بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

عناية ملوك المغرب بالحديث النبوي الشريف

تاريخ نشر المقال 29-11-21 07:37:35

    مقدمة : على الرغم من دخول ما لا يقل عن خمسة وعشرين صحابيا، وعددِ كبير من التابعين إلى المغرب مع عقبة بن نافع الفهري في جيشه ، فإنه لم يتيسر في السنوات التي تلت الفتح ظهورُ أي لون من النشاط الحديثي، لأسباب كثيرة، منها تعثر انتشار الإسلام في البداية ، وتأخر تعلم اللغة العربية، بالإضافة إلى بُعد المسافة بين المغرب، ومراكز الرواية والسنن في المشرق، والاقتصار في بادئ الأمر على تعليم القرآن فقط، مع ما سبق من الخوف من الوقوع في مثل ما حذر منه عقبة بن نافع أبناءه وهو يجود بأنفاسه الأخيرة فيما رواه الحفاظ كابن أبي خيثمة وابن عبد البر وغيرهما ،قال"يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثقة "...
ثم سرعان ما بدأ التواصل بين المغرب والمشرق، عبر رحلات الحج وطلب العلم من المغرب إلى المشرق، و عبرالبعثاتِ العلمية من المشرق إلى المغرب، في وقت أضحت الحاجة ماسة للحديث النبوي وعلومه، للتشريع وفهم القرآن أولا ، و لدفع ما بات يهدد البلاد والعباد، من فكر متطرف وافد، تغذيه أطماع وأهواء وبدع ضالة، وأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعاء أناس النبوة كصالح بن طريف البرغواطي وحاميم المفتري وغيرِهما ...
ومن كرم الله وفضله على المغرب وأهله، أن وفق الراحلين منه إلى المشرق لطلب العلم، إلى قصد المدينة المنورة والأخذ عن الإمام مالك بن أنس و التلمذة له...
وعلى يد المتخرجين بالإمام مالك ، و بمدرسة المدينة المنورة، بدأ دخول الحديث النبوي إلى المغرب، وكان الموطأُ أولَ كتاب حديثي يدخل إلى المغرب، ومنذ ذلكم العهد و أمراء المومنين بالمغرب يعتنون بالحديث و يرعونه ...
المحور الأول – مرحلة التأسيس
( يعقوب المنصور الموحدي نموذجا )
تمتد هذه المرحلة على مسافة نحو خمسة قرون من الزمان، تبدأ بقيام الدولة الإدريسية وتنتهي بسقوط الدولة الموحدية
لقد تأسست الدولة المغربية في حياة الإمام مالك ، على يد المولى إدريس بن عبد الله الكامل {ت177هـ} الذي آثر عند دخوله إلى المغرب، وبيعة المغاربة له، الاتجاه السني، واتباع مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس الذي كانت تربطه بأسرة إدريس علاقة وطيدة، ومن ثم فلا عجب أن يكون هذا الأخير، أولَ من دعا المغاربة إلى مذهب مالك، وقراءةِ الموطأ، بمثل قوله معرضا ببني العباس في بغداد : " نحن أحق باتباع مذهب مالك، وقراءة كتابه"
و جاء في دعوته التي أنفذها إلى أهل المغرب كما رواها ابن حمزة اليمني{ت614هـ} في كتاب الشافي " ...فإني أدعوكم إلى كتاب الله، وإلى سنة نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم وإلى " ..."إحياء السنة، وإماتة البدعة ..."
وهذا ما أكده من بعده المولى إدريس الثاني{ت236هـ} حين اختار عامرًا القيسي لقضاء فاس، وكان " سمع من مالك وسفيان الثوري، وروى عنهما ..." وكان إدريس الثاني نفسه راوية للحديث ، متشبثا بالكتاب والسنة داعيا إلى التمسك بهما .
وعندما ننتقل إلى الكلام على ملوك المرابطين والموحدين، فسنجد أنه يتعذر الفصل بين البيئة العلمية في العهدين ، على الرغم من اختلاف الاختيارات المذهبية للدولتين .
