بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

من معالم الشخصية العلمية للحسن الثاني ومنهجه في التفسير والحديث نموذجا

تاريخ نشر المقال 11-12-24 12:51:28

    من معالم الشخصية العلمية للحسن الثاني ومنهجه في التفسير والحديث نموذجا
من معالم الشخصية العلمية لجلالة المغفور له الحسن الثاني
مقدمة
عندما ننظر بإمعان الى شخصية جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، وبشمولية وتجرد، نجد أنفسنا أمام شخصية متسقة متكاملة، منسجمة مع ذاتها و مع الآخر ، ذات اهتمامات شتى ، وحضور إيجابي بارز، في شتى المواقع و المواقف وطنيا وعالميا .
نجد أنفسنا أمام عالم رحيب، يغري بالتحليق في أجوائه السامقة، وبالغوص في أعماق بحره الغني بالصدفات، مما يتعذر رصده في مثل هذا الموجز.
أمام هذا الخصب و الشموخ، و العمق في شخصية جلالته، وأمام تنوع مواهبه ومعارفه، على ما طوق الله به عنقه من مشاغل سياسية يومية، في عالم تقارب فيه الزمان والمكان، وتطورت فيه وسائل الاتصال والتواصل بشكل مذهل .
أمام هذه الحقائق و غيرها، آثرت في هذه الأحاديث ، أن أشير باختصار شديد الى بعض الملامح العلمية و الثقافية للمغفور له الحسن الثاني ، وأؤكد على " من " التبعيضية لأن الشخصية العلمية لجلالته، يتعذر اختزالها في كلمات معدودات .
و قد اخترت لملامسة الشخصية العلمية لجلالته بعض المعالم البارزة ، التي يمكن أن يلاحظها بيسر ، كل من يتأمل في هذه الشخصية الفذة المتفردة...
الحديث الأول – سَعَة الاطلاع
إن أول ما يدل على موسوعية ، جلالة المغفور له الحسن الثاني و سعة اطلاعه ، خطابه السلس المتنوع، السهل الممتنع، المنبثق من مكونات شخصيته العلمية، التي تلتقي فيها الأصالة والمعاصرة، و تتعايش وتتفاهم، مختلف الحضارات و الثقافات و اللغات ، كما تنصهر علوم و آداب وفنون في منظومة واحدة ، لا يمكن بحال أن تحمل غير توقيع الحسن الثاني وبصماته .
و الناس في أمس الحاجة في كل زمان و مكان، إلى مثقفين فاعلين، لا يقفون عند تخصصاتهم- إن كانت لهم تخصصات – بل يتعدونها إلى حاجيات العصر، و مقتضيات التطور.
فكل إنسان - على حد تعبير جلالة الحسن الثاني – يتخصص و لا تكون ثقافته شمولية وعامة ، يكون دون عمق ، و حتى إذا كان عميقا، يكون عمقه لا ينفعه إلا في مادة من المواد، أو في ميدان من الميادين.
ذلك أنه كثيرا ما يكون الشخص عالما مبرزا في مجال تخصصه، لكنه يجهل ما عداه، ويظل مجال نفعه للمجتمع، محدودا في إطار ما يحسن.
إن المثقف هو الذي يشعر مخاطبيه بأنهم أمام عقل مستنير، و هو قبل كل شيء -كما قال جلالته – ذلك الشخص المتفتح على كل شيء، إن الإنسان المثقف هو إنسان يأخذ و يعطي
و إن المرء ليندهش عندما يطلع على مختلف مجالات اهتمام جلالة الملك الحسن الثاني العلمية و الفكرية و الأدبية، مما يمكن استشفافه من خلال قراءات متأنية متأملة في كتابي : " التحدي " و " ذاكرة ملك "- أولا - ثم في مختلف دروسه و خطبه و رسائله و مقابلاته الصحفية و غير ذلك - ثانيا - مما يشهد لتنوع معارفه واتساع آفاقه وقوة ذاكرته، و رهافة حسه وخفة ظله ، و لا غرابة فقد اغترف رحمه الله من معين الثقافة العربية الإسلامية أوفى نصيب، و نال من الثقافة الغربية عيونها وروائع فكرها و آدابها ...
