه الجامعة، خلال سنوات المطالعة والبحث، وسيكون ذلك على نفس المنهج الذي خططه له ابن عثمان رحمه الله ... و قد اخترت لهذين الجزأين العنوان التالي : التكملة الوافية لكتاب الجامعة اليوسفية أرجو الله تعالى أن ييسر إنجازه وطبعه، خدمة للعلم والمعرفة، و برورا بواجب مسقط الرأس علينا .
وبموازاة مع ذلك و دون تردد، اقتحم أستاذنا ابراهيم الهلالي رحمه الله الحلبة، في حب عميق ووفاء مكين للجامعة اليوسفية ، وتعلق كبير بها و غيرة عليها لا تحدها حدود، فجعل منها قضيته الأولى، و هو العالم اليوسفي، والمناضل الوطني، والشاعر والأستاذ والمحامي، فأسس جمعية إحياء جامعة ابن يوسف وأصدر مجلة جامعة ابن يوسف التي صدر منها 15 عددا، كما ألف كتاب :حضارة مراكش والإشعاع الفكري لجامعة ابن يوسف في جزأين ، ومسرحية شعرية بعنوان : يوسف بن تاشفين و تأسيس جامعة ابن يوسف بمراكش و غيرها من المؤلفات التي تتضمن الكثير من الإشارات والإشادات ذات الصلة بالجامعة المذكورة ...
و هذه الأعمال والمنجزات في مجموعها، إضافات مهمة جدا لما بدأه الأستاذ ابن عثمان، ولبنات أساسية في هذا البناء الشامخ، التي تتضافر اليوم الجهود لإتمامه، من خلال ما يبذل من أجل جمع وطبع تراجم العلماء وتراثهم
في هذا السياق و على هذا السنن، جاء تنظيم المجالس العلمية لجهة مراكش لثلاث ندوات علمية في موضوع الجامعة اليوسفية بمراكش تاريخ وأعلام.
كانت الانطلاقة في السنة الأولى من عاصمة الغرب الإسلامي مدينة مراكش، حيث كانت الحلقة الأولى حول الفترتين : المرابطية و الموحدية، ثم اتجهت المجالس في السنة الموالية صوب مدينة شيشاوة، حيث كانت الحلقة الثانية حول الفترتين: المرينية والسعدية، قبل أن يكون التتويج لهذه الندوات في السنة الثالثة بمدينة الصويرة، بالفترة العلوية الشريفة ، هذه المدينة التي أنشأها السلطان العالم سيدي محمد بن عبد الله، والتي أنجبت علماء أجلاء، كثير منهم من خريجي الجامعة اليوسفية
و غير خاف أنه مع تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة النبوية المنورة بعد الهجرة مباشرة ، كان التعليم في مقدمة الأولويات، التي اهتم بها الرسول الكريم ، فبنى المسجد النبوي الذي كان في بداية الإسلام، مجمع كل مؤسسات الدولة الفتية، و في طليعتها المؤسسة العلمية، وهو النموذج الأول للجامعة الإسلامية ، التي كانت إلى وقت قريب، تضم كل مراحل التعليم من الابتدائي إلى العالي، و في سيرة الإمام مالك بن أنس العلمية منذ أن جلس بالمسجد النبوي تلميذا مبتدئا بحلقة ربيعة، إلى أن أصبحت له فيه حلقة أكبر من حلقات شيوخه أوضح مثال على ذلك ... دون إغفال التوجه بعد ذلك ، نحو تخصيص أماكن لتعليم الصبيان صيانة للمساجد من عبثهم ...