وليس صحيحا أنه في عهد المرابطين و بأمر منهم هُجِرت دراسة الحديث ، و نظر إليها الفقهاء نظرة الكراهية " بدليل أن أمير المسلمين علي بنَ يوسف بنِ تاشفين{ت537هـ} كان متعلقا بالحديث النبوي مهتما به ، استجاز مسند الأندلس أبا عبد الله ابن غلبون الخولاني القرطبي {ت508هـ} جميع رواياته لعلو إسناده فأجاز له ، و كان ذلك دأْبُه في البحث عن العلماء في السند العالي ليجيزوه ...
و برز من البيت اللمتوني محدثون كبار عنوا بالرواية وسماع العلم منهم الأمير ابراهيم بن يوسف بن تاشفين{ت}، سمع من الحافظ الشهيد أبي علي الصدفي{ت514هـ}
ومنهم ميمون بن ياسين اللمتوني{ت530هـ} سمع في رحلته إلى الحج من أبي أم مكتوم بن أبي ذر الهروي صحيح البخاري في أصل أبيه أبي ذر بخطه وابتاعه منه بمال جليل، وهو الذي أوصله إلى المغرب" وأخذ عن أبي عبد الله الطبري صحيح مسلم في نسخ نفيسة ومنهم الحافظ ابن خير اللمتوني الأموي الفاسي الإشبيلي {ت575هـ} و أقوى دليل على دحض اتهام فقهاء المرابطين بكراهية دراسة الحديث ما ألفه في الحديث وعلومه في هذا العصر فخر المغرب القاضي عياض من كتب رائدة خالدة كالإلماع ومشارق الأنوار وإكمال المعلم و بغية الرائد و الشفا...
و استمر هذا التعلق، و ذلك الاهتمام بالحديث النبوي في المغرب، و ارتقى على عهد الموحدين، الذين ناصر ملوكهم مدرسة الحديث، وكانوا علماء، لهم معرفة واسعة بالحديث وعلومه، حفظوه وألفوا فيه... واستدعوا المحدثين من الأندلس، و أمروهم بتدريس الحديث إلى جانب المحدثين المغاربة ...
أما اشتغالهم بالحديث فقد كان المهدي{ت524هـ} : ... راويا للحديث حافظا له اعتنى بالموطأ، برواية يحي بن بكير{ت231هـ} و ألف عليها " محاذي الموطأ" وألف "أحاديث الطهارة " و"أحاديث المهدي" و غيرَ ذلك من المؤلفات
كما كان عبد المومن بن علي {ت558هـ} : حافظا للحديث متقن الرواية استدعى إلى مراكش صبيانا صغار الأسنان، ليعلمهم ويحفظهم القرآن و الحديث ومن الحيث صحيح مسلم ...
أما يوسف بن عبد المومن {ت580هـ} فكانت له مشاركات في شتى المجالات حافظًا للقرآن، راويا للحديث "عالما بصحيحه ومختلفه وحسنه وغريبه وبإسناده" على حد تعبير ابن صاحب الصلاة، يحفظ أحد الصحيحين والراجح أنه صحيح البخاري يرويه بسنده المتصل إلى الشيخ الإمام... " ومن مظاهر عنايته الفائقة بالحديث النبوي وحفظه له " أنه لما تجهز لغزو الروم ، أمر العلماء أن يجمعوا أحاديث تملى على الجند، وكان هو يملي بنفسه ، وكبار الموحدين يكتبون في ألواحهم ...
و تبلغ العناية بالحديث و أهله أوجها ، على يد يعقوب المنصور {ت 595هـ} الذي سيتوج هذه المرحلة بأعمال رائدة ... وكان فقيها يتكلم في المذاهب، ويقول : قول فلان صواب ، ودليله من الكتاب والسنة كذا وكذا .
و تبرأ من أفكار المهدي المخالفة للكتاب والسُّنَّة، حتى قال لأبي العباس ابن مطرف وهما بحِجْر الكعبة : يا أبا العباس، اشهد علي بين يدي الله عز وجل :أني لا أقول بالعصمة
ومن الأدلة لنَفاق علم الحديث في هذا العهد، قصة امتحان الحافظ أبي عمر ابن عات{ت609هـ} في صحيح مسلم ببيت الطلبة بمراكش في أحاديث بأسانيد ذكروها له حولوا متونها، فأعاد الأمور إلى نصابها ...
