بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

التفسير و المفسرون بمدينة مراكش خلال القرون : السادس و السابع و الثامن للهجرة - ابن برجان نموذجا

تاريخ نشر المقال 23-02-22 07:17:59

    مدخل
يميل بعض مؤرخينا إلى القول بأن أهل المغرب، ربما تطلعوا إلى الدين الإسلامي الحنيف، منذ وقت مبكر، قبل وصول الفاتحين إلى بلدانهم، أو اتساع رقعة الإسلام فيها على الأقل ، وقصة رجال رجراجة في المغرب معروفة و إن كان لي فيها أكثر من مقال ، وكذلك الشأن بالنسبة لعشرة رجال زواوة في تونس، بغض النظر عن صحة القصتين أو عدم صحتهما بالتعيين، دون نفي ذلك على الإطلاق، للحديث الذي رواه الإمام مسلم في الصحيح عن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام و رسول الله صلى الله عليه و سلم قاعد قال : فقالت لي نفسي ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه ، قال : ثم قلت لعله نجي معهم فأتيتهم فقمت بينهم و بينه قال : فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي الحديث ...
قال النووي : هذا الحديث فيه معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم. و توسع فيه أبو العباس القرطبي في المفهم بشكل مفيد.
ثم أقبل على الدين بعد لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، كثير من أهل المغرب، منذ أوائل الفتح الإسلامي لأقطارهم، مما يدعم القول بأن الإسلام انتشر بإقبال الناس عليه، لا تحت طائلة الإكراه وحد السيف كما يقول المغرضون ... و ما وقع في بلاد الغرب الإسلامي من مقاومة للفاتحين لم يكن بسبب رفض الدين، إنما كان بسبب سوء فهم من الجانبين، لعل في مقدمة أسبابه حاجز اللغة كوسيلة للتواصل ...
أما فيما يتعلق بدخول التفسير إلى بلاد الغرب الإسلامي، فلا شك أنه دخل على يد الفاتحين الأول من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، ثم عن طريق أعضاء البعثات العلمية الموفدة إلى هذه البلاد بعد ذلك، كبعثة الخليفة عمر بن عبد العزيز الشهيرة ، وعبر قنوات أخرى ...
ولعل من النصوص التفسيرية الأولى بالغرب الإسلامي ما رواه أبو الوليد ابن الفرضي بسنده المتصل إلى قيس بن الحجاج، أنه سمع حنشا الصنعاني وهو أحد التابعين، الذين دخلوا الأندلس وماتوا بهاـ يقول في هذه الآية:{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار} الآية... أي : في علف الخيل و مما يوضح دور البعثات العلمية، الوافدة من المشرق، في تعليم القرآن وبيان معانيه ، الخطاب الآتي الذي كتبه علماء البعثة التعليمية العمرية ، لحنظلة بن صفوان عندما ثار عليه الخوارج ، ليبعثه إلى أهل طنجة :
بسم الله الرحمن الرحيم من حنظلة بن صفوان إلى جميع أهل طنجة .
أما بعد ، فإن أهل العلم بالله و بكتابه وسنة نبيه محمد يعلمون أنه يرجع جميع ما أنزل الله إلى عشر آيات آمرة و زاجرة و مبشرة ، ومنذرة ومخبرة ومحكمة ومتشابهة وحلال وحرام وأمثال ، فآمرة بالمعروف و زاجرة عن المنكر ومبشرة بالجنة ومنذرة بالنار ومخبرة بخبر الأولين و الآخرين و محكمة يعمل بها و متشابهة يؤمن بها وحلال أمر أن يؤتى، وحرام أمر أن يجتنب، وأمثال واعظة فمن يطع الآمرة، وتزجره الزاجرة فقد استبشر بالمبشرة، وأنذرته المنذرة، ومن يحلل الحلال ويحرم الحرام ويرد العلم فيما اختلف فيه الناس إلى الله مع طاعة واضحة ونية صالحة فقد فاز وأفلح وأنجح و حيي حياة الدنيا والآخرة و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
وهي رسالة بليغة، لخصت بإيجاز، ما تضمنه القرآن من أحكام وآداب، كما بينت للناس ما هم في حاجة إلى فهمه و العمل به ..
المحور الأول - أهم عوامل دخول التفسير إلى بلاد الغرب الإسلامي
لا شك أن تفسير القرآن الكريم دخل إلى بلاد الغرب الإسلامي عبر قنوات لعل من أهمها :
أولا – الرحلة و الاتصال بمدارس التفسير المشرقية :
بدأت الرحلة من المغرب إلى المشرق لأخذ العلم منذ وقت مبكر ، ثم ازدهرت ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري، وكان إقبال أهل المغرب على علماء المدينة كبيرا...