على هذا السنن سارت الجامعة اليوسفية، مع العلم أنه قبل تأسيس مدينة مراكش ، كانت أغمات مقصد أهل العلم والصلاح من مختلف الجهات، وهي مدينة صغيرة تربض على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا جنوب مراكش، وسط قبيلة أوريكة عند قدم جبال الأطلس ، نزح إليها عدد كبير من الأندلسيين ، أوائل القرن الثالث الهجري ، بعد فرارهم من فتنة الربض بقرطبة ، على عهد الحكم الأموي (الربضي) ،كما نزح إليها عدد من القيروانيين ، وكان رباطها المعروف إذ ذاك ، المقر الأول لزعماء المرابطين ، والمركز الهام للعلماء و الصالحين ، يقصدونه من سائر أنحاء الشمال الإفريقي ... وكانت مقر إقامة الأمير الإدريسي عبد الله بن إدريس الثاني النائب عن شقيقه السلطان محمد بن إدريس
ونتيجة لما عرفته هذه المدينة من اكتظاظ ، بسبب الكثافة السكانية التي عرفتها عقب نزوح المرابطين إليها ، وما لحق أهلها من تضييق عليهم ، قرر الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني ، باتفاق مع قومه ، تأسيس مدينة مراكش ، مما لم يتحقق و يكتمل إلا على يد يوسف بن تاشفين ... حيث ستتوجه الأنظار صوب المدينة الحمراء ، خصوصا بعد الانتصار الباهر، الذي حققه هذا القائد الفذ، في معركة الزلاقة الشهيرة ، وما تلا ذلك من حرص، على حماية الإسلام والمسلمين من الصليبية و الصليبيين بالأندلس ، مما كانت أصداؤه تصل إلى الشرق ، فتجد تجاوبا كبيرا و تعاطفا بعيدا، عبر عنه غير واحد من العلماء الأعلام ، بما بعثوه من رسائل التهاني والتنويه ، إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ، كأبي حامد الغزالي الذي لم يقف عند حد الكتابة إليه ، بل هم بالقدوم عليه ، قبل أن يبلغه نعيه رحمه الله ، وكأبي بكر الطرطوشي ، الذي قال في إحدى فقرات كتابه إليه : ... ولقد كنا في الأرض المقدسة – جبر الله مصابها – تثرى علينا أخبارك ، وما قمت به من أداء فريضة الله تعالى ، في جهاد عدوه ، و إعزاز دينه و إعلاء كلمته ، وكان من هناك من العلماء والفقهاء وحماة الدين والعباد والزهاد والمنقطعين إلى الله تعالى ، يدعون الله سبحانه وتعالى في نصرك وتأييدك والفتح على يديك
وبعد تأسيس مدينة مراكش ، و في عنفوان عمليات بناء المرافق الضرورية للحياة في المدينة الإسلامية ، جاءت إقامة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين لـمسجد الطوب قرب قصر الحجر ، والذي شارك في أشغال بنائه بنفسه ، ليكون أول مسجد بني بعاصمة المرابطين.
و بسرعة فائقة ، أصبح هذا المسجد قبلة أهل العلم ، فكان حلقة وصل بين الدراسة العلمية بأغمات ، و بين استئنافها بمراكش ، و بمثابة مركز علمي ممهد لجامع ابن يوسف ، الذي سيتأسس على يد أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين سنة 514هـ ، استجابة لرغبة ضاغطة ، فرضها تزايد أعداد العلماء و الطلبة الوافدين على مدينة مراكش من جميع الجهات ، من داخل المغرب وخارجه .
و قد تم بناء جامع ابن يوسف ، في قلب المدينة ، على شكل مستطيل ، تقدر أبعاده بعشرين و مئة متر طولا ، و هو ما يقارب عشرة آلاف متر مربع، و هي ضخامة تدل على ما كانت تعرفه المدينة الحمراء في تلكم العهود ، من كثافة سكانية،وأعداد كثيرة من أهل العلم و طلبته ...
وحرصا من أمير المسلمين علي بن يوسف ، على تحديد قبلة مسجده الجامع بدقة ، استدعى لذلك ما ينيف على أربعين فقيها ، فلم يكن في المغرب الأقصى ، محراب – سواه - اشتهر أن الفقهاء أجمعوا على تصويب قبلته عند بنيانه.