و من أبرز ما ميز هذا العهد، انطلاق المجالس العلمية بالمغرب ، وكانت تسمى على عهد الموحدين بالمجامع ، يحضرها عدد من رجال الدولة وكبار علماء المغرب، والوافدين عليه من أقطار أخرى وفق ترتيب معلوم ...
تنعقد تحت الرئاسة الفعلية للخليفة الذي يفتتح المجلس بنفسه، بمسألة علمية معينة ، يلقيها مباشرة أو بالإشارة ، ثم يعود في النهاية ليتولى الختم بالدعاء و الوزير يؤمن جهرا لإسماع من بَعُدَ من الناس ...
واستدعي للمجالس الحديثية فطاحل العلماء من المغرب والأندلس، وكان من أبرز محدثي المغرب الكبار في تلك الحقبة، أبو الحسن ابن القطان {ت 628 هـ } الذي كان المنصور يوثره على غيره من طبقته، ومن أجل ذلك عينه لقراءة الحديث الذي يقرأ بين يديه .
المحور الثاني – مرحلة التذييل و التكميل
( أحمد المنصور الذهبي نموذجا )
تستمر هذه المرحلة على امتداد عهود الدول المرينية و الوطاسية و السعدية فبالنسبة لملوك المرينيين، كان اهتمامهم بالحديث كبيرا، خصوصا في صدر دولتهم، وقد عُرِفوا، بشدة المحبة في العلماء والصالحين، والتواضع لأهل العلم والدين " – وتعظيم الشرفاء آل البيت،
و في زمن السلطان أبي سالم المريني {ت762هـ} " قام سوق للحديث الكريم، وبث العلم في العامة ..." على حد تعبير ابن السكاك
و هذه العناية وذلك السلوك، ساعدا على ازدهار الاشتغال بالدراسات الحديثية بالمغرب، و برز في ذلك أعلام كبار من أهل هذا الشأن كأبي علي بن أبي الشرف السبتي {ت702ه} و ابن عبد الملك المراكشي {ت703هـ} و ابن رشيد السبتي {721هـ} وابن الشاط نزيل سبتة {ت 723هـ} وغيرهم
ويمكن القول بأنه في هذا العهد بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الصحيحين بالمغرب، فبعد أن شاع من قبل تفضيل مسلم على البخاري ... أصبحت الحظوة و التقديم للبخاري كما يدل على ذلك مثل كتاب " السَّنَن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين البخاري ومسلم في السند المعنعن" انتصر فيه ابن رشيد للإمام البخاري ..
وستعرف الحركة العلمية، على عهد بني وطاس تراجعا من بعض الوجوه، ، وإن كان من شيء يحسب لملوكهم ومعهم المحسنون، فهو متابعةُ تخصيص أوقاف لكراسي التدريس بفاس منها : كرسي الإمام ابن غازي{ت919هـ} لتدريس العمدة في الحديث وكان يُسْمِع صحيح البخاري في كل رمضان، ومنها "كرسي البخاري بشرح فتح الباري ، أنشأه السلطان أبو العباس الوطاسي في منتصف القرن التاسع ، وشغله عبد الواحد الونشريسي"
ثم لم تلبث أن عادت العناية بالحديث النبوي وعلومه إلى طبيعتها من جديد، مع ملوك الدولة السعدية ، ومن أهم ما ميز هذا العصر، العنايةُ بصحيح البخاري، وترسيمُ سردِه و قراءتِه وختمِه في كل رمضان ...
