بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

من معالم الشخصية العلمية للحسن الثاني ومنهجه في التفسير والحديث أنموذجا

تاريخ نشر المقال 06-10-18 12:14:10

    من معالم الشخصية العلمية للحسن الثاني ومنهجه في التفسير والحديث أنموذجا
عندما ننظر إلى شخصية جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه نظرة شمولية، نجد أنفسنا أمام شخصية متسقة متكاملة، منسجمة مع ذاتها ومع الآخر،ذات اهتمامات شتى، وحضور إيجابي بارز في عدة مواقع ومواقف محليا وعالميا.
إن عالم الحسن الثاني الرحيب يغري بالتحليق في أجوائه السامقة. وبالغوص في أعماق بحره الغني بالصدفات، وبكل مفيد فريد، مما يتعذر رصده في مثل هذه العجالة.
وأمام هذا الخصب والشموخ، والعمق في شخصية جلالته، وأمام تنوع مواهبه ومعارفه على الرغم مما طوق الله به عنقه من مشاغل سياسية يومية في عالم تقارب فيه الزمان والمكان، وتطورت وسائل الاتصال بشكل مذهل.
أمام هذه الحقائق وغيرها، آثرت في هذه المداخلة أن أشير باختصار إلى بعض الملامح العلمية والثقافية للحسن الثاني، وأؤكد على "من"التبعيضية في العنوان، لأن الشخصية العلمية لجلالته لا يمكن اختزالها في كلمات معدودة.
وقد اخترت لملامسة الشخصية العلمية لجلالته بعض المعالم البارزة التي يمكن أن يلاحظها بيسر كل متأمل في هذه الشخصية الفذة المتفردة، مع ذكر عنايته بالتفسير والحديث، وذلك على النحو التالي:
أ‌- من معالم الشخصية العلمية للحسن الثاني:
أولا: سعة الاطلاع أو الموسوعية :
إن أول ما يدل على هذه الموسوعية، خطاب الحسن الثاني السلس المتنوع، السهل الممتنع، المنبثق من مكونات شخصيته العلمية التي تلتقي فيها الأصالة والمعاصرة، وتتعايش مختلف الحضارات والثقافات واللغات وتتفاهم. كما تنصهر العلوم والآداب والفنون في منظومة واحدة لا يمكن بحال أن تحمل غير توقيع الحسن الثاني وبصماته.
والناس في كل زمان ومكان في أمس الحاجة إلى مثقفين فاعلين لا يقفون عند تخصصاتهم –إن كانت لهم تخصصات- بل يتعدونها إلى حاجيات العصر ومقتضيات التطور.
فكل إنسان على حد تعبير جلالة الحسن الثاني ، يتخصص ولا تكون ثقافته شمولية وعامة، يكون دون عمق. وحتى إذا كان عميقا، يكون عمقه لا ينفعه إلا في مادة من المواد أو في ميدان من الميادين.
ذلك أنه كثيرا ما يكون الشخص عالما مبرزا في مجال تخصصه، لكنه يجهل ما عداه، ويظل مجال نفعه للمجتمع محدودا في إطار ما يحسن.
إن المثقف هو الذي يشعر مخاطبيه بأنهم أمام عقل مستنير، وهو قبل كل شيء كما يقول جلالته: ذلك الشخص المتفتح على كل شيء، إن كان الإنسان المثقف هو إنسان يتعايش، يأخذ ويعطي.
وإن المرء ليندهش عندما يطلع على مختلف مجالات اهتمام جلالة الملك الحسن الثاني العلمية والفكرية والأدبية، مما يمكن استشفافه من خلال قراءات متأنية متأملة في كتابه التحدي، وذاكرة ملك، أو مختلف دروسه وخطبه، ورسائله، ومقالاته، ومقابلاته الصحفية، وغير ذلك مما يفيد مجتمعا تنوع معارفه، واتساع آفاقه، وقوة ذاكرته، ورهافة حسه، وخفة ظله. ولا غرابة، فقد اغترف من معين الثقافة الإسلامية أوفى نصيب، ونال من الثقافة العربية عيونها وروائع فكرها وآدابها.
