الإمام أبو حنيفة و أصول مذهبه
الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي
رئيس المجلس العلمي لمراكش
يقوم المذهب الحنفي على الرأي و القياس ، و صاحبه الذي ينسب إليه هو الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود بالكوفة سنة (80هـ) المتوفى ببغداد سنة (150هـ) وأصل أجداده من كابول في أفغانستان، فهو أفغاني الأصل على أرجح الأقوال.
قضى معظم حياته في مسقط رأسه ـ الكوفة ـ و كان منصرفا في بداية أمره إلى التجارة مع والده ، ثم لم يلبث بتوجيه من عامر الشعبي أن أقبل على مجالس العلم و حلقات الدرس ، وكان من كثرة حرصه على أن لا يفوته شيء مما يروج فيها يطوف عليها و معه أوراقه وقلمه و حنيفة الحبر، فاشتهر بها و كني بأبي حنيفة و كانت الكوفة يومها نواة مدرسة الرأي ، بحكم بعدها عن المدينة النبوية المطهرة موطن الحديث حيث لم يبلغها من ذلك إلا ما حمله إليها بعض الصحابة كعلي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما و قد أدرك أبو حنيفة بسنه منهم أنس بن مالك و عبد الله بن أوفى و أبا الطفيل عامر بن واثلة و سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم . روى الحديث ودرس اللغة و الأدب، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم في بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف إلى الفقه ولازم حماد بن أبي سلمة ـ الذي من حبه له سمى ابنه باسمه ـ كما أخذ عن غيره من كبار علماء عصره ... و هاجر من الكوفة إلى مكة المكرمة وأقام فيها عدة سنوات، وأكمل دراسته الفقهية على عطاء بن أبي رباح، ومجاهد وهما من أبرز تلامذة الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, و من أبرز تلامذة أبي حنيفة الذين خدموا المذهب تقعيدا و تأصيلا: زفر بن الهذيل (ت158هـ ) و أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري(ت 183هـ) ومحمد ابن الحسن الشيباني(ت 189هـ) و قد شهد له العلماء بعلو الكعب في الفقه و بقوة الدليل في الحجاج, أخرج القاضي عياض في ترتيب المدارك عن الليث بن سعد قال : لقيت مالكا في المدينة ، فقلت له:إني أراك تمسح العرق عن جبينك . قال : عرقت مع أبي حنيفة ، إنه لفقيه يا مصري . قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة ، و قلت له : ما أحسن قول هذا الرجل فيك ـ أي مالك ـ فقال أبو حنيفة : ما رأيت أسرع منه بجواب صادق و نقد تام .
و قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة ؟ قال : نعم ، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته ,وكان الإمام الشافعي يقول : من أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك ، و من أراد الجدل فعليه بأبي حنيفة و من أراد التفسير فعليه بمقاتل بن سليمان .
و كان يقول أيضا : من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة .
وقد دخل المذهب الحنفي إلى بلاد الغرب الإسلامي عقب استيلاء العباسيين على الحكم بالمشرق عام 132هـ ، و أضحى المذهب الغالب على إفريقية و ما وراءها من المغرب و يذكر القاضي عياض أن المذهب الحنفي ظهر بإفريقية ظهورا كبيرا إلى قريب من أربعمائة سنة ثم انقطع منها و دخل منه شيء إلى المغرب و الأندلس ، لكنه لم يجد فيهما أتباعا ، ومن ثم بقي المذهب المالكي هو السائد في كل أرجاء المغرب ، حتى إن أقاليمنا الصحراوية المحررة لم تعرف المذهب الحنفي أو الإباضي المنتشرين في بعض البلدان المجاورة ... و يعود الفضل في انتشار هذا المذهب بالغرب الإسلامي إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة الذي كان لا يسند منصب القضاء إلا إلى أصحابه و قد تتلمذ لأبي حنيفة عدد من المغاربة ، من أبرزهم أبو محمد عبد الله فروخ الفارسي (ت176هـ) ولد بالأندلس و كان اسمه بها عبدوسا ثم انتقل إلى إفريقية بسكن القيروان و أوطنها ، و كان اعتماده في الحديث و الفقه على مالك ، و بصحبته اشتهر و به تفقه مع ميله إلى النظر و الاستدلال فيما يتبين له من الصواب في مذهب أهل العراق, كان يوما عند أبي حنيفة في بيته فسقطت آجرة من أعلى الدار على ابن فروخ فأدمته ، فقال أبو حنيفة :اختر إن شئت إرش الجرح ، و إن شئت ثلاثمائة حديث ، فاختار الحديث فحدثه ثلاثمائة حديث ... كما تتلمذ أسد بن الفرات (ت214هـ) لبعض أصحاب أبي حنيفة ،كأبي يوسف ، و محمد بن الحسن ، و أسد بن عمر وغيرهم ، بعد أن لقي مالكا و لازمه وسمع منه الموطأ ,و دخل الأندلس من الحنفية أبو بكر عبد الله بن الحسن بن شجاع المروزي ( ولد سنة 348هـ) له كتاب مختصر من علم الحنفية في سبعة أجواء بسمه "المغني" و كان واسع الرواية .
أصول مذهبه: نشأ مذهب أبي حنيفة في الكوفة مهد مدرسة الرأي، وتكونت أصول المذهب على يديه، ولخصها هو في قوله: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وادع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن و ابن سيرين و سعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا", وهذا لا يعني إهماله للأحاديث و الأثار بل كان لا يأخذ بالرأي إلا عند فقدان النص ، و معلوم أن النصوص متناهية ، بينما الوقائع غير متناهية ,ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاماً، وهو ما يسمى بالفقه التقديري وفرص المسائل، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من استحدثه، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس، روي أنه وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع, قضى الإمام أبو حنيفة عمرهُ في التعليم والتدريس و الإفتاء ، و كان جريئا في ذلك لا يهاب الفتوى ، و لا يشترط حدوث الواقعة المستفتى فيها ، مما ضخم أبواب الفقه و نوع مسائله ، و جعله منفتحا على الحياة في مختلف النوازل و المستجدات و رفض تولي القضاء مع أنه لم يكن يشترط في القاضي كونه من أهل الاجتهاد بل كان يقول بجواز حكم العامي . فلم يستجب ورعا لأمير العراقيين عمر بن هبيرة عندما أراده لذلك ثم أبى بعد ذلك لما أراده المنصور العباسي للقضاء ببغداد الذي حلف عليه ليفعلن ، فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل ، فسجنه فبقي في الأسر إلى أن مات رحمه الله .