لا شك أن الحديث عن العرش في المغرب، هو حديث عن ثلاثة عشر قرنا من التاريخ، الحافل بالبطولات والأمجاد، الناطق بعظمة الأجداد والأحفاد، فمن إدريس الأول إلى محمد السادس ظل العرش على الدوام، رمز السيادة والاستقرار، وعنوان الوحدة والبناء بشكل يعجز معه الإنسان مهما أوتي من فصاحة وبيان، وقدرة على استحضار التاريخ واستنطاقه، أن يحيط بكل ما للعرش من أياد بيضاء وتضحيات جلى، اللهم إلا أن يعبر عن تقديره وإكباره وولائه للعرش والجالس عليه، بكل حواسه وجوارحه.
ومن هنا جاء عيد العرش منذ أوائل الثلاثينيات، ليكون مناسبة للتعبير عن تعلق الشعب بالعرش، وعن ولائه الدائم وبيعته المتجددة المستمرة للجالس عليه.
وتلك كما قال جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه: معجزة مغربية، لا أقول: علوية أو إدريسية أو موحدية، فالحكمة الإلهية شاءت تلك طيلة 1200سنة
وهناك أحاديث صحيحة، من دلائل النبوة، تشير إلى مدى توفيق أهل المغرب في الاختيار والبقاء على الحق إلى قيام الساعة كقوله صلى الله عليه وسلم: لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة
وفي هذا المعنى يقول العلامة المحدث محمد المدني بن الحسني رحمه الله في قصيدة طويلة له في الإشادة بعدد من رجالات المغرب:
فليس تزال طائفة بغــرب
بفضل الله قائمة السنـــام
كما جاء الحديث بندا صريحا
عن المختار مولانا التهامي
فمسلم في الصحيح روى فأضحى
صحيحا عندنا دون اتهام
وفي موضوع إمارة المومنين ونظام الحكم القائم على البيعة والشورى، نجد إشارات ذات دلالة مهمة في شروح الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان
وكان أول تصديق لهذا الحديث، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، عندما بايع المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، وأورد هذا التصديق القاضي عبد الجبار في كتابه: تثبيت دلائل النبوة ; وذكر كيف فكر الأنصار بالإمارة، ثم عدلوا عن ذلك بعد تبين الحق.
قال الكرماني: فإن قلت: كيف خلا زماننا عن خلافتهم، قلت: لم يخل، إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل، وكذا في مصر
وقال النووي: حكم حديث ابن عمر مستمر إلى يوم القيامة، ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك، ومن تغلب على الملك بطريق الشوكة لا ينكر أن الخلافة في قريش، وإنما يدعي أن ذلك بطريق صلى الله عليه وسلم عنهم.
وبغض النظر عما دار حول مفهوم الغرب أو المغرب في حديث مسلم، وما دار حول شرط القرشية، من شروط الإمام من خلاف، وما يحتمله حديث ابن عمر، من أمر وخبر مفردين أو مجتمعين، فإن حفاظ بلادنا على هذا النظام، على امتداد ألف ومائتي سنة، يزيد المؤمن إيماناً أننا باقون على الحق إلى قيام الساعة.
وليس من المصادفات في شيء أن يختار بطل الزلاقة ومرسي دعائم الدولة المرابطية يوسف بن تاشفين لقب أمير المسلمين، ويترك لقب أمير المؤمنين للخليفة العباسي بالمشرق، بل إن ذلك كان لحكمة أرادها الله، وتصديقا لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
ويشاء الله أن يبسط العثمانيون نفوذهم على كل البلاد العربية، بما فيها أقطار الغرب الإسلامي، فلا ينجو من ذلك إلا المغرب الأقصى وحده، وفي ذلك من الأسرار والمعاني ما يدخل في إطار الغيب الذي أطلع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) الآية، ومن ثم، فلا يسع المؤمن إلا أن يسلم بذلك، ويعتقد وقوعه، وعلى المؤرخ المسلم أن يضع في الاعتبار، أثر ذلك في حركة التاريخ وأن يفصل بين العوامل الغيبية والعوامل المشهودة في تفسيره له.
