بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

طرق إنفاق المال في الإسلام ودورها في التنمية الاقتصادية ( الزكاة و الوقف نموذجين)

تاريخ نشر المقال 26-03-19 09:56:54

    توطئة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل و به نستعين و الصلاة و السلام على خير الأنام و على آله و صحبه الكرام
وبعد فإن هذه المداخلة أو على الأصح الكلمة، ما هي إلا نظرات و إشارات تتعلق بجوانب من طرق إنفاق المال في الإسلام ودورها في التنمية الاقتصادية من خلال أنموذجي الزكاة والوقف .
و غير خاف أن الإسلام نظر إلى المال على أنه مال الله ، و أن الإنسان مستخلف فيه مؤتمن عليه ، يتصرف فيه وفق ضوابط محددة ،انطلاقا من مجموعة من القيم و المبادئ، المنبثقة من تعاليم الشريعة الإسلامية.
قال تعالى { و ءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم } النور :33 و قال سبحانه {و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم و أنفقوا لهم أجر كبير } الحديد :7
و الحديث عن اهتمام الإسلام بالإنفاق و ما إليه أكبر من حصره في مداخلة كهته ، لكن حسبنا في هذا المقام أن نتأسى بمن سبقنا من الأسلاف فنقول كما قالوا : ما لا يدرك كله لا يترك جله ، و في هذا الإطار تمكن الإشارة إلى أن مادة ( ن ف ق ) في القرآن الكريم جاءت بالمعنى المراد في هذه المداخلة في نحو 72 موضعا أكثر من ستين منها في الآيات المدنية مما يدل على ارتفاع وثيرة الإنفاق في العهد المدني ، حين نشأ المجتمع الأول في ظل الدولة الإسلامية بقيادة رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد لخص الراغب في المفردات معاني المادة بشكل دقيق حين قال :
" ... و الإنفاق قد يكون في المال و في غيره و قد يكون واجبا و تطوعا قال تعالى { و أنفقوا في سبيل الله } البقرة :195 - ... و النفقة اسم لما ينفق قال :{ و ما أنفقتم من نفقة } البقرة :270 ... و النفق الطريق النافذ ، و السرب في الأرض النافذ فيه قال { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض } الأنعام :35 ... و منه النفاق هو الدخول في الشرع من باب الخروج عنه من باب وعلى ذلك نبه بقوله :{ إن المنافقين هم الفاسقون } التوبة :67
و الدين الإسلامي الذي يربي في النفوس الاستعداد للبذل و العطاء والتحرر من الشح و عبادة المال، يفسح في الوقت ذاته المجال للإنفاق فيكون منه ما هو معنوي، كالكلمة الطيبة، ونشر العلم والسعي في الخير وغير ذلك، و منها ما هو مادي و مثاله البارز الإنفاق بالمال الذي أمر الله تعالى أن يصان عن الضياع و الفساد و التبذير ، كما نهى ، عن إتلافه و إهماله و تركه في متناول السفهاء {ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} وفي آية أخرى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا و كان بين ذلك قواما }
كما منع أن يبقى المال مكدسا مكتنزا، و يترك الناس في حاجة و إملاق بل يجب " إسهام المال في المنافع الشرعية، والمشاريع العمومية، والشركات التعاونية " لأن المال إذا راج في الأسواق في مختلف المجالات ، "تهيأ العمل وتضخم الإنتاج و قلت الحاجة و البطالة "
و في تراثنا الإسلامي المبكر، نماذج رائعة في فهم علماء الإسلام، لدور المال في الحياة، وكيف ينبغي التصرف فألفوا في ذلك مؤلفات نذكر منها في هذه العجالة مما هو مطبوع :
- الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة {ت182هـ} ألفه استجابة لاقتراح الخليفة العباسي هارون الرشيد
- كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام {ت224هـ}
- كتاب الأموال لحميد بن زنجويه {ت251هـ}
- كتاب الأموال لأبي جعفر أحمد بن نصر الداودي {ت402هـ}
- - كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة و معرفة جيد الأعراض و رديئها وغشوش المدلسين فيه لأبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي { كان حيا سنة 570هـ }
و فيها من الأحاديث المسهبة في الموضوع، ما لا يتسع المجال لتقديم نماذج منها كلها ، و يكفي أن أسوق منها مثالين
الأول لأبي يوسف في كتاب الخراج عندما تكلم على الصدقات و يعني بها الزكاة حيث نبه الخليفة هارون الرشيد إلى خطورة الأمر و مسؤوليته فقال :" و مُر يا أمير المومنين باختيار رجل أمين ثقة عفيف ناصح مأمون عليك و على رعيتك فوله جميع الصدقات في البلدان و مره فليوجه فيها أقواما يرتضيهم و يسأل عن مذاهبهم و طرائقهم و أماناتهم يجمعون له صدقات البلدان، فإذا جمعت إليه أمرته فيها بما أمر الله جل ثناؤه به فأنفذه و لا تولها عمال الخراج ، فإن مال الصدقة لا ينبغي أن يدخل في مال الخراج"
و من ذلك قوله :"و سألتَ من أي جهة تُجرى على القضاة و العمال الأرزاق فاجعل أعز الله أمير المومنين بطاعته ما يُجرى على القضاة و الولاة من بيت مال المسلمين من جباية الأرض أو من خراج الأرض و الجزية لأنهم في عمل المسلمين فيُجرى عليهم من بيت مالهم و يجرى على كل والي مدينة و قاضيها بقدر ما يحتمل و كل رجل تصيره في عمل المسلمين فاجر عليه من بيت مالهم و لا تجر على الولاة و القضاة من مال الصدقة شيئا إلا والي الصدقة فإنه يجرى عليه منها "