و من ثم تراه يجوب في أحاديثه عوالم من المعارف و الآداب و الفنون، تتوارد فيها أسماء عدد من الأعلام من رجالات العلم و السياسة، و الفقه و القانون ، و الآداب و الفلسفة والتاريخ، والاجتماع وغير ذلك، مستحضرا العدد الهائل من النصوص، مستشهدا في كثير من الأحيان بآيات من الذكر الحكيم، أو بأحاديث من الحديث النبوي الشريف ، وأحيانا بالشعر أو الأمثال ، منسجما في كل ذلك ، مع المحور الذي يدور حوله الحديث، مالكا لزمام كلامه، ببراعة فائقة ،و بلاغة رائقة.
و على الرغم من أن تكوين جلالته قانوني بالدرجة الأولى، فإن ذلك لم يحل دون تعميقه لثقافته في شتى مجالات العلم و المعرفة، و إلمامه الكبير بالتاريخ كما سيأتي، واطلاعه الواسع على مختلف العقائد، والطوائف الدينية، وقراءاته المباشرة لنصوص الثوراة والأناجيل مع إتقان ثلاث لغات على الأقل .
و إلى جانب هذا التنوع في الثقافة نجد جلالته، يلج عالم الطب الذي درسه خلال سنتين و نصف من المنفى بمدغشقر دراسة منتظمة، و لم يقف عند هذا الحد من الدراسة ،بل تجاوزه، فابتكر جهار " ماركر" لمراقبة أمراض القلب، هذا الاختراع الذي سجل بإدارة براءات الاختراع و العلامات التجارية بالولايات المتحدة الأمريكية ، وبذلك اعتبرته صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر يوم 25 فبراير 1989 أول ملك يقوم باختراع. كما منح جلالته بتاريخ 07 نونبر 1996 درجة مستشار كبير ببروكسيل، و ذلك عند افتتاح المعرض الدولي للابتكار و البحث و التجديد العلمي ببروكسيل اوريكا 96
عن الطب يقول أكرم الله مثواه مخاطبا الأطباء :" ربما أنا من أقرب الحقوقيين إليكم أنتم الأطباء، ذلك أنه كان دائما في قرارة نفسي ميل الى الطب ..."
الحديث الثاني– الحس التاريخي
لا يمكن لدارس شخصية الملك الحسن الثاني العلمية، أن يدرسها بمعزل عما يمكن تسميته بالحس التاريخي، وهو عبارة عن قدرة فائقة، على استحضار أحداث التاريخ، و رصد محطاته الكبرى، مع القدرة في الوقت ذاته، على صنعه.
و الاشتغال بالتاريخ باحثا أو مُدَرِّسا، هو العمل أو المهنة الذي كان جلالته يفضل ممارستها لو لم يكن ملكا، بل كانت تحذوه رغبة أكيدة، في دراسة التاريخ بعد حصوله على شهادة الباكلوريا، لكن والده المنعم جلالة محمد الخامس أوقفه قائلا: "لا، لا داعي لذلك، عليك أن تدرس الحقوق، فأنت ستجد دائما مهندسا ليبني القناطر، و مؤرخا ليكتب التاريخ، ولكن القانون وحده سيمكنك أن تدافع عن نفسك، و عن حقوق شعبك"
ويرى جلالة الحسن الثاني أن التاريخ يُصْنَعُ أحيانا بـ " لو " ويضرب لذلك مثلا بطلب جده المولى إسماعيل يد الأميرة "دو كونتي " كريمة لويس الرابع ملك فرنسا، و يقول بأنه لو تمت تلك الزيجة، لكان المغرب خلال الثورة الفرنسية، في جنوب و شمال فرنسا يحارب من أجل النظام الملكي هناك .
ولا يقف اهتمام جلالته بالتاريخ، عند الحدود الجغرافية الضيقة، و لا عند سرد الأخبار، وإنما يتجاوز ذلك، الى الانفتاح على العالم، واستخلاص العبر من تجارب السابقين، والتخطيط في الوقت نفسه للمستقبل ...