كان محمد الشيخ الملقب بأمغار {ت 964هـ} "حافظا لصحيح البخاري، ويستحضر ما للناس عليه، وينوه بشرح ابن حجر بمثل قوله : ما ألف في الإسلام مثله "
وبلغت هذه العناية قمتها على عهد أحمد المنصور الذهبي{ت1012هـ} وكان عالما أخذ الحديث رواية ودراية عن الشيخ المحدث أبي النَّعيم رِضوان بن عبد الله الجِنْوي..." أخذ عنه الصحيحين و الموطأ و غيرَهما من دواوين الحديث
وكان المنصور الذهبي" إذا دخل شهر رمضان سرد القاضي وأعيانُ الفقهاء كل يوم سِفرا من نسخة صحيح البخاري وهي عندهم مجزأة على خمسة وثلاثين سفرا ، في كل يوم سفر إلى يوم العيد ، فإذا كان يوم سابع العيد خُتِمَ فيه البخاري و تهيأ له السلطان أحسن تهيئة ...


المحور الثالث – مرحلة التطور و التجديد
( الحسن الثاني نموذجا )
فإذا ما وصلنا إلى العصر العلوي، ألفينا ملوك هذه الدولة الشريفة، يعتنون بالحديث النبوي الشريف ،عناية شاملة فائقة غير مسبوقة...
اعتنوا بصحيح البخاري، وجددوا في التعامل معه، كانت لدى المولى إسماعيل، منه نسخة ممتازة ، كُتِب عليها اسمُ العبيد، الذين اتخذ منهم جيشا وبطانة، و على هذه النسخة عقد معهم العهد والميثاق
و كان للمرأة المغربية العالمة، حضور قوي منذ ذلكم العهد، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، المشاركة الوازنة في هذا المجال، للأميرة العالمة خناتة بنت بكار{ت1159هـ} - أشهرِ زوجات المولى إسماعيل - التي حاجت علماء المشرق، وأسهمت في التأليف في علوم الحديث، بتعاليقها على الإصابة لابن حجر العسقلاني.
ووضع السلطان العالم المولى محمد بن عبد الله{ت1204هـ}لدراسة الحديث برنامجا مضبوطا و أوقاتا معلومة، وجمع حوله لذلك ثلة من علماء عصره، واستجلب من الشرق مساند الأئمة الثلاثة، و هو شيء جديد غيرُ مسبوق، واشتغل هو نفسه بدراسة الحديث والتأليف فيه، فألف الفتوحات الإلهية الكبرى والصغرى وكتابَ الجامعِ الصحيح الأسانيد المستخرجِ من ستة مساند كما كلف ثلاثة من العلماء بشرح مشارق الأنوار للقاضي عياض
وعلى هذا المنوال سار المولى سليمان { ت 1238هـ} و كان عالما كأبيه اعتنى بالحديث، وشجع العلماء على الاشتغال به، وكلف أربعة منهم بشرح الأربعين النووية.
كما اعتنى بكتب السنة وبصحيح البخاري خاصة، حتى إنه لما سمع بوجود أصل أبي علي الصدفي بطرابلس الغرب عند بعض المهتمين ، بواسطة الحافظ أبي عبد الله الناصري {ت1239هـ} اهتم لذلك، وكتب في شأنه مرات، وبعث إلى من هو لديه ألف مثقال يشتريه منه.
وألف في الحديث تآليف منها " حاشية على الموطأ"، وتقييد على حديث القراريط، ورسالة صغيرة بعنوان "جواز التجمير بالقُسط في رمضان" . والقُسط : عُودٌ يُجاءُ به من الهِنْد يُجعَلُ في البَخُور
واعتنى المولى محمد بن عبد الرحمن :" بسرد البخاري كل سنة " " يستدعي العلماء " لقراءته في الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان ورمضان طبق المقرر المعتاد في ذلك "، و كان يصطحب معه في سفره وحضره، نسخة ابن سعادة، لا تكاد تفارقه.في قصة تطول ذيولها..
وظل السلطان المولى الحسن حريصا في سفره و حضره على عقد المجالس الحديثية وحضورها بنفسه والاحتفال بختم صحيح البخاري ، يستدعي لذلك كله العلماء من كل حدب وصوب حيث تدرس الكتب الستة والموطأ في نحـو ستة وثلاثين مجلسا طوال عهد ملكه لا تنقطـع أبدا...