قال الكانوني في سياق حديثه عن مسجد علي بن يوسف اللمتوني كره قاضي آسفي العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الأندلسي في كتابه - إرشاد السائل - ناقلا عن المصمودي أنه لم يكن في المغرب الأقصى محراب اشتهر أن الفقهاء اجتمعوا على تصويب قبلته عند بنيانه فيما علمنا إلا مسجد واحد و هو مسجد علي بن يوسف بمراكش، جمع على تصويب قبلته أربعين فقيها فيهم مالك بن وهيب و أبو الوليد بن رشد صاحب البيان .
قال القاضي : وقد صلينا فيه عام 1140هـ فاختبرته فعاينت في محرابه انحرافا على السمت ، و قد ذكر المغيلي أن قبلته حولت بعد ذلك عن البناء الذي بناه علي بن يوسف و الله أعلم
و قد ذكر صاحب الحلل الموشية بأن عبد المومن لما شرع في بناء مسجده الجامع هدم الجامع الذي كان أسفل المدينة الذي بناه علي بن يوسف و عقب الكانوني على ذلك قائلا فيكون قد جدد بعد ذلك
وبنى من صومعته نحو الثلث – كما قال ابن القطان – و تركها تتقعد ، ثم أتم بناءها سنة 527هـ ، و كانت بناية عظيمة ، من حجر جيليز ، ضلعها اثنا عشر مترا ، وترتفع بحوالي ست و ثلاثين مترا ، وهي غير الصومعة القائمة الآن ، التي شيدها السلطان العلوي المولى سليمان ، طولها حوالي ثلاثين مترا ، وعرض كل جانب 82,7 م ، و يتم الصعود إليها عبر 152 درجا ، تتخللها في كل منعطف ممرات مستوية ، بها بيوت : بعضها للاعتكاف ، ومنها بيت خاص بالموقت ، وآخر لاستراحة المؤذن ...
ومن ملحقات جامع ابن يوسف و مرافقه الخارجية ، القبة المرابطية ، التي تعتبر من روائع الفن المعماري المغربي في العهد المرابطي ، تغطي سقاية للوضوء والشرب ، وأماكن للخلاء ، في تصميم بديع و بناء رفيع .
و لا يمكن أن نتحدث عن جامعة ابن يوسف بمراكش دون أن نتحدث عن جامعة القرويين بفاس أختها الكبرى، ورفيقتها على درب الوفاء للقيم و المثل السامية ، فقد ظلتا بفضل الله عبر التاريخ تتكــاملان ولا تتعارضان، فحقيقتهما – كما قال أستاذنا الشيخ الرحالي الفاروق رحمه الله - تتلخص بوضوح في ميراث الحق المنزل من السماء ، وفي حمل الأمانة المعروضة على السموات و الجبال وفي إبلاغها إلى العباد بعدل و لين وإخلاص …
و ليس من المغالاة في شيء القول و المبالغة في الحكم إذا أثبتنا ان الحركة العلمية بالمغرب كانت تتداول بين القرويين و ابن يوسف من عهد الازدهار والاستقرار، وأن لذلك علاقة شديدة بدار الإمارة و قاعدة المملكة ، فعندما كانت بمراكش بلغت النهضة الثقافية أسمى أطوارها و عندما كانت بحاضرة فاس، نمت و ترعرعت حتى بلغت القمة و الذروة . وعلى الرغم من السبق التاريخي لجامع القرويين على مستوى التشييد والبناء ، فإن البداية الحقيقية للجامعة بالمغرب – فيما هو متاح من نصوص – إنما انطلقت أوائل القرن السادس الهجري على عهد المرابطين، الذين وسعوا جامع القرويين، كما أسسوا جامع ابن يوسف، ثم تقوت على عهد الموحديين.
يقول الأستاذ محمد المنوني رحمه الله : "البداية الجامعية لفاس في العصر المرابطي ونستطيع أن نظفر بأكثر من شاهد على هذه البداية الجامعية .