و من أجمل صور ذلك و أخلدها " المسيرة الخضراء" التي تفتقت عنها عبقرية الحسن الثاني، فكانت أرقى أساليب تحرير الأوطان، واسترجاع أجزائها المغتصبة، بطريقة سلمية حضارية، بل لم يكن لها نظير في التاريخ كله ، اللهم إلا أن تكون الحديبية التي كانت فتحا مبينا، و نصرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللإسلام و المسلمين ، و كلا المسيرتين من ثمار حضارة الإسلام و أخلاقه، و لا عجب أن يستلهم حفيد رسول الله من جده الأعظم صلى الله عليه وسلم، مثل المسيرة الخضراء، فقد كان يدعو على الدوام إلى إحياء السنة و السيرة النبوية تمثلا و تطبيقا، و دراسة واستيعابا ، و اقتداء واقتفاء.
و لم تكن تمر بعض ذكريات الإسلام الخالدة، دون أن تستوقف جلالته، لإحيائها وتخليدها عمليا، و من أبرز هذه الذكريات ، احتفالات العالم الإسلامي سنة 1387 هـ بمرور أربعة عشر قرنا على نزول القرآن،حيث وجه جلالته بهذه المناسبة الدعوة إلى أكثر من خمسمائة شخصية إسلامية، علمية وأدبية ، للمساهمة في هذا الاحتفال التاريخي ...
ولم يفته رحمه الله باعتباره أميرا للمومنين ، أن يوجه بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجري رسالة الى الأمة الإسلامية، جريا على سنن أسلافه الكرام ،ملوك الدولة العلوية الشريفة، بلور فيها أفكاره السديدة، المنطلقة من الكتاب و السنة، فشفى و كفى، و أزال الغشاوة عن العيون، ووضع المنهج السليم، و الصراط المستقيم، الذي من سار عليه وصل...
إنها رسالة تاريخية عظيمة بحق، و وثيقة عمل للتغيير الإسلامي المنشود ، سواء في الفكر والتصور، و الرأي و التنظير، أو في الواقع و الحركة، و الفعل الحضاري للأمة الإسلامية من جهة، وللإنسانية جمعاء، من جهة ثانية.
و إذا كان المجال – هنا – لا يتسع لاستعراض بعض النماذج من هذه الرسالة القيمة المهمة، فتكفي الإشارة - باختصار - إلى أنها فهم عميق لفلسفة الإسلام ومبادئه، و ربط محكم للحاضر بالماضي، و استشراف لغد أفضل، وأكثر تألقا و إشراقا، ولا غرو فإن الحضارة هي عمل الإنسان، باعتباره صانع الحضارة، و أعظم أركانها.
الحديث الثالث– الأناقة الفكرية و جمال الذوق:
من أبرز معالم شخصية الحسن الثاني طيب الله ثراه ، الأناقة الفكرية ، وجمال الذوق عن هذا يقول جلالته :" إن الإنسان خلق أنيقا و أنه لا ينفك متعهدا لأناقته "..." فإذا لم نكن أنيقين بأنفسنا، فإن صورتنا لن تتغير، إن الأناقة في العقل قبل كل شيء ، فإذا لم يكن المرء أنيقا فكريا أو خلقيا "..." فلن يكون أبدا أنيقا".