وأنشأ المولى عبد الحفيظ - وكان عالما - كرسي قراءة الحديث من صحيح البخاري وشفا القاضي عياض بالضريح الإدريسي، شروق كل يوم. و طبع كتبا كثيرة بالمطبعة السلكية التي اشتراها و بالمطبعة الحجرية بفاس كما طبع كتبا أخرى بمصر، من مؤلفاته الكثيرة منظومة في مصطلح الحديث .
وعرفت مجالس الحديث السلطانية ابتداء من عهد أمير المومنين محمد الخامس نهضة كبرى، و كان طيب الله ثراه، مقربا للعلماء، مشجعا لهم على العلم والعمل يرعاهم ويصلهم، ناصرا للقرآن الكريم لا يفتر عن تلاوته، وللسنة النبوية المطهرة، يستحضرها في أخلاقه وأقواله، طالما وقف خطيبا و إماما في صلاة جمع كثيرة، في مناسبات عديدة
و ترتقي العناية بالحديث و أهله على عهد أمير المومنين الحسن الثاني أكرم الله مثواه، إلى أعلى المستويات، وأقصى الغايات ، فإلى جانب المحافظة على تلكم التقاليد السَّنِية، التي كان عليها أسلافه الميامين، سن سننا حميدة وأنشأ أمورا فريدة ، ياتي في مقدمتها، تنظيم الدروس الحسنية، وتأسيس دار الحديث ...
سن الدروس الحديثية الرمضانية، و حشد لها كبار العلماء، من المغرب والمشرق وغيره من البلاد، يتعاقبون على إلقائها من أول رمضان إلى ليلة السابع و العشرين منه حيث تنتهي بختم صحيح البخاري، ويكون أمير المومنين، هو الذي يعطي إشارة الانطلاق، وهو الذي يتولى آخر كل درس الختمَ والدعاء.
و امتازت هذه الدروس بتتويجه طيب الله ثراه لها بدروس قيمة، شارك بها العلماء ، منها شرحه حديث "كم رجل لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ " وحديث : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"
أما بالنسبة لدار الحديث فقد لاحظ ، أن عددا من كبار العلماء بدأوا يرحلون تباعا إلى جوار ربهم، وأن الساحة بدأت تخلو بغيابهم من الأطر العلمية الكفئة ، فعمد إلى إنشاء دار الحديث ، لإيجاد الخلف ... وبشر بتأسيسها، ليلة القدر من عام 1384هـ، وعبر في مناسبات كثيرة عما ينشده من وراء ذلك وهو إعطاءَ مادة الحديث معناها الحقيقي ، وتخريجَ محدثين قادرين على أن يستنبطوا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومن آيات كتاب الله القواعد العصرية الفقهية التقنية العلمية التي من شأنها أن تجعل مجتمعنا مثلا للحضارة بل يتقدم تلك الحضارة لا مجتمعا راكدا
و إلى جانب هذه المنجزات الكبرى، ومن منطلق مسؤولية الإمامة العظمى، والاهتمام بحاضر الأمة ومستقبلها، وجه أمير المومنين الحسن الثاني بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجري، إلى الأمة الإسلامية رسالة سامية ذكر فيها أن سيدنا محمدا صلوات الله وسلامه عليه ترك من بعده كتابا محكم الآيات، من تمسك به لم يضل، وسنة وثيقة الأسانيد والروايات، من اقتفى أثرها لم يزِل..."
و في إيمان عميق، و تشبث مكين، بالكتاب المبين، وبأحاديث سيد المرسلين، ووفاء لما دأب عليه أسلافه الميامين، واصل أمير المومنين محمد السادس أعزه الله ، السير على نفس المنوال متعهدا و مجددا ، بخطى ثابتة واعية بدقة العصر ومتطلباته، دون قطع الصلة بالماضي التليد في إيجابياته وإشراقاته...
من أبرز مظاهر الاهتمام بالحديث و أهله، استمرار الدروسِ الحسنية مقترنة باسم مؤسسها المغفور له الحسن الثاني، و ختمِ صحيح البخاري ليلة السابع و العشرين من رمضان، ومثل ذلك من الرعاية و الاهتمام بالنسبة لمؤسسةَ دار الحديث الحسنية.