ومن الأدلة التي أوردها : تكاثر الراحلين للدراسة بها ، و ما تلقيه بعض المصادر من ضياء على بعض أماكن الدراسة في هذا العصر، خصوصا منها جامع القرويين الذي كان من المدرسين فيه أوائل القرن السادس أبو عبد الله ابن جامع الأنصاري الخزرجي الجياني المعروف بالبغدادي {ت546ه}ـ. هذا الرجل الذي ذكر عنه ابن عبد الملك المراكشي أنه لما قفل من المشرق في حدود سنة 515ه نزل أول قدومه مدينة فاس ، و قعد بغربي جامع القرويين منها يدرس الفقه مدة ….
وعقب الأستاذ المنوني على ذلك بقوله : هذا كلام ابن عبد الملك في الذيل والتكملة وهو أول نص يطالعنا بوقوع بداية الدراسة بجامع القرويين ووجودها بالعصر المرابطي .
ومن عجيب الموافقات ان تكون هذه السنة نفسها تاريخ عقد المناظرة الشهيرة بين المهدي ابن تومرت، وفقهاء المرابطين في رحاب جامع ابن يوسف .
و الحديث عن العلماء الذين عاشوا تحت سماء مدينة مراكش، أو وفدوا عليها من مختلف الجهات عبر العصور، شيء فوق الحصر، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله و قد تكفي الإشارة عن العبارة ...
لقد توافد على مدينة مراكش أهل العلم، من كل حدب وصوب، من سوس و من تخوم الصحراء و شنقيط و السينغال ، ومن فاس و قرطبة وتونس و الشام و تمبوكتو وتلمسان، ومن كل مكان، خصوصا في فترات ازدهارها، على عهد المرابطين و الموحديين كأبي عمرو عثمان السلالجي الفاسي {ت 564هـ } إمام اهل المغرب في علوم الاعتقادات و في الوقت ذاته أحد أبرز الوافدين على مراكش في ذالك العهد، لطلب العلم في معاهدها، و فيها لقي أبا الحسن ابن الإشبيلي وكان له بصر و خبرة بكتاب الإرشاد، فلازمه مدة يسيرة حصل له فيها فهم الإرشاد وفتح عليه كل ما انغلق عليه من معانيه مع العلم أن أول من ادخل الفكر العقدي الأشعري إلى المغرب هو أبو بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي الأغماتي {489 هـ }
و من هؤلاء الوافدين الأعلام أبو محمد عبد الله بن عمر الفارسي شيخ الشيوخ بدمشق {ت642هـ} رحل إلى مراكش و سمع من شيوخ، منهم ابن حوط الله سنة 597هـ وأدرك بها أبا العباس السبتي .
و تعلقت همة أبي يعقوب يوسف ابن عبد المومن الموحدي بالفلسفة، فتعلمها وجمع كثيرا من اجزائها ، وبدأ من ذلك بعلم الطب ....وأمر بجمع كتبها،فاجتمع له قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي .....
ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس و المغرب و يبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر الى ان اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب وهو الذي أحاط برعايته ابا بكر ابن طفيل المتوفى 581هـ .أحد فلاسفة المسلمين ، و كان حريصا على الجمع بين الحكمة و الشريعة .....كما أحاط بمثل ذلك ابا الوليد ابن رشد المتوفى 595هـ الذي تتلمذ له بمراكش عدد من الأعلام كابن حوط الله وابن الجذع و غيرهما والذي شرح كتب أرسطو استجابة لرغبة الخليفة ابي يعقوب و تشجيع من ابن طفيل كما هو معلوم .
وازدهرت الترجمة في هذا العصر، فكانت ترجمة ابن رشد لكتب أرسطو معتمد من جاء بعده ولاسيما أهل أوربا ، الشئ الذي يؤكده مثل : ارنست رينان الذي قال : لولا ابن رشد لما فهمت فلسفة أرسطو و غوستاف لوبون الذي قال : أمر لويس الحادي عشر بتدريس مذهب ابن رشد و مذهب ارسطو الفلسفيين في كل جامعات فرنسا ونافار.