و هذا هو الجمال الذي قال عنه المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال " أخرجه مسلم و الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والطبراني في الكبير عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه و الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما و سبب وروده كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل :إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنا قال :"إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
عن صفة الجمال لله عز وجل قال ابن قيم الجوزية{ت 751هـ} رحمه الله :
وَهُوَ الجَمِيلُ عَلَى الحَقِيقَةِ كَيْفَ لا . . . وجمَالُ سَائِرِ هذهِ الأكْوَانِ
مِنْ بَعْض آثَارِ الجَمِيلِ فَرَبُّهَـــــــــا . . . أَوْلْى وَأجْدرُ عِنْدَ ذِي العِرْفَانِ
فَجَمَالُهُ بِالذَّاتِ والأوصَــــــــــــافِ . . . وَ الأفعَالِ وَالأسماء بالبُرهَانِ
لا شَيءَ يُشْبِهُ ذَاتَهُ وصِفَـــــــاتِهِ . . . سُبْحَانَهُ عَنْ إفْكِ ذِي بُهْتَانِ
و جلالة الحسن الثاني مؤمن بأن الجمال الأسمى للإنسان جمال النفس ، جمال المخبر كما قال الإمام علي رضي الله عنه فيما ينسب إليه من شعر:
ليس الجمال بأثواب تزيننا . . . إن الجمال جمال العلم و الأدب
ويحدد جلالة المغفور له الحسن الثاني مقاييس الجمال في سياق حديثه عن المعايير التي يعتمد عليها للحكم على عمل فني ما :
" عندي أن على الإنتاج الفني أن يخضع لمعيار التوازن، ففي التمثال توازن الحركة، و في اللوحة توازن بين الامتلاء و الفراغ في الألوان و في الخلفيات وفي الموضوع الأساسي، فكل عمل فني إنما هو قضية التوازن "
و هذا هو الجمال في كل شيء، إنه توازن و تناسق و انسجام.
وقد أكرم الله تعالى عبده الحسن الثاني بالجمال الباطن و الظاهر، فكان أنيقا في فكره ووجدانه، أنيقا في معاملته و سلوكه، أنيقا في آماله وطموحه، يُغَلِّبُ على الدوام جانب التفاؤل ويقول :" أنا لست متشائما، أنا رجل واقعي و متفائل بالطبع "، "إن المتشائم لن يكون أنيقا أبدا "
في هذا المعنى يقول الشاعر :
و الذي نفسه بغير جمال . . . لا يرى في الوجود شيئا جميلا
أيها الشاكي و ما بك داء . . . كن جميلا ترى الوجود جميلا
و إذا كان جمال ذوق جلالته يظهر في لباسه و سمته، وفي المعمار والزخرفة، كما يتجلى – على سبيل المثال – في ضريح محمد الخامس، و في مسجد الحسن الثاني، و كما ينعكس على بعض هواياته الخاصة كـ "الذواقة" التي يعني بها ابتكار ألوان جديدة من الطعام اللذيذ ،ولجلالته، في الباب كلام طويل، فإن هذا الجمال يطبع أعمال المغفور له بشكل تمثله كتاباته وأحاديثه المختلفة، على مستوى الشكل و المضمون ...
و من ذوق الحسن الثاني الجمالي الرفيع، نظرته إلى الحلال و الحرام في الإسلام حين يقول :"إن المحرمات في الإسلام ليست كثيرة جدا" و هذا أسلوب الداعية الحكيم، أسلوب المتفائل ، المتشبع بالإيمان، الذي ينظر إلى مكامن الجمال في الدين، في مقابل من تشعر أحاديثهم بالتشاؤم، و كأن هذ الدين طبع بعلامات المنع في كل اتجاه، مع أن الحقيقة غير ذلك كما تحدث عن ذلك القرآن الكريم ...
قال تعالى: { يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۙ} الآيتان
وقال : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ} الآية
و قال :{وَابْتَغِ فِيمَا آتَكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ} الآية
الحلديث الرابع – الحوار :
الحوار حاجة إنسانية ملحة، تغني التجربة و تنمي المعرفة، و تمد الجسور، وترفع الحجاب عن المستور، و توصل الى الحق المفضي الى الإقناع و الإذعان، و إلى المودة والوفاق، بعد الحيرة والشقاق، و الفرقة والاختلاف ...