و يظهر من خلال مختلف التراجم المغربية، أن الرحلات بين المغرب و المشرق كانت تمر عبر البحر و البر معا، وكانت الرحلات العلمية تسير من المغرب إلى المشرق غالبا ، ومن المشرق إلى المغرب أحيانا، بالإضافة إلى الرحلات الداخلية بين بلدان الغرب الإسلامي فيما بينها، أو داخل القطر الواحد منها ، و كانت أهم مدارس التفسير بالمشرق ثلاث أبرز تلامذتها :
1- تلامذة مدرسة مكة : دخل علم ابن عباس عن طريق مولاه عكرمة المغربي الأصل ، والذي جاء من المشرق لنشر العلم بالقيروان فاتخذ له مجلسا في مؤخر جامع القيروان في غربي المنارة بالموضع الذي يسمى بالركيبية
2 - تلامذة مدرسة المدينة : انتقل علم مدرسة التفسير بالمدينة، عن طريق تلاميذ الإمام مالك الذين نقلوا تفسيره المروي عن زيد بن أسلم وغيره، وعن طريق وكيع الذي أخرج روايات من تفسير أبي بن كعب .
عن يحيى بن مضر من أهل قرطبة (ت180هـ) روى عن مالك ، وروى عنه مالك.
قال مالك: حدثني يحيى بن مضر عن سفيان الثوري : أن الطلح المنضود هو الموز قال ابن الأبار : و فيه لأهل الأندلس فخر تليد يصحبه تخليد
ومن المفسرين المغاربة من تلامذة مالك أسد بن الفرات (ت213هـ) قال داود بن يحيى : رأيت أسدا يعرض التفسير، فتلا هذه الآية :{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ، فقال أسد : ويح أهل البدع ، هلكت هوالكهم ، يزعمون أن الله تعالى خلق كلاما يقول ذلك الكلام انني أنا الله
3 -مدرسة الشام و العراق : انتقل علم مدرسة العراق عن طريق الأعمش وسفيان الثوري ، كما وصلهم التفسير عن علي ابن أبي طالب ، عن طريق رواية ابن عيينة عنه في تفسيره . وفي المثالين السابقين ، ما يصدق على هذه المدرسة لتلمذة يحيى بن مضر وأسد بن الفرات لشيوخ هذه المدرسة أيضا من ذلك أن هذا الأخير سأل محمد بن الحسن الشيباني عن تعيين الذبيح فقال : قلت يومًا لمحمد بن الحسن ، اختلفت الروايات في الذبيح من هو ؟ فقال قوم: إسحاق ، وقال قوم إسماعيل ، وقال محمد أصح الروايات عندنا إسماعيل لأن الله يقول في كتابه الكريم { فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} فكيف يختبر إبراهيم بذبح إسحاق وقد أعلمه الله أنه سيولد له إسحاق ويولد لإسحاق يعقوب؟ وإنما الاختبار فيما لم يعرف عاقبته وهو إسماعيل
ب- الحديث: في القرن الثاني، ابتدأ طور التدوين ، فكان التفسير بالمأثور، أول ما دون من ذلك ، مما سجل لأهل الحديث والرواية فضل السبق والريادة في هذا المجال، وقد ذهب غير واحد إلى أن الإمام مالك بن أنس ، أول من ألف في التفسير بهذا المعنى.
ولم يكن التفسير في هذا العصر يتجاوز – في الغالب – جمع أقوال رسول الله في التفسير، ثم أقوال الصحابة والتابعين، مع ذكر الأسانيد.
ومالك تخرج بمدرسة المدينة في التفسير التي كان على رأسها من الصحابة، أبي بن كعب، ثم تخرج على يديه مباشرة أو بواسطة، عدد من التابعين، اشتهر من بينهم: أبو العالية رفيع بن مهران، ومحمد بن كعب القرظي، ثم زيد بن أسلم العدوي المدني، وعنه أخذ مالك التفسير.
ومن تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة، وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، الشيء الذي جعل محمد بن الحسن الشيباني يعترف أمام الشافعي أن مالكا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله من أبي حنيفة، ومن ثم لم يكن غريبا أن يقوم مالك بدور المحافظة على كتاب الله، وتفسيره على الوجه الذي لا يصطدم مع ظاهره ونصه، في عصر كثر فيه الجدل، وتجرأ على كتاب الله من يجهل لسان العرب.
روى البيهقي في شعب الإيمان أن مالكا كان يقول: لا أوتى برجل غير عالم لغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا
وروي أن رجلا جاء إلى الإمام مالك فقال : يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى ؟ فقال : لكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وأمر به فأخرج، ولم يكن مالك يقبل إدخال الإسرائيليات في التفسير، ولا يثق برواية من يفعل ذلك، كقوله في عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: إنه حاطب ليل لا يبالي من أي أخذ.
جـ - الكتب: دخلت عدة تفاسير مشرقية مختلفة إلى الغرب الإسلامي عبر الرحلة والرواية منها :
- كتاب تفسير القرآن لعبد الرزاق بن همام (ت211هـ) حدث به محمد بن عبد السلام الخشني ،عن سلمة بن شبيب النيسابوري عن مؤلفه و حدث به غيره...
