بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

كلمة في الجلسة الافتتاحية لندوة الإشعاع العلمي و التربوي لأهل العلم و الصلاح بجهة مراكش آسفي - عطاءات و امتدادات

تاريخ نشر المقال 24-08-21 05:48:27

    يبدو أن هذا العصر الذي شاء الله تعالى لنا أن نحيا فيه ، عصر بات يقيس الأمور بمقاييس النفع والمردودية، مما أصبح يستدعي قبل الإقدام على أي عمل يراد له النجاح ، أن يبرر بذكر جدواه، في علاقة بالواقع المعيش، وبالآفاق القريبة والبعيدة ...
والإنسان محكوم بالزمان في أبعاده الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل، يرتقي في حياته إلى الأمام، أو يتقهقر إلى الوراء، بقدر نجاحه في التخطيط الدقيق، والتصرف الحكيم الصائب في الحياة ، أو إخفاقه وفشله في ذلك ...
ولا شك أن من أهم عناصر النجاح، مراعاة ما يلائم كل لحظة من اللحظات، ويستجيب لمختلف الحاجيات والمتطلبات ... وقديما قيل: الْبَس لكلِّ حالة لَبُوسَها؛ إما نعيمَها، وإمًا بؤْسَها
على أنه كثيرا ما يعترض على هذا الكلام معترض فيقول : هذا شيء صحيح، فيما يتعلق بالحاضر والمستقبل، لكن ما قيمة الحديث عن الماضي والاهتمام به ؟ و إلى متى ستبقى أمتنا تدور حول فعلي : كان و قال ؟
إنه تساؤل كثيرا ما يتردد على ألسنة بعض الناس ، و قد لا يعدم من يتجاوب معه ، بل قد يجد صدى بعيدا ، لدى فئات عريضة من الناس، بحكم موقع أمتنا الحالي بين أمم العالم، و ما تعرفه من تمزق وتشرذم من جهة ، ومن تكالب وتآمر عليها من جهة ثانية ...
لكن هذا الموقع و هذا الواقع على مرارته ، لا يقوم - عند التأمل- دليلا على عدم أهمية الماضي، و مدى علاقته بالحاضر و المستقبل...
إن الزمان بالنسبة للإنسان رأسمال، بل إن الإنسان كما عبر الإمام الحسن البصري رحمه الله، ما هو إلا بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه. فمن استثمره بحكمة وروية، نفع وانتفع، و من فرط في ذلك خسر وضيع، وما يصدق على الإنسان الواحد ، يصدق على الأمة بكاملها ...
وقد ناقش أهل العلم و الفكر دور الزمان في حياة الإنسان من مختلف الوجوه ومن مختلف الأنظار، بتفصيل، تضيق عنه مثل هذه الكلمة، خصوصا و أن حديثنا – هنا - عن الماضي، ليس على الإطلاق ، و إنما هو حديث عن قيم و معارف ميزت هذه الجهة، وعن تاريخها وتراثها ورجالها ... مع ما تتسم به من تنوع، و تتحلى به من انسجام وانفتاح تامين ، بعيدا عن أي تعصب أو انغلاق على الذات…
أما فعل كان الذي يضيق به بعض الناس، فهو دليل على عراقة الحضارة المعنية وعظمتها ، كما هو شأن أمتنا الإسلامية ، وفي القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة آيات بينات و أحاديث نيرات في فضل التاريخ، كقوله تعالى :{ تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ } الآية و قوله :{ وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ} الآية وقوله:{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ }الآية
و تحدث نبينا الكريم عن فضل السابقين من هذه الأمة فقال : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قال النووي رحمه الله :الصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّحَابَةُ ، وَالثَّانِي : التَّابِعُونَ ، وَالثَّالِثُ : تَابِعُوهُمْ شرح النووي على مسلم
وقال عليه الصلاة و السلام عن فضل اللاحقين : لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ رواه الشيخان و اللفظ للبخاري و لفظ مسلم لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ وقال صلى الله عليه وسلم في أهل المغرب : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة رواه مسلم
و إذا اتفقنا على أن فعل كان يتعلق أساسا بالتاريخ والرجال، فإن فعل قال عند المسلمين، يتصل بالكتاب و السنة وبالتراث، ونحن أمة لها كتاب سماوي ، هو القرآن الكريم، ولها نبي هو رسول الله إلى الناس أجمعين ، و لنا تراث ضخم، استفاد منه العالم في حضارته ومعارفه وعلومه و قوانينه بما سجله أهل العلم ووثقوه ...