وتعلق أهل المغرب برسول الله وبآل بيته، شيء يجري في دمائهم، لكن دون مغالاة أو انحراف عن تعاليم الدين الحنيف، وفي احترام تام لسائر الصحب الكرام.
وفي تراثنا الشعبي، من أمثال، وطقوس، إشارات واضحة في هذا الباب لمن تتبع وتدبّر.
وقد تلقى المغاربة بترحيب كبير، مؤسس الدولة الإدريسية، وبالتالي الدولة المغربية، إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب قائلين الحمد لله الذي أتانا به، وشرفنا بجواره، فهو سيدنا، ونحن عبيده، نموت بيه يديه.
وقامت الدولة العلوية –كما يقول الأستاذ عبد الوهاب بن منصور-: لا بزعامة قبلية، كما قام بنو مرين في المغرب، ولا بدعوة دينية، كما قام المرابطون والموحدون، وإنما قامت اعتماداً على ما كانت تتمتع به لدى الشعب المغربي، من احترام وقداسة، لأنها من سلالة رسول الله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم
وقد كان العلماء – على الدوام – في مقدمة المبايعين لملك المغرب الشرعي، ومعهم سائر فئات الشعب وشرائحه، ولعل خير مثال على متانة العلاقة بين العرش والشعب، في هذا البلد الأمين، نجاح الأمة في الامتحان، في وقت عصيب، إبان الحماية، عندما أراد المستعمر:
1- تمزيق شمل الأمة ووحدتها، وتفريق كلمتها، من خلال الظهير البربري.
2- التطاول على رمز سيادة الأمة ووحدتها جلالة الملك المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، بخلعه عن عرشه، ونفيه خارج وطنه، والمجيء بالصنيعة ابن عرفة لتحقيق مآربهم، وتنفيذ متطلباتهم.
ولم يكن الجواب عن ذلك، سوى تلكم الملاحم البطولية التي خاضها الشعب برمته، بصدق وتلقائية، مرددين : إلى عرشه ، وهي كلمة جامعة تختصر فصولاً مشرقة من تاريخ الكفاح الوطني ضد المستعمر.
وغير خاف أن التفاف الشعب حول العرش، كان واضحاً للعيان، وتم التعبير عنه بأسلوب حصاري متميز، منذ أوائل عهد جلالة المغفور له محمد الخامس، من خلال عيد العرش، الذي أصبح الشعب يحتفل به، في أجواء خاصة من البهجة والسرور.
وعن دور العلماء وأهل الفكر في هذه الاحتفالات في تلك الأيام الخالدة من تاريخ بلدنا المجيد، يحدثنا العلامة الشيخ الرحالي الفاروق رحمه الله فيقول:
وقد كان للعلماء والمثقفين، والطبقة الواعية من الشعب، دور لا ينكر في هذا المجال، إذ كانوا في طليعة الرواد والدعاة، وعلى رأس الخطباء والنطقاء، يعبرون بأفصح لسان، وأصدق لهجة عما يختلج في صدور مواطنيهم من مشاعر وطنية، ودوافع قومية، وكان علماء جامع ابن يوسف، صنو جامع القرويين وقرينه منضويين تحت ذلكم اللواء الخفاق، وسائرين في ظله الوريف، ومباركين للخطوات الثابتة، والمبادئ الرائدة للجالس على العرش التليد، وقد كانوا بدورهم يقيمون بهذه المناسبة حفلاً بهيجاً برحاب جامع ابن يوسف يحضره العلماء والأساتذة والطلاب، يتبارون فيه، بما تجود به قرائحهم من الشعر والنثر في تمجيد العرش السعيد وتخليده
ومن الأناشيد الوطنية الخالدة، هذا النشيد للعالم والزعيم علال الفاسي رحمه الله، في حق جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، وفي حق العرش العلوي المنيف:
يا مليك المغرب
يا ابن عدنان الأبي
نحن جند للفدا
نحمي هذا الملك
عرش مجد خالد
ماجد عن ماجد
قد بناه الأولون
في شموخ الفلك
نحن لا نبغي به
معدلا عن حزبه
إننا من حبه
كلنا في ظلــه
وعندما اعتلى جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، عرش أسلافه الميامين، كان موضوع استكمال وحدة المغرب الترابية، من أهم المشاغل الكبرى التي استأثرت باهتمامه، فعالجها بحكمة وروية، وخبرة فقهية وقانونية عالية.