ومن ثم تراه يجوب في أحاديثه عوالم من المعارف والآداب والفنون، تتوارد فيها أسماء عدد من الأعلام من رجالات العلم والسياسة والفقه والقانون والآداب، والفلسفة والتاريخ والاجتماع، وغير ذلك، مستحضرا العدد الهائل من النصوص مستشهدا في كثير من الأحيان بآيات من الذكر الحكيم أو بأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأحيانا بالشعر أو الأمثال منسجما في كل ذلك مع المحور الذي يدور حوله الحديث، مالكا لزمامه ببراعة فائقة وبلاغة رائقة.
وعلى الرغم من أن تكوين جلالته قانوني بالدرجة الأولى، فإن ذلك لم يحل دون تعميقه لثقافته في شتى مجالات العلم والمعرفة، وإلمامه الكبير بالتاريخ ومعرفته بمختلف العقائد والطوائف الدينية وقراءته المباشرة لنصوص التوراة والأناجيل مع إتقان ثلاث لغات وأكثر.
وإلى جانب هذا التنوع في الثقافة، نجد جلالته يلج عالم الطب الذي درسه خلال سنتين في المنفى بمدغشقر دراسة منتظمة. ولم يقف عند هذا الحد من الدراسة، بل جاوزه، فابتكر جهازا لمراقبة أمراض القلب. هذا الاختراع الذي سجل بإدارة براءات الاختراع والعلامات التجارية بالولايات المتحدة الأمريكية، وبذلك اعتبرته صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر يوم 25 فبراير 1989 أول ملك يقوم باختراع.
كما منح جلالته بتاريخ 7 نونبر 1996 درجة مستشار كبير ببروكسيل أوريكا 96
وعن الطب يقول جلالته مخاطبا الأطباء: ربما أنا من أقرب الحقوقيين إليكم أنتم الأطباء، ذلك أنه كان دائما في قرارة نفسي ميل إلى الطب....
ثانيا: الأناقة الفكرية:
وهي من أبرز معالم شخصية الحسن الثاني، وعن الأناقة يقول جلالة الحسن الثاني: إن الإنسان خلق أنيقا وأنه لا ينفك متعهدا لأناقته(.....)فإذا لم نكن أنيقين بأنفسنا، فإن صورتنا لن تتغير، إن الأناقة لهي في العقل قبل كل شيء، فإذا لم يكن المرء أنيقا فكريا أو خلقيا(....) فلن يكون أبدا أنيقا.
وهذا لعمري هو الجمال الذي قال عنه المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال " أخرجه مسلم والترمذي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، والطبراني في الكبير عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، ولحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما. وسببه كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنا ونعلبه حسنا. قال: إن اله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس
إن جلالته يرى أن الجمال الأسمى، جمال النفس، جمال المخبر كما قال الإمام علي رضي الله عنه فيما ينسب إليه من شعر:
ليس الجمال بأثواب تزينــنا إن الجمال جمال العلم والأدب
ويحدد جلالته مقاييس الجمال وهو يتحدث عن المعايير التي يعتمد عليها للحكم على عمل فني ما، فيقول:"عندي أن على الإنتاج الفني أن يخضع لمعيار التوازن، ففي التمثال توازن الحركة، وفي اللوحة توازن بين الامتلاء والفراغ في الألوان، وفي الخلفيات, وفي الموضوع الأساسي. فكل عمل فني إنما هو قضية التوازن".
وكذلك هو الجمال في كل شيء، إنه توازن وانسجام وتناسق. وقد أكرم الله عبده الحسن الثاني بالجمال الباطن والظاهر، فكان أنيقا في لغته وخطابه، أنيقا في معاملته وسلوكه، أنيقا في آماله وطموحه، يغلب على الدوام على جانب التفاؤل ويقول: "أنا لست متشائما، أنا رجل واقعي ومتفائل بالطبع"، ويقول:"إن المتشائم لن يكون أنيقا أبدا." وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
والذي نفسه بغير جمــال . . . لا يرى في الوجود شيئا جميلا
أيها الشاكي ومـا بك داء . . . كن جميلا ترى الوجود جميلا
وإذا كان جمال ذوق جلالته يظهر في لباسه وسمته، وفي المعمار والزخرفة،كما يتجلى مثلا في ضريح محمد الخامس، وفي مسجد الحسن الثاني، وكما ينعكس على بعض الهوايات الخاصة كالذواقة، ويعني بها جلالته ابتكار ألوان جديدة من الطعام اللذيذ، فإن هذا الجمال يطبع أعمال جلالته الفكرية بشكل تمثله كتاباته وأحاديثه المختلفة على مستوى الشكل والمضمون، مما يمكن أن تستخرج منه مختارات أدبية وفكرية مشرقة على شكل نصوص تدرس في المدارس والمعاهد والجامعات.