ومن مظاهر التجديد في هذا السياق، فسح المجال للمرأة العالمة للمشاركة في الدروس الحسنية، و في تحمل مسؤولية التوعية ونشر العلم إلى جانب شقيقها الرجل وإلقاء الدروس من على مختلف المنابر المعدة لذلك ... ومن المظاهر غيرِ المسبوقة إحداث جائزة محمد السادس لأهل الحديث، ثم هذه الدروس الحديثية التي نشرف بالمشاركة في إلقائها، والهادفة إلى التوعية بخصوص ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يُعلم منه ما هو صحيح وما هو سقيم أو مكذوب .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه و الحمد لله رب العالمين .







المحور الثاني – مرحلة التذييل و التكميل
( أحمد المنصور الذهبي نموذجا )
تستمر هذه المرحلة على امتداد عهود الدول المرينية و الوطاسية و السعدية فبالنسبة لملوك المرينيين، كان اهتمامهم بالحديث كبيرا، خصوصا في صدر دولتهم، وقد عُرِفوا، بشدة المحبة في العلماء والصالحين، والتواضع لأهل العلم والدين " – وتعظيم الشرفاء آل البيت،
و في زمن السلطان أبي سالم المريني {ت762هـ} " قام سوق للحديث الكريم، وبث العلم في العامة ..." على حد تعبير ابن السكاك
و هذه العناية وذلك السلوك، ساعدا على ازدهار الاشتغال بالدراسات الحديثية بالمغرب، و برز في ذلك أعلام كبار من أهل هذا الشأن كأبي علي بن أبي الشرف السبتي {ت702ه} و ابن عبد الملك المراكشي {ت703هـ} و ابن رشيد السبتي {721هـ} وابن الشاط نزيل سبتة {ت 723هـ} وغيرهم
ويمكن القول بأنه في هذا العهد بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الصحيحين بالمغرب، فبعد أن شاع من قبل تفضيل مسلم على البخاري ... أصبحت الحظوة و التقديم للبخاري كما يدل على ذلك مثل كتاب " السَّنَن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين البخاري ومسلم في السند المعنعن" انتصر فيه ابن رشيد للإمام البخاري ..
وستعرف الحركة العلمية، على عهد بني وطاس تراجعا من بعض الوجوه، ، وإن كان من شيء يحسب لملوكهم ومعهم المحسنون، فهو متابعةُ تخصيص أوقاف لكراسي التدريس بفاس منها : كرسي الإمام ابن غازي{ت919هـ} لتدريس العمدة في الحديث وكان يُسْمِع صحيح البخاري في كل رمضان، ومنها "كرسي البخاري بشرح فتح الباري ، أنشأه السلطان أبو العباس الوطاسي في منتصف القرن التاسع ، وشغله عبد الواحد الونشريسي"
ثم لم تلبث أن عادت العناية بالحديث النبوي وعلومه إلى طبيعتها من جديد، مع ملوك الدولة السعدية ، ومن أهم ما ميز هذا العصر، العنايةُ بصحيح البخاري، وترسيمُ سردِه و قراءتِه وختمِه في كل رمضان ...
كان محمد الشيخ الملقب بأمغار {ت 964هـ} "حافظا لصحيح البخاري، ويستحضر ما للناس عليه، وينوه بشرح ابن حجر بمثل قوله : ما ألف في الإسلام مثله "
وبلغت هذه العناية قمتها على عهد أحمد المنصور الذهبي{ت1012هـ} وكان عالما أخذ الحديث رواية ودراية عن الشيخ المحدث أبي النَّعيم رِضوان بن عبد الله الجِنْوي..." أخذ عنه الصحيحين و الموطأ و غيرَهما من دواوين الحديث
وكان المنصور الذهبي" إذا دخل شهر رمضان سرد القاضي وأعيانُ الفقهاء كل يوم سِفرا من نسخة صحيح البخاري وهي عندهم مجزأة على خمسة وثلاثين سفرا ، في كل يوم سفر إلى يوم العيد ، فإذا كان يوم سابع العيد خُتِمَ فيه البخاري و تهيأ له السلطان أحسن تهيئة ...