أما المثال الثاني فلأبي الفضل الدمشقي الذي ذكر أن المال ينقسم إلى أربعة أقسام : الصامت و العرض والعقار والحيوان أو المال الناطق، ثم تحدث بتفصيل عن كل قسم على حدة، ثم عقد فصلا فيما يجب أن يحذر في إنفاق المال حيث قال : أما إنفاق المال فينبغي أن يحذر فيه من خمس خصال: وهي اللؤم و التقتير و السرف والبذخ و سوء التدبير، و تحدث عن كل خصلة بما تستحق من البيان ...
..." إلى كلام نفيس و فوائد قيمة لا يتسع المجال لإيرادها
و نصل إلى الوقف في الإسلام الذي جعلناه نموذجا ثانيا بعد الزكاة لطرق إنفاق المال و دورها في التنمية الاقتصادية :
و الوقف أو الحبس كما عرفه الحافظ ابن عبد البر في الكافي هو " أن يتصدق الإنسان المالك لأمره بما شاء من ريعه و نخله و كرمه و سائر عقاره لتجري غلات ذلك و خراجه و منافعه في السبيل التي سبلها فيه مما يقرب إلى الله عز وجل و يكون الأصل موقوفا لا يباع و لا يورث أبدا ما بقي شيء منه ..."
من هنا تظهر أهمية الوقف في الإسلام، وأنه من أعظم أبواب البر وأقدسها ، حتى إن إمام دار الهجرة مالك بن أنس، عندما ناظر أبا يوسف صاحب أبي حنيفة في مجلس الرشيد قال له : هذه أوقاف رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقلها أهل المدينة خلفهم عن سلفهم ، مما أقنع أبا يوسف فرجع في ذلك عن مذهب أبي حنيفة ، و صار المتأخرون من الحنفية ينكرون منع إمامهم و يقولون : مذهبه أنه جائز و لكن لا يلزم .
و في التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني :" و قد حبس النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون بعده، حتى صار الحبس الإسلامي من أعظم مصادر المال لنفع أهله و موارده اليوم في سائر أوسع دوائر الجبايات ..."
و لعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا مع من قال إن نظام «الوقف» الذي أخذ به المسلمون للتقرب إلى الله من خلال المشاركة في بناء مجتمعاتهم وإعمار الأرض، هو تقريبا ما أطلق عليه الغرب لاحقا اسم:"منظمات المجتمع المدني" مع تميزه من حيث الباعث و المقصد...
وعدم حصر الوقف في مجال محدد، يجعله متسعا يشمل شتى المجالات مما خفف على ميزانية الدولة في ميادين عدة كالصحة و التعليم و الاجتماع إلى جانب دوره في المجال الاقتصادي، حيث يسهم في الحياة الاقتصادية داخل الوطن بما يشيده من عقارات، وما يستصلحه من أراض و ما يستثمره بالعمل أو بالكراء و الشراكة و غير ذلك، كما يسهم في إنعاش الحياة الاقتصادية للمواطنين، بتوفير فرص للعمل و تشغيل عدد كبير منهم سواء في الحقل الديني أو في أوراش العمل المختلفة و السهر عليها مما تكون له نتائج إيجابية، في إطار حركة اقتصادية نشطة ، و معلوم أن التنمية إنما تتم عن طريق ما يقوم به الإنسان من جهد منظم لتحقيق أهداف معينة ...
مداخلة في المؤتمر الثالث حول المالية الإسلامية بمدينة مراكش