ومن ذوق جلالته الجمالي الرفيع، نظرته إلى الحلال والحرام في الإسلام حين يقول:"إن المحرمات في الإسلام ليست كثيرة جدا"، وهذا أسلوب الداعية الحكيم، أسلوب المتفائل المتشبع بالإيمان الذي ينظر إلى مكامن الجمال في الدين، في مقابل من تشعر أحاديثهم بالتشاؤم، وكأن هذا الدين طبع بعلامات المنع في كل اتجاه، مع أن الحقيقة غير ذلك. قال تعالى: "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك". وقال: "يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات" الآيتان. وقال:"قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة".
ثالثا: الحس التاريخي:
لا يمكن لدارس شخصية الحسن الثاني العلمية أن يدرسها بمعزل عما يمكن تسميته بالحس التاريخي، وهو عبارة عن قدرة فائقة على استحضار أحداث التاريخ ورصد محطاته الكبرى مع القدرة في الوقت ذاته على صنع والاشتغال بالتاريخ، باحثا أو مدرسا. هو العمل الذي كان جلالته يفضل ممارسته، لو لم يكن ملكا. بل كانت تحدوه رغبة أكيدة في دراسة التاريخ بعد حصوله على الباكلوريا، لكن والده المنعم جلالة محمد الخامس أوقفه قائلا:"لا،لا داعي لذلك، عليك أن تدرس الحقوق، فأنت ستجد دائما مهندسا ليبني القناطر، ومؤرخا ليكتب التاريخ، ولكن القانون وحده، سيمكنك أن تدافع عن نفسك وعن حقوق شعبك".
ويرى جلالة الحسن الثاني أن التاريخ يصنع أحيانا ب"لو"، ويضرب لذلك مثلا بطلب جده المقدس المولى إسماعيل يد الأميرة "دوكنتي" كريمة لويس الرابع عشر ملك فرنسا، ويقول بأنه لو تمت تلك الزيجة لكان المغرب خلال الثورة الفرنسية في جنوب وشمال فرنسا، يحارب من أجل إقرار النظام الملكي هناك.
ولا يقف اهتمام جلالته بالتاريخ عند الحدود الجغرافية الضيقة، ولا عند سرد الأخبار، وإنما يتجاوز ذلك إلى الانفتاح على العالم، واستخلاص العبر من تجارب السابقين، والتخطيط في الوقت نفسه للمستقبل. ومن أجمل صور ذلك وأبدعها:"المسيرة الخضراء"التي تفتقت عنها عبقرية الحسن الثاني، فكانت أرقى أساليب تحرير الأوطان واسترجاع أجزائها المغتصبة بطريقة سليمة حضارية. بل لم يكن لها نظير في التاريخ كله، اللهم إلا أن تكون الحديبية التي كانت فتحا مبينا ونصرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللإسلام والمسلمين. وكلا المسيرتين من إفراز حضارة الإسلام وأخلاقه. ولا عجب أن يستلهم حفيد رسول الله من جده الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثل المسيرة الخضراء، فقد كان طيب الله ثراه يدعو إلى إحياء السنة والسيرة النبوية تمثلا وتطبيقا ودراسة واستيعابا واقتفاء واقتداء.