وفي هذه الفترة بعث الملك فريديريك الثاني حاكم صقلية الألماني الأصل الى الخليفة الموحدي عبد الواحد الرشيد بن المامون في مراكش أربعة أسئلة موجهة لأبي عبد الله عبد الحق بن سبعين في موضوع الفلسفة العامة و التصوف، بعد أن وجه ملك الروم المذكور أسئلته الى المشرق، فرجعت أجوبة علماء المسلمين بما لم يرضه ولما جاوب ابن سبعين الأمبراطور على أسئلته أرضاه الجواب ...
ومن الأعلام الذين عاشوا في هذه الفترة أبو الحسن علي بن احمد الحرالي{ت637هـ} ولد و نشأ بمراكش ومات بحماة بالشام قال عنه الغبريني في عنوان : الدراية و نقله احمد باب في نيل الابتهاج بتصرف : كان اعلم الناس بالأصليين و المنطق و الطبيعيات والإلهيات صنف فيها تآليف أخبرنا الفقيه أبو محمد ابن عبد الحق قال : كنا نقرأ عليه لنجاة لابن سينا فينقض عراه نقضا
و كان الطب من أهم ما ورثته مراكش أواخر القرن الخامس، لما سقطت عروش ملوك الطوائف بين يدي المرابطين، فقصدها من الجزيرة فحول الأطباء، كابي مروان الإشبيلي، وأبي العلاء زهر ابن عبد الملك المتوفى 505هـ صاحب التذكرة في الأمراض السائدة بمراكش والأدوية المفردة وغير ذلك ، واعتنى الموحدون خاصة منهم يوسف ويعقوب بالطب عناية كبيرة ، فبنوا البيمارستانات بمراكش ، و نظموا مهنة الطب الذي كان يدرس بمراكش ومن أساتذته أبو الحجاج يوسف المريبطري ، قرأ عليه الطب بمراكش أبو العباس الكنبناري .
ومن رجالات الطب و الصيدلة في هذا العهد الخليفة أبو يعقوب يوسف الذي استهل أسماء الأطباء حينئذ، ومنهم أبو مروان عبد الملك ابن زهر{ت557هـ }صاحب كتاب الاقتصاد في الطب ورسالة في الأغذية ألفها استجابة لطلب الخليفة عبد المومن ، وبأمره حرر كتاب التيسير في المداواة والتدبير، و ألف ابو بكر محمد بن أبي مروان {ت595هـ} عدة تصانيف في الطب ككتاب التأثير في الطب كما أنجز ليعقوب المنصور الترياق الخمسيني .
ومن الطبيبات الخبيرات في هذا العصر أخت الحفيد أبي بكر ابن زهر و بنتها كانتا تدخلان الى نساء المنصور ، و هناك أسماء أخرى لا يتسع المقام لذكرهم ...
و على الرغم مما عرفته مدينة مراكش من إهمال، و ما لحقها من خراب في العصر المريني بعد نقلهم العاصمة إلى مدينة فاس، فإن جامعة ابن يوسف ظلت تؤدي رسالتها على أحسن وجه، و يكفي أن نذكر من أسماء أبنائها اللامعين ابن عبد الملك المراكشي صاحب الذيل و التكملة {ت703هـ} و تلميذه أبا العباس ابن البناء المراكشي{ت721هـ} أحد القلائل من العلماء، الذين جمعوا بين شتى العلوم و المعارف وبرزوا فيها ، و بلغ قمة عصره في صناعة التأليف في علماء المغرب على صناعة المشرق في جميع تصانيفه
و ما نقل عن الجذوة، من أنه كان يُدَرِّس بمدرسة العطارين بفاس غير صحيح، إذا علمنا أن هذه المدرسة إنما تم بناؤها سنة 723هـ أي بعد وفاة ابن البناء بعامين، و أصل هذا الوهم آت من عبارة لابن هيدور في مقدمة التمحيص في شرح التلخيص قال فيها : أخبرني شيخي و سيدي أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الفقيه الأصولي أبي الربيع سليمان اللجائي رحمة الله عليهما حين قراءتي عليه بمدرسة العطارين بمدينة فاس المحروسة انه قال : كان شيخنا أبو العباس ابن البناء رحمه الله شيخا وقورا حسن السيرة قوي العقل .... فالأمر يتعلق بأبي زيد