المحور الثالث – مرحلة التطور و التجديد
( الحسن الثاني نموذجا )
فإذا ما وصلنا إلى العصر العلوي، ألفينا ملوك هذه الدولة الشريفة، يعتنون بالحديث النبوي الشريف ،عناية شاملة فائقة غير مسبوقة...
اعتنوا بصحيح البخاري، وجددوا في التعامل معه، كانت لدى المولى إسماعيل، منه نسخة ممتازة ، كُتِب عليها اسمُ العبيد، الذين اتخذ منهم جيشا وبطانة، و على هذه النسخة عقد معهم العهد والميثاق
و كان للمرأة المغربية العالمة، حضور قوي منذ ذلكم العهد، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، المشاركة الوازنة في هذا المجال، للأميرة العالمة خناتة بنت بكار{ت1159هـ} - أشهرِ زوجات المولى إسماعيل - التي حاجت علماء المشرق، وأسهمت في التأليف في علوم الحديث، بتعاليقها على فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
ووضع السلطان العالم المولى محمد بن عبد الله{ت1204هـ}لدراسة الحديث برنامجا مضبوطا و أوقاتا معلومة، وجمع حوله لذلك ثلة من علماء عصره، واستجلب من الشرق مساند الأئمة الثلاثة، و هو شيء جديد غيرُ مسبوق، واشتغل هو نفسه بدراسة الحديث والتأليف فيه، فألف الفتوحات الإلهية الكبرى والصغرى وكتابَ الجامعِ الصحيح الأسانيد المستخرجِ من ستة مساند كما كلف ثلاثة من العلماء بشرح مشارق الأنوار للقاضي عياض
وعلى هذا المنوال سار المولى سليمان { ت 1238هـ} و كان عالما كأبيه اعتنى بالحديث، وشجع العلماء على الاشتغال به، وكلف أربعة منهم بشرح الأربعين النووية.
كما اعتنى بكتب السنة وبصحيح البخاري خاصة، حتى إنه لما سمع بوجود أصل أبي علي الصدفي بطرابلس الغرب عند بعض المهتمين ، بواسطة الحافظ أبي عبد الله الناصري {ت1239هـ} اهتم لذلك، وكتب في شأنه مرات، وبعث إلى من هو لديه ألف مثقال يشتريه منه.
وألف في الحديث تآليف منها " حاشية على الموطأ"، وتقييد على حديث القراريط، ورسالة صغيرة بعنوان "جواز التجمير بالقُسط في رمضان" . والقُسط : عُودٌ يُجاءُ به من الهِنْد يُجعَلُ في البَخُور
واعتنى المولى محمد بن عبد الرحمن :" بسرد البخاري كل سنة " " يستدعي العلماء " لقراءته في الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان ورمضان طبق المقرر المعتاد في ذلك "، و كان يصطحب معه في سفره وحضره، نسخة ابن سعادة، لا تكاد تفارقه.في قصة تطول ذيولها..
وظل السلطان المولى الحسن حريصا في سفره و حضره على عقد المجالس الحديثية وحضورها بنفسه والاحتفال بختم صحيح البخاري ، يستدعي لذلك كله العلماء من كل حدب وصوب حيث تدرس الكتب الستة والموطأ في نحـو ستة وثلاثين مجلسا طوال عهد ملكه لا تنقطـع أبدا...
وأنشأ المولى عبد الحفيظ - وكان عالما - كرسي قراءة الحديث من صحيح البخاري وشفا القاضي عياض بالضريح الإدريسي، شروق كل يوم. و طبع كتبا كثيرة بالمطبعة السلكية التي اشتراها و بالمطبعة الحجرية بفاس كما طبع كتبا أخرى بمصر، من مؤلفاته الكثيرة منظومة في مصطلح الحديث .