- كتاب تفسير القرآن المعروف بشفاء الصدور لأبي بكر النقاش (ت351هـ) حدث به الوزير أبو بكر محمد بن هشام المصحفي عن أبي الحسن علي بن إبراهيم التبريزي بسنده إلى مؤلفه ,قال ابن خير : و بهذا الإسناد روى أهل الأندلس هذا الكتاب قديما وحديثا وكانت الرحلة فيه إلى التبريزي وذكره بروكلمان باسم : شفاء الصدور المهذب في تفسير القرآن و قال : معظمه مناقشة للنص، و لكن مع كثير من الأحاديث الضعيفة
- كتاب البيان في تفسير القرآن لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد النحوي الجاحظ المجاور بمكة ألفه في اختصار كتاب أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، حمله عنه والد ابن عطية المفسر
- مختصر كتاب الطبري الكبير في تفسير القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد النحوي
- تفسير النسائي {ت303هـ} رواه أبوالحسن علي بن محمد القابسي{ت403هـ}
- تفسير ابن جرير الطبري{ت 310هـ}:رواه ابو المطرف القنازعي {ت 413 هـ} عن أبي الطيب الحريري عن محمد بن جرير الطبري
- كتاب النكت في تفسير القرآن لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (ت450هـ) حدث به أبو الحجاج يوسف بن علي القضاعي الأندي القفال إذنا ومشافهة عن أبي محمد القاسم بن علي الحريري عن مؤلفه
- تفسير الكشاف للزمخشري: جلبه أبو العباس أحمد بن محمد الحضرمي الإشبيلي المعروف بابن رأس غنمة(ت643هـ)
المحور الثاني – التفسير و المفسرون بمدينة مراكش
تفاوت نشاط التأليف في التفسير بين أقطار الغرب الإسلامي من بلد إلى آخر، حتى ليمكن القول بأنه بدأ في المغرب الأدنى، وازدهر في الأندلس أولا، ثم في المغرب الأقصى ثانيا، و كان حظ مدينة مراكش من ذلك كبيرا، مع العلم أن المغرب كان وارث التراث الأندلسي، وموطن النازحين من الأندلس كما سيأتي ... وقبل ذلك هذه باختصار أوائل تفاسير الغرب الإسلامي :
- كتاب تفسير القرآن ليحيى بن سلام البصري الإفريقي {ت200هـ} قال عنه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله : هو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق، ألف بالقيروان و روي فيها و بقيت نسخته الوحيدة بين تونس و القيروان، و هو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير النقدي ،أو الأثري النظري ، التي سار عليها بعده ابن جرير الطبري و اشتهر بها
سمعه الناس على أبي الحسن علي بن عمر بحفص بن عمرو بن نجيح الخولاني بحاضرة إلبيرة ...
و كونه أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق غير مسلم ، كما يستفاد مما قرره فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي من أن لدينا اليوم بعض التفاسير القرآنية من القرن الأول الهجري لم يعرفها الباحثون في تفسير القرآن حتى الآن
- تفسير القرآن لأبي موسى عبد الرحمن بن موسى الهواري الأندلسي، لقي الإمام مالكا ونظراءه من الأئمة ، قال ابن الفرضي: و له كتاب في تفسير القرآن قد رأيت بعضه ، كان يرويه عنه محمد بن أحمد العتبي كما رواه عنه مسيب بن سليمان من أهل أستجة ، و كان له كتاب آخر في القراءات .
- تفسير بقي بن مخلد (ت 276هـ) قال عنه ابن حزم : و في تفسير القرآن كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد ، فهو الكتاب الذي أقطع قطعا أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله ،و لا تفسير محمد ابن جرير الطبري و لا غيره
و نعود بعد هذا إلى مدينة مراكش خلال الفترة موضوع هذه المداخلة، لنجدها في تلكم العهود عاصمة الغرب الإسلامي كله، و إلى جانب كونها دار الحكم والسياسة و الإدارة ، كانت أيضا دار علوم و آداب و فنون، عرفت خلال العهد المرابطي محبة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ثم ابنه علي – من بعده – للعلم وأهله بشكل كبير، كما شاهدت ما تحقق من إشعاع حضاري وثقافي متميز لمدينة مراكش على عهديهما الشيء الذي لم يستطع عبد الواحد المراكشي المتعاطف إلى حد ما مع الموحدين إخفاءه ،حين قال : انقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم، واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ، ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار
و اعتنى الموحدون – بدورهم – بالعلم عناية فائقة، و أحاطوا العلماء بكل ما يلزم من التكريم والرعاية ، بدءا بعبد المومن بن علي ومرورا بابنه وخلفه أبي يعقوب يوسف ثم حفيده يعقوب المنصور بن يوسف ، إلى من جاء بعدهم من الملوك والأمراء... على الرغم مما تعرض له فقهاء المالكية في أول دولتهم من عسف و ظلم ...
والأسماء التي عاشت تحت سماء مدينة مراكش خلال هذين العهدين من كبار العلماء و الفلاسفة و الأدباء انفردت به دون سواها من مدن الغرب الإسلامي وعواصمها الكبرى كالقيروان و