ولم تكن تمر بعض ذكريات الإسلام الخالدة التي لا تتكرر إلا مرة كل مائة عام دون أن تستوقف جلالته لإحيائها وتخليدها عمليا، ومن أبرز هذه الذكريات:احتفالات العالم الإسلامي سنة 1387هـ بمرور أربعة عشر قرنا على نزول القرآن الكريم، ثم الاحتفالات بمطلع القرن الخامس عشر الهجري، والتي امتازت برسالة جلالته إلى الأمة الإسلامية جريا على سنن أسلافه الكرام، ملوك الدولة العلوية الشريفة. وقد بلور جلالته في هذه الرسالة السامية أفكاره السديدة المنطلقة من الكتاب والسنة، فشفى وكفى وأزال الغشاوة عن العيون، ووضح المنهج السليم والصراط المستقيم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك.
إنها رسالة تاريخية عظيمة بحق. فهي وثيقة عمل للتغيير الإسلامي المنشود، سواء في الفكر والتصور، والرأي والتنظير، أو في الواقع والحركة والفعل الحضاري لأمتنا من جهة، وللإنسانية جمعاء من جهة ثانية.
وإذا كان الوقت لا يسمح باستعراض بعض النماذج من هذه الرسالة التاريخية الهامة، فتكفي الإشارة إلى أنها فهم عميق لفلسفة الإسلام ومبادئه، وربط محكم للحاضر بالماضي، واستشراف لغد أفضل، وأكثر تألقا وإشراقا، ولاغرو، فإن الحضارة هي عمل الإنسان باعتباره صانع الحضارة وأهم ركن فيها.
رابعا: الحوار
هو حاجة إنسانية ملحة، تغني التجربة وتنمي المعرفة وترفع الحجاب عن الغائب المستور، وتوصل إلى الحق المفضي إلى الإقناع والإذعان، وإلى المودة والاتفاق بعد الحيرة والاضطراب والفرقة والاختلاف. قال تعالى:"عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة،والله غفور رحيم"الممتحنة 7.
وقد فسح القرآن المجال للرأي الآخر، فحفظ لنا أقوال المشركين والكفار والمنافقين، على ما فيها من افتراءات على الله أو على رسوله. الشيء الذي يعلمنا كيف نتعامل مع الرأي الآخر، قبل أن نرد عليه بالكلمة الطيبة اللينة، ضمانا لاستمرار الحوار، وطمعا في جني أشهى الثمار إحقاقا للحق وتأليفا بين القلوب." فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك".الآية –آل عمران 159.
وجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله كان مؤمنا بالحوار، بل كان أحد رجالاته في العصر الحاضر بين الداعين إليه.
يقول عند زيارة البابا يوحنا بولس السادس للمغرب:"إنه إذا اجتمع حسن النية، واجتمع حسن الإرادة، فإنه لاشيء يمكن أن يفرق بين الأجناس وبين الديانات السماوية".
ويقول في رسالته إلى المؤتمر الإسلامي المسيحي الثاني الذي انعقد بفيينا من 13 إلى 16 ماي 1997م:"إن إرادة الحوار تعني في أخص ما تعنيه، أن كل طرف من طرفي الحوار أو أطرافه يصدر عن اعتراف بالغير، وعن احترام لغيرته واختلافه، لذلك كان لابد للحوار من أسس فلسفية يقوم عليها، ومن قواعد أخلاقية يستند إليها، ومن موجهات روحية يستنير بهديها، وكان لابد له أيضا من أوفاق يقرها ومن مواثيق وعهود يلتزم بها، فلا يتنكر لها أو يسعى في الإخلال بها".
وقد كانت الزيارتان المتبادلتان بين أمير المؤمنين جلالة الملك الحسن الثاني وقداسة البابا يوحنا بولس السادس من أروع صور البناء الهادف إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة التي علقت بأذهان المسيحيين إزاء الإسلام والمسلمين زمنا طويلا، ومن أعظم المبادرات المباركة الصادقة التي تعمل على تقريب الهوة بين مختلف العقائد والديانات، وبالتالي بين سائر الشعوب والأمم لنشر المحبة والتفاهم والسلام بين كل الأمم.
خامسا: الأصالة والمعاصرة
من أبرز معالم الشخصية العلمية لجلالة الملك الحسن الثاني توفيقه بين الأصالة والمعاصرة في خط متواز وانسجام تام لاتناقض فيه ولا نشاز.