عن شعبة قال : كل علم ليس فيه ;حدثنا أو أخبرنا فهو خل وبقل
وقال الإمام الشافعي :
كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ * * * إلا الحديثَ وعلمَ الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنـــــا * * * وما سوى ذاك وسواس الشياطين
و إلى جانب كوننا نؤمن بالنقل قال نؤمن كذلك بالعقل و الرأي السديد : أقول الموافق للنقل الصحيح، و هو المنهج الصائب، الذي وفق الله إليه أبا الحسن الأشعري رحمه الله ،فجمع كلمة أهل السنة و الجماعة، بعد صراع مرير بين النصيين الجامدين، والعقلانيين المغالين، كما هو معروف عند أهل العلم و العرفان .
حضرات السادة و السيدات:
إن أهمية التاريخ المحلي، تكمن في ما يقدمه ، من خدمة لتاريخ الأمة وإغناء له، مما يستأنس له بمثل قول العلامة محمد المختار السوسي : وبعد فليُسْمِع صوتُ هذا السوسيِّ كلَّ جوانب المغرب من أعظم حاضرة إلى أصغر بادية ، فلعل من يُصيخون يندفعون إلى الميدان، فترى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها، و يُعَرِّفُ برجالها ، و يستقصي عاداتها، فيكون ذلك أدعى إلى وضع الأسس العامة ، أمام من سيبحثون في المغرب العام غدا على منضدة التاريخ المغربي العام.
و هل يشك أحد من العلماء المنصفين، في قيمة أهمية ما أنجز علماؤنا من مؤلفات في تاريخ المغرب الحديث في هذا الباب من أمثال : محمد بوجندار{ت 1345هـ = 1926م} في الاغتباط بتراجم أعلام الناس و محمد بن علي الكتاني{ت 1364هـ = 1945م} في الإتحاف الوجيز ( تاريخ العدوتين) وعبد الرحمن بن زيدان{ت 1365هـ = 1946م} في ;إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس والعباس ابن إبراهيم المراكشي{ت1378هـ = 1959م} في الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام ومحمد المختار السوسي {ت1383هـ = 1963م} في كثير من مؤلفاته كسوس العالمة والمعسول وخلال جزولة و إيلغ والإلغيات، و محمد داود {ت1404 ه = 1984م } في تاريخ تطوان و غيرهم
إن تاريخنا المحلي يستحق منا كل عناية و رعاية واهتمام، وما تقيمه المجالس العلمية المحلية اليوم ببلدنا، من ندوات جهوية تهتم في كثير منها بتراث جهاتها و تاريخها ورجالها ، يسير في هذا الاتجاه، و يصب في هذا المصب، ولا شك أنها تقدم في مجملها ، إضافات قيمة و إضاءات مشرقة، لجوانب غميسة من تاريخنا العلمي والفكري، وتراثنا الروحي والمادي ، و لا تخلو هذه الأعمال في علاقتها بالتراث من الحرص على إبراز الإيجابيات والاحتفاء بها ، ونقد وتصحيح الأخطاء والسلبيات، و التحذير منها و كل كلام يؤخذ منه و يرد إلا كلام صاحب هذا القبر كما قال الإمام مالك و هو يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم
في هذا الإطار و بهذه النية وهذا التصور، تأتي اليوم هذه الندوة للمجالس العلمية المحلية بجهة مراكش آسفي في موضوع الإشعاع العلمي و التربوي لأهل العلم و الصلاح بجهة مراكش آسفي بمشاركة نخبة من العلماء الأجلاء، والأساتذة الأكفاء لإلقاء الأضواء على تراجم بعض أعلام الجهة، من العلماء والعالمات والصالحين و الصالحات ، ولتعميق البحث في قضايا علمية تتعلق بتاريخ وتراث بعض علماء الجهة .