اللجائي {ت771هـ }و هو من الوافدين على مراكش بعد أن استطاع إقناع والده، بضرورة الرحلة إلى ابن البناء، لما رأى تلك الرؤيا التي أوردها ابن قنفد أنه قال: رأيت في النوم أني أصعد إلى السماء، وأنا أقلب النجوم واحدا بعد واحد ، فانتبهت وأعلمت والدي من ساعتي، فسكت فلما أصبح ناولني نفقة و قال لي : اخرج إلى مراكش و اقصد ابن البناء و اطلبه في علوم ففعلت وفي القرن الثامن نجد ابا الحسن العنسي- كان معاصرا لأبي الحسن المريني – يؤلف كتابا في الباه و الأمراض الجنسية .ونجد في العهد السعدي مثل الحسن بن أحمد المسفيوي : له قدم راسخة في علم الطب مع المشاركة التامة في غيره من العلوم و هو متولي قراءة كتب أوقليديس بين يدي أحمد المنصور الذهبي من تواليفه : ... تعريبه لبعض الكتب الطبية ، و ألف محمد بن سليمان الروداني ت 1094هـ في الطب : كنز المحتاج في علم الطب و العلاج
وكانت العلوم العددية من ضمن العلوم المقرر تدريسها عند الموحديين ، وممن اشتغل بتدريسها بمراكش عبد المنعم ابن محمد المراكشي كان حيا سنة 598هـ و أبو العباس السبتي {ت601هـ}: كان يقرئ الحساب والنحو و يأخذ على ذلك أجرة, وأبو علي حسن بن علي المراكشي {ت660 هـ} ألف جامع المبادئ والغايات في البحث عن آلات علم الفلك، قال صاحب كشف الظنون: و هو أعظم ما صنف في هذا الفن، وممن ألف في الجبر والمقابلة : أبو الحسن محمد ابن عبد الملك ابن القطان {ت 628هـ} و من أبرز علماء المغرب في هذه العلوم ابن البناء المراكشي {ت 721هـ } وقد تقدم الحديث عنه ، و كان سعيد بن محمد العقباني {ت811هـ} من تلمسان يتولى التدريس مع القضاء في مراكش، من مؤلفاته شرح التلخيص لابن البناء و شرح قصيدة ابن ياسين في الجبر والمقابلة ،
وفي العهد السعدي استعادت مدينة مراكش من جديد أمجادها، فكانت ملتقى الفطاحل من العلماء والصالحين، الذين يتمنى كل إنسان الرحلة إليهم، للقائهم و الأخذ عنهم، والتبرك بهم ومنهم .
وقد توافد عليها العلماء و الدارسون، من كثير من البلاد العربية المجاورة، من الأندلس بعد نكبتها، و من تونس ومن وهران، عقب هجوم الإسبان أوائل القرن العاشر على شواطئ الجزائر و تونس ، ومن تلمسان فرارا من مذابح الأتراك فيها .
و في هذا العصر عرفت المدن العلمية المغربية العريقة - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - علماء أفذاذا، انتهت إليهم في زمنهم الرئاسة العلمية ووصفوا بشيوخ الجماعة، وهو لقب يرجع فيما وقفت عليه إلى العهد المريني بشكل محدود، قبل أن ينتشر في العصر السعدي بشكل كبير
و نصل إلى العصر العلوي فنجد السلطان سيدي محمد بن عبد الله قد اتخذ مدينة مراكش مقر إقامته حين كان خليفة لأبيه، ثم عاصمة لملكه بعد تربعه على عرش أسلافه الميامين ، و اختار رحمه الله اقتفاء أثر أحمد المنصور الذهبي في المجالين العلمي والأدبي ، فكان في ذلك خير كثير ...
وكان التعليم في القرويين وابن يوسف و غيرهما من معاهد التعليم قد بدأ يتسرب إليها الضعف و الجمود ، و يستولي على شيوخها و طلابها الكسل والخمول، مما تنبه له السلطان سيدي محمد بن عبد الله، ومن جاء بعده من ملوك الدولة العلوية الشريفة، فهبوا لإصلاح التعليم بشكل شمولي، وتوجيه نحو المسار الصحيح، و أصدروا من أجل ذلك الظهائر و المنشورات .....