ولا شك أن التوفيق بين الأصالة والمعاصرة معادلة صعبة معقدة، لا يستطيع حلها إلا عظماء الرجال، ولا يمكن للحياة أن تسير إلى الأمام في حركة إيجابية فعالة، م الم يتحرر الإنسان من انغلاقه على ذاته، وما لم يتخلص من عقدة الخوف من الآخر، وذلك بالانفتاح على العصر، لكن من منطلق مجموعة من المبادئ والقيم الثابتة التي إن هو فرط فيها فقد شخصيته واعتباره، ولم تعد له قيمة في هذه الحياة.
وجلالة الملك الحسن الثاني من ذلكم الطراز النادر من القادة العظام، الذين جباهم الله القدرة الفائقة على التجاوب مع الحياة في كل إيجاباتها من منطلق مجموعة من المبادئ والقيم التي يؤمنون بها ويخلصون لها. وهو كما يقول عن نفسه في ذاكرة ملك،"أنا رجل مبادئ ولست رجل مواقف، يمكن أن أغير موقفي إذا دعت الضرورة إلى التغيير، على ألا يكون ذلك البتة على حساب المبادئ".
إن الحضارة الإسلامية يعتز جلالته بالانتماء إليها حضارة عالمية تفتح ذراعيها للجميع، وتطلب الحق والفضيلة أينما وجدا، وأيا كان مصدرهما.
يقول جلالته في كتاب التحدي: إن علينا أن نربط الماضي بالحاضر لنعد المستقبل، لأنه وأريد أن ألاحظ هنا بقوة-لا يوجد أي تناقض أو تعارض- بل على العكس-بين الرسالة الرئيسية للإسلام من جهة، وبين التيارات العلمية والإبداعات الفنية المعاصرة والروح الإنسانية من جهة أخرى".

ب‌- عناية الحسن الثاني بالتفسير والحديث:
أولى جلالة المغفور له الحسن الثاني الدراسات القرآنية والحديثية عناية فائقة، فساهم في توجيهها من خلال دروسه الدينية الحسنية وخطبه ورسائله، وحث العلماء على ذلك، وأسس المؤسسات لتخريج القراء والمحدثين، وأعاد الاعتبار لجامعة القرويين، وأمر بطبع كثير من كتب التراث الإسلامي النفسية.
وطور الدروس الحديثية الرمضانية بالشكل الذي أصبحت عليه الآن، وغدت بحق مطبوعة بطابعه حاملة لاسمه.
لقد لاحظ جلالته في السنوات الأولى لاعتلائه عرش أسلافه الميامين أن عددا من كبار العلماء بدؤوا يرحلون تباعا إلى جوار ربهم، وأن الساحة بدأت تخلو بغيابهم من الأطر العلمية الكفئة التي كانت تغني هذه الدروس بأبحاثها ودراستها القيمة، فعمد إلى إنشاء دار الحديث الحسنية لإيجاد الخلف القادر على حمل الراية من جديد، وإعداد الدروس الحسنية بنخبة من العلماء في مستوى أسلافهم رحمهم الله.
وظل جلالته يوجه العلماء إلى النموذج المطلوب في التفسير والحديث، ويمكن القول بأن هذا الأنموذج ينشد الجمع بين الأصالة والمعاصرة.
يقول جلالته في درسه الديني الذي ختم به الدروس الحسنية لرمضان عام 1388هـ/1968م منذ ثلاث سنوات:"قررنا أن نضع اللبنة الأولى لدار الحديث حتى نلقح علماءنا الشباب والكهول بلقاح جديد، وحتى نعطي لهذه المادة مادة الحديث معناها الحقيقي.
كنا نسمع بالمحدث الذي يعرف الأصول، ويتقن كتاب الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بال وبينة تامة من الفقه والقانون، ولكن لم نكن نسمع محدثا يحاول أن يستنبط من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن آيات كتاب الله القواعد العصرية، الفقهية، التقنية، العلمية التي من شأنها لأن تجعل مجتمعنا مثلا للحضارة، لا مجتمعا راكدا".
ويقول جلالته في كلمة توجيهية في ختام الدروس الحسنية لرمضان سنة 1405هـ والتي تميزت بمشاركة نخبة من الأساتذة المختصين في العلوم والآداب العصرية.