وقد حاولت اللجنة العلمية للمجالس العلمية بالجهة - قدر الإمكان - أن يعكس برنامج الندوة، تمثيلية هذه المجالس ، من خلال الموضوعات المختارة أو المقترحة، مع الجمع بين الرجال و التراث ( أو بتعبير آخر بين كان و قال وما كان لهما من إشعاع ...
و هكذا نجد مدينة مراكش - على سبيل المثال - حاضرة من خلال أحد رجالاتها السبعة، و أحد علماء الأمة الأفذاذ القاضي أبي الفضل عياض {ت544هـ} الذي قال العلماء عنه : لولا عياض ما ذكر المغرب ، والمغرب على حد قول الإمام اليوسي كله حمى لعياض ، كما أن كتابه مشارق الأنوار على صحاح الآثار ، كتب الله له من الإشعاع ما جعل مثل أبي عمرو ابن الصلاح يقول في حقه :
مشارق أنوار تبدت بسبتة . . . ومن عجب كون المشارق بالغرب
و على غرار ذلك يحضر إقليم الصويرة من خلال أبي عبد الله محمد العبدري البلنسي الحاحي { المتوفى أوائل القرن الثامن الهجري} ومن خلال رحلته المعروفة برحلة العبدري أو الرحلة المغربية
و مثل ذلك إقليم السراغنة الذي أخذ حظا أكبر من المداخلات مراعاة لكونه البلد المستضيف، فكان حضوره من خلال القراءات القرآنية بالسراغنة أولا ثم من خلال الولي الصالح سيدي رحال البدالي {توفي سنة 950هـ } ، دفين زمران والعلامة محمد بن المعطي السرغيني الفطناسي المتوفى عام 1878م وكتابه حديقة الأزهار ... و العلامة محمد ابن نوح السملالي السرغيني {ت 1353هـ = 1934م} شيخ الجماعة بمدينة مراكش وأحد علماء الجامعة اليوسفية البارزين ...
و إقليم الحوز هو الآخر حاضر من خلال الولي الصالح مولاي إبراهيم الأمغاري{ت: 1072هـ} ومن خلال المؤرخ محمد بن احمد الغجدامي {1850- 1955م}
ولم يفت الندوة أن تكون المرأة حاضرة، من خلال موضوعات خاصة بها، ومن خلال مشاركتها الفعلية، في أشغال الندوة وفي تسيير جلساتها...
و من التقاليد التي تسعى المجالس العلمية بهذه الجهة إلى ترسيخها، ما دأبت عليه منذ البداية، من تكريم بعض الشخصيات العلمية، داخل نفوذ المجلس المستضيف للندوة، سواء كان المكرم من الراحلين رحمهم الله، أو من الأحياء أطال الله أعمارهم، وهو عمل حضاري يدخل في إطار ثقافة الشكر والاعتراف بالجميل، لمن أسدوا معروفا للناس بعلمهم وعملهم، وعلى الرغم من غنى إقليم السراغنة بالرجال، فإن العلامة محمد العربي بن البهلول بن عمر الرحالي رحمه الله له ميزة خاصة ، مناسبة لموضوع الندوة ، هي الاهتمام المبكر برجال الإقليم و في طليعتهم سيدي رحال البودالي، والتأليف في ذلك وفي غيره من العلوم والفنون مما قصر فيه أكثر معاصريه رحمهم الله .
كلل الله أعمال ندوتنا بالنجاح و السداد ، و جازى أحسن الجزاء كل من ساعد على تنظيمها و توفير أسباب إقامتها ...