لقد كان اعتراف محكمة العدل الدولية بلاهاي، بأن هناك روابط قانونية، وروابط بيعة، بين المملكة المغربية، وبين الصحراء، الحجة الدامغة التي ركز عليها جلالته مشروعية استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية، التي كانت تحتلها إسبانيا.
يقول جلالته في خطابه التاريخي من مدينة مراكش يوم الخميس 10 شوال 1395 هـ الموافق 16 أكتوبر 1975 :
وتعترف المحكمة أن هناك روابط قانونية وروابط بيعة، لأنني أفسر القانون الدولي الإسلامي، بأن هناك الروابط القانونية وهناك روابط البيعة، فيمكن مثلا، أن نكون محتلين أرضا ومستعمرين لها، وبيننا وبينها قانون ينظم المعاملات، ولكن لم تكن بيعتها في عنقنا، وقد وقع هذا في تاريخ المغرب.
أما هنا فقد قالت محكمة العدل: هناك روابط قانونية أولا وروابط بيعة بين المملكة المغربية وبين الصحراء
ويتوسع جلالته في هذه النقطة بحكم تكوينه القانوني، فيبين الفرق بين السيادة وبين روابط البيعة، حتى في القانون الأوربي نفسه، ثم ينتهي إلى القول:
وهنا يمكن أن أقول حتى للأوربيين أساتذة القانون، إنه باستعمالهم البيعة أدخلوا علي الفرح أكثر من استعمالهم السيادة، لأنهم باستعمالهم نص البيعة، استعملوا ما هو مناسب للتاريخ، الذي استعمرت فيه الصحراء
ويؤكد جلالته أن البيعة في المغرب كان لها طابع خاص، وهو أنها كانت دائما مكتوبة.
والبيعة المكتوبة لها أصل من عمل الصحابة رضي الله عنهم.
ففي الموطإ يروي مالك عن عبد الله بن دينار، أن عبد الله بن عمر، كتب إلى عبد الملك ابن مروان يبايعه، فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأقر لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت
وهذا يفضي بنا إلى بيعة أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده الذي تمت بيعته خلفاً لوالده أمير المومنين جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه، وذلك مساء يوم الجمعة 9 ربيع الثاني 1420هـ
الموافق لـ: 23 يوليوز 1999م ووقع على البيعة الأمراء والوزراء والعلماء والكبراء من أطر الدولة ورجال السياسة من مدنيين وعسكريين.
فبايعه الناس طرا دفعة
لم يك فيها أحد بالأسبق
وبذلك تجدد العهد، واستمرت مسيرات البناء والتشييد من أجل غد أفضل، وعيش أرغد، تحت القيادة الرشيدة لأمير المومنين جلالة الملك محمد السادس، بكل ما حباه الله من حميد الخصال وجميل الفعال، وما رزقه الله من محبة في القلوب، وما خصه به من يمن وقبول، فهو أمل الأمة كلها في العبور إلى الألفية الثالثة بخطى ثابتة، وإيمان راسخ بالمستقبل الزاهر، أيده الله بالحق، وأيد الحق به، ونصره بنصره المبين، وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، وأعانه على ما يصبو إليه من إصلاح وتجديد.
محمد عز الدين المعيار الإدريسي
دعوة الحق العدد353