ومن شيوخ العلم بجامع ابن يوسف في هذا العهد، محمد بن الصغير الإفراني {ت1155هـ} قال عنه تلميذه الحضيكي : هو عالم جليل ذو تصانيف وقصائد أديب و إليه تشد الرحال في علوم الحديث والسير ، و كنت أحضر عنده في درس بين العشاءين بجامع ابن يوسف بمراكش في سيرة الكلاعي ، وكان يحثني عليها إذ ذاك
و من مخضرمي الدولتين السعدية و العلوية محمد بن سعيد المرغيتي {ت1089هـ} الذي اشتهر بنظم المقنع وشرحيه : لممتع و المطلع في التوقيت ....
و مثله محمد بن سليمان الروداني {ت1094هـ} الذيألف في الفلك و التنجيم ،ووضع عددا من الآلات وبالأخص أسطرلابا انتشر بشبه الجزيرة العربية ومن مؤلفاته منظومة في علم الميقات و شرحها و بهجة الطلاب في الأسطرلاب واختصر في الهيأة ،و صنع كرة جغرافية عظيمة .
و في العصر الحديث وتخليدا لما شمل به جلالة المغفور له محمد الخامس هذه الجامعة العتيدة سنة 1939 ميلادية من رعاية وإصلاح، نظم شاعر الحمراء محمد ابن إبراهيم قصيدة مسرحية مختلفة البحور والقوافي تحت عنوان : بين القديم والحديث يستغرق تشخيصها نصف ساعة وتبتدئ بنشيد الافتتاح :
يا خير من في عصره قد نال شعبه المنى
. . .
مراكش قد زرتها فاللثم منهــــــــــا ليديك
إذ بالمنى أحييتـــها فهي منــــــــــك و إليك
كلية ابن يوسفـــــا منها إليك شكــــــــرها
أبنت منها ما اختفى حتى تجلي ســـــــــــــرها
وبعد، فنأمل أن يكون في أعمال هذه الندوات الثلاث، إضافات جديدة ، تنضاف لما كتب عن الجامعة اليوسفية بمراكش وتعضده ، و هي بأقلام عدد من الأساتذة والباحثين المرموقين ، تضمنت صفحات مشرقة من تاريخ جامعة ابن يوسف و إشعاعها الفكري والحضاري، خلال ما يزيد على تسعة قرون من الزمن الحافل بالأمجاد، الناطق بعظمة الأجداد و الأحفاد .الغني بالعطاء الهادف الجاد على مختلف الأصعدة والمستويات، مع لفت الانتباه الى بعض الخصوصيات التي تعكس مدى الرقي الفكري و العلمي الذي ساد فيها لفترات من تاريخ المغرب و امتد إشعاعه الى كثير من البقاع الإسلامية و الأصقاع الأوربية ، مما يجعل الحديث عنها – اليوم – حديثا عن جامعة إسلامية نموذجية جديرة بأن تحظى بما تستحق من عناية و اهتمام لما كانت تمتلكه من مؤهلات جمعت بين عمق الدراسات و أصالتها ، و لما ترمز إليه من وسطية و اعتدال، وانفتاح على المحيط وانخراط في هموم المجتمع و تجاوب مع العصر في جوانبه الإيجابية ، بالقدر الذي حقق تواصلا حضاريا بناء ، مع الأشقاء والأصدقاء من الجيران و غيرهم ، من عرب أو أفارقة و أوربيين . و يتجدد الأمل اليوم في إحياء جامعة ابن يوسف ، لتؤدي رسالتها إلى جانب شقيقتها جامعة القرويين خصوصا بعد ما تعرفه هذه الأخيرة في الوقت الراهن من فتح عدد من الكليات في مختلف أرجاء الوطن بل وخارج الوطن كذلك ... وما ذلك على الله بعزيز .