"إننا نشكر جميع الأساتذة الذين شاركوا في هذه الدروس الرمضانية، وإن هذه الجلسات كانت بالنسبة لنا مجالا للإحاطة بعدة زوايا من علوم لم تكن تقرأ ولا تدرس في مثل هذه المجالس، لا لأننا قاصرون وكسالى، ولكن لأننا بدأنا، ويجب أن نقف هنا، بدأنا نعتبر أن الدين دين والحياة حياة".
علينا أن نبين أنه لا حاجز بين ربط كل مسألة مسألة بالدين وبالسنة، وثانيا أن نفتح للمجتهدين حلبة السباق، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
لكن من نشدان جلالته الجمع بين الأصالة والمعاصرة في تفسير القرآن وشرح الأحاديث النبوية، فإنه يعطي الأولوية للأصالة، ويدعو إلى مراعاة مناهج علماء المسلمين واستخدام أدواتهم في ذلك.
يقول جلالته في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية: الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري بمناسبة اختتام الدروس الحسنية ليلة القدر المباركة لعام 1413هـ:
"إننا نريد بواسطة كتابنا هذا أسمى الله قدره تبليغك سابغ رضانا وتوجيهك إلى حض علماء مملكتنا السعيدة على الاحتفاظ لهذه الدروس بطابعها الأصيل الذي يجعل الدرس حيا، بتنوع فنونه، غنيا بإشاراته وكثرة علومه، جامعا لما ينبغي أن يشتمل عليه الدرس من: نكت بلاغية ولغوية، وقواعد فقهية وأصولية، وقواعد وفرائد من فنون الأدب، وعلوم العربية، إضافة إلى ما يقوم عليه من علوم القرآن وعلوم الحديث، باعثا لذلك النموذج الأصيل الذي اشتهر به علماؤنا الأعلام في ماضي أمتنا المجيد، وعلماؤنا حفظهم الله إذا أرادوا فعلوا وأجادوا".
وإبرازا لهذه المفاهيم مجتمعة أقدم هذين الأنموذجين من درسين حسنين لجلالته، حرصت على أن يكون أحدهما في التفسير والآخر في الحديث.
أولا: التفسير
في رمضان عام 1388هـ ألقى جلالته في ختام الدروس الحسنية درسا في التفسير انطلاقا من قول الله تعالى:"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا". الأحزاب72
قسم جلالته الموضوع تبعا للآية إلى قسمين:
القسم الأول: لعرض الله تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال.
القسم الثاني:لحمل الإنسان الأمانة.
يبدأ جلالته التفسير بشرح الكلمات الرئيسية في الآية اعتمادا على ما جاء في اللغة العربية، مع ربطها بمفردات القرآن، وإبداء ملاحظات تمتاز بذوق رفيع وإدراك عميق لمواطن الجمال في لسان العرب. وفي هذا السياق أقدم هذا الأنموذج:
يذكر جلالته أن أبى بمعنى رفض، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن في حق إبليس كذلك حينما أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر على الله تعالى، أما السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
وينتقل إلى معنى الإشفاق فيشير إلى أنه يعني في اللغة الإحذار من قولهم: أشفقت من كذا بالألف حذرت.
ثم يقول جلالته: "وأنا باجتهادي الخاص أفضل"الزهد" في المسؤولية، أما الإحذار ففيه نوع من الخوف وعدم التصرف، ونوع من الإجبار، أما الزهد ففيه نوع من الحرية والاختيار".
وينتقل جلالته إلى الشق الثاني من الآية فتستوقفه كلمة (وحمله). وفي ذلك يقول:"حاولت أن نبحث في جميع القراءات هل سأجد حملها وحدها أو تحملها أو حملها بضم الحاء لأنه لو وجدنا تحملها أو حملها بضم الحاء لكان المعنى منعكسا تماما لما سنحلله، لكن كانت القراءات كلها هي وحملها الإنسان بفتح الحاء، أي حملها الإنسان عن طواعية واختيار".
وبذلك- كما يلاحظ- يكون الانسجام التام بين التفسير الأول لـ- أشفقن- وهذا التفسير لحملها.