قال الله تعالى:{ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
و قد فسح القرآن المجال للرأي الآخر ، فحفظ لنا أقوال المشركين و الكفار والمنافقين على ما فيها من افتراءات على الله تعالى، أو على رسوله الكريم، الشيء الذي يعلمنا كيف نتعامل مع الرأي الآخر، قبل أن نرد عليه بالكلمة الطيبة اللينة، ضمانا لاستمرار الحوار، وطمعا في جني أشهى الثمار، إحقاقا للحق، و تأليفا بين القلوب
قال عز وجل :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ} الآية
وجلالة المغفور له الحسن الثاني كان مؤمنا بالحوار، بل كان أحد رجالاته في العصر الحاضر الداعين إليه...
يقول طيب الله ثراه عند زيارة البابا يوحنا بولس السادس للمغرب :" إنه إذا اجتمع حسن النية، واجتمع حسن الإرادة، فإنه لا شيء يمكن أن يفرق بين الأجناس، و بين الديانات السماوية"
و يقول في رسالته الى المؤتمر الإسلامي المسيحي الثاني، الذي انعقد بفيينا من 13 الى 16 ماي 1997:
" إن إرادة الحوار تعني في أخص ما تعنيه، أن كل طرف من طرفي الحوار أو أطرافه، يصدر عن اعتراف بالغير، و عن احترام لغيريته و اختلافه، لذلك كان لابد للحوار من أسس فلسفية يقوم عليها، و من قواعد أخلاقية يستند إليها، ومن موجهات روحية، يستنير بهديها، و كان لابد له أيضا من أوفاق يقرها، ومن مواثيق وعهود يلتزم بها، فلا يتنكر لها أو يسعى في الإخلال بها"
و قد كانت الزيارتان المتبادلتان بين أمير المومنين جلالة الملك الحسن الثاني، و قداسة البابا يوحنا بولس السادس، من أروع صور الحوار البناء الهادف، الى تصحيح المفاهيم الخاطئة، التي علقت بأذهان كثير من المسيحيين، إزاء الإسلام و المسلمين زمنا طويلا، ومن أعظم المبادرات الصادقة المباركة ، التي عملت على تقريب الهوة بين مختلف العقائد والديانات ، و في الوقت ذاته بين سائر الشعوب و الأمم، لنشر المحبة والتفاهم، والسلام بين كل الأمم ...
الحديث الخامس :الأصالة والمعاصرة
من أبرز معالم الشخصية العلمية لجلالة الملك الحسن الثاني توفيقه بين الأصالة والمعاصرة في خط متواز وانسجام تام لاتناقض فيه ولا نشاز.
ولا شك أن التوفيق بين الأصالة والمعاصرة معادلة صعبة معقدة، لا يستطيع حلها إلا عظماء الرجال، ولا يمكن للحياة أن تسير إلى الأمام في حركة إيجابية فعالة، م الم يتحرر الإنسان من انغلاقه على ذاته، وما لم يتخلص من عقدة الخوف من الآخر، وذلك بالانفتاح على العصر، لكن من منطلق مجموعة من المبادئ والقيم الثابتة التي إن هو فرط فيها فقد شخصيته واعتباره، ولم تعد له قيمة في هذه الحياة.
وجلالة الملك الحسن الثاني من ذلكم الطراز النادر من القادة العظام، الذين جباهم الله القدرة الفائقة على التجاوب مع الحياة في كل إيجاباتها من منطلق مجموعة من المبادئ والقيم التي يؤمنون بها ويخلصون لها. وهو كما يقول عن نفسه في ذاكرة ملك، أنا رجل مبادئ ولست رجل مواقف، يمكن أن أغير موقفي إذا دعت الضرورة إلى التغيير، على ألا يكون ذلك البتة على حساب المبادئ
إن الحضارة الإسلامية يعتز جلالته بالانتماء إليها حضارة عالمية تفتح ذراعيها للجميع، وتطلب الحق والفضيلة أينما وجدا، وأيا كان مصدرهما.
يقول جلالته في كتاب التحدي: إن علينا أن نربط الماضي بالحاضر لنعد المستقبل، لأنه وأريد أن ألاحظ هنا بقوة-لا يوجد أي تناقض أو تعارض- بل على العكس-بين الرسالة الرئيسية للإسلام من جهة، وبين التيارات العلمية والإبداعات الفنية المعاصرة والروح الإنسانية من جهة أخرى