وعرفت مجالس الحديث السلطانية ابتداء من عهد أمير المومنين محمد الخامس نهضة كبرى، و كان طيب الله ثراه، مقربا للعلماء، مشجعا لهم على العلم والعمل يرعاهم ويصلهم، ناصرا للقرآن الكريم لا يفتر عن تلاوته، وللسنة النبوية المطهرة، يستحضرها في أخلاقه وأقواله، طالما وقف خطيبا و إماما في صلاة جمع كثيرة، في مناسبات عديدة
و ترتقي العناية بالحديث و أهله على عهد أمير المومنين الحسن الثاني أكرم الله مثواه، إلى أعلى المستويات، وأقصى الغايات ، فإلى جانب المحافظة على تلكم التقاليد السَّنِية، التي كان عليها أسلافه الميامين، سن سننا حميدة وأنشأ أمورا فريدة ، ياتي في مقدمتها، تنظيم الدروس الحسنية، وتأسيس دار الحديث ...
سن الدروس الحديثية الرمضانية، و حشد لها كبار العلماء، من المغرب والمشرق وغيره من البلاد، يتعاقبون على إلقائها من أول رمضان إلى ليلة السابع و العشرين منه حيث تنتهي بختم صحيح البخاري، ويكون أمير المومنين، هو الذي يعطي إشارة الانطلاق، وهو الذي يتولى آخر كل درس الختمَ والدعاء.
و امتازت هذه الدروس بتتويجه طيب الله ثراه لها بدروس قيمة، شارك بها العلماء ، منها شرحه حديث "كم رجل لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ " وحديث : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"
أما بالنسبة لدار الحديث فقد لاحظ ، أن عددا من كبار العلماء بدأوا يرحلون تباعا إلى جوار ربهم، وأن الساحة بدأت تخلو بغيابهم من الأطر العلمية الكفئة ، فعمد إلى إنشاء دار الحديث ، لإيجاد الخلف ... وبشر بتأسيسها، ليلة القدر من عام 1384هـ، وعبر في مناسبات كثيرة عما ينشده من وراء ذلك وهو إعطاءَ مادة الحديث معناها الحقيقي ، وتخريجَ محدثين قادرين على أن يستنبطوا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومن آيات كتاب الله القواعد العصرية الفقهية التقنية العلمية التي من شأنها أن تجعل مجتمعنا مثلا للحضارة بل يتقدم تلك الحضارة لا مجتمعا راكدا
و إلى جانب هذه المنجزات الكبرى، ومن منطلق مسؤولية الإمامة العظمى، والاهتمام بحاضر الأمة ومستقبلها، وجه أمير المومنين الحسن الثاني بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجري، إلى الأمة الإسلامية رسالة سامية ذكر فيها أن سيدنا محمدا صلوات الله وسلامه عليه ترك من بعده كتابا محكم الآيات، من تمسك به لم يضل، وسنة وثيقة الأسانيد والروايات، من اقتفى أثرها لم يزِل..."
و في إيمان عميق، و تشبث مكين، بالكتاب المبين، وبأحاديث سيد المرسلين، ووفاء لما دأب عليه أسلافه الميامين، واصل أمير المومنين محمد السادس أعزه الله ، السير على نفس المنوال متعهدا و مجددا ، بخطى ثابتة واعية بدقة العصر ومتطلباته، دون قطع الصلة بالماضي التليد في إيجابياته وإشراقاته...
من أبرز مظاهر الاهتمام بالحديث و أهله، استمرار الدروسِ الحسنية مقترنة باسم مؤسسها المغفور له الحسن الثاني، و ختمِ صحيح البخاري ليلة السابع و العشرين من رمضان، ومثل ذلك من الرعاية و الاهتمام بالنسبة لمؤسسةَ دار الحديث الحسنية.
ومن مظاهر التجديد في هذا السياق، فسح المجال للمرأة العالمة للمشاركة في الدروس الحسنية، و في تحمل مسؤولية التوعية ونشر العلم إلى جانب شقيقها الرجل وإلقاء الدروس من على مختلف المنابر المعدة لذلك ... ومن المظاهر غيرِ المسبوقة إحداث جائزة محمد السادس لأهل الحديث، ثم هذه الدروس الحديثية التي نشرف بالمشاركة في إلقائها، والهادفة إلى التوعية بخصوص ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يُعلم منه ما هو صحيح وما هو سقيم أو مكذوب .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه و الحمد لله رب العالمين .