ثم يعود جلالته إلى بيان الفرق بين إباء السماوات والأرض والجبال، وبين قبول بل تهافت الإنسان على تحمل المسؤولية، لينتقل بعد ذلك إلى الكنه والمغزى الحقيقي لهذه الآية، وهو لفظ (الأمانة). وهنا يتوسع في معنى الأمانة ومرتبتها من الواجبات الأخرى في الدين الإسلامي، ويستحضر في هذا السياق حديث جبريل، فيقرأه بتمامه ثم يعلق عليه من ناحية صناعة الحديث، ويتكلم على الساعة ومعانيها بشكل دقيق وعميق.
ثم يتوقف طويلا عند المسؤولية، فيقسمها إلى: مسؤولية مطلوبة وأخرى مفروضة، فيرى أن تحمل هذه الثانية أخطر من تحمل الأولى، لأنه لا فرار من تحملها.
ويتحدث عن الضمير المهني انطلاقا من مفهوم الإحسان في الحديث، قبل أن يختم الدرس بدعوات طويلة عبر فيها عن مدى اهتمامه بأحوال المسلمين، ومتمنياته لهم، والدعاء لأسلافه المنعمين، وفي طليعتهم والده المنعم جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه.
ثانيا: الحديث
في رمضان من عام 1387هـ ختم جلالة الملك الحسن الثاني الدروس الحسنية بدرس ديني، انطلاقا من الحديث الشريف:"كم من رجل لو أقسم على الله لأبره".
أقام جلالته هذا الدرس على رؤية مقارنة بين الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، فتناول كل واحدة منها من حيث الزمان والمدلول والرسول الذي دعا إليها، والمعجزة المؤيدة له، منتهيا إلى أنه إذا نحن مثلنا الديانات بالعملة، فالعملة الجارية، العملة القوية، العملة التي يمكن أن يتعامل بها في كل زمان ومكان، وهي الذهب، هي النبي صلى الله عليه وسلم، فرسالته من ذهب. عملة قوية يتعامل بها عند جميع الأجناس، وفي جميع الأماكن، وفي جميع الأزمنة.
ثم يعود جلالته إلى نص الحديث، فيذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بلفظ (كم) ولم يذكر في الحديث (كيف)، فهذا استبشار عظيم، كلكم-يقول جلالته- أو الكثير منكم لو أقسم على الله لأبره، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يشترط أن تكون في الشخص مواصفات معينة، فورد الكم دون أن يكون مقرونا بالكيف بفتح الأمل لرجل الشارع، للقوي والضعيف، للمذنب وللطائع، لكن عدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الشروط لا يعني الاستغناء عنها، فهذا الموقف بل من الطبيعي أن هذا العبد في المقام لا يكون إلا مسلما مؤمنا محسنا.
ثم يتحدث جلالته عن شمول الرسالة المحمدية، ويذكر في السياق حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده"". فيقول جلالة الملك إن القرآن كما جاء للناس كافة، جاء الحديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة. كان في إمكانه عليه السلام أن يقول:المسلم من سلم الناس أي جميعهم من لسانه ويده.
ثم يضيف:"وأنا أقول(ويده) تدخل فيها الكتابة، فالمسلم من سلم الناس من لسانه ويده وقلمه، حيث إن القلم يخط فيكذب(....)، فالمسلم من سلم الناس من لسانه ويده التي يدخل فيها القلم الذي يكتب، فالله يا أهل القلم، الله يا أهل الصحف، اتقوا الله حتى تكونوا مسلمين".
ويسترسل جلالته في المقارنة والتحليل مستحضرا ورابطا الدرس بالواقع المعيش، مذكرا بالمسؤوليات، خاتما بمجموعة من الدعوات الصادقة المعبرة عن إيمان عميق وتعلق كبير بالله عز وجل.
هذه بعض معالم الشخصية العلمية لملك العلماء، وعالم الملوك، أمير المؤمنين جلالة الحسن الثاني، طيب الله ثراه، وخلد في الصالحات ذكره، وهذه بعض جوانب عنايته بالقرآن والسنة: قارئا ودارسا وموجها وداعيا، وهي في مجموعها قطرات من بحر وحبات من رمال، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منه عملا دائما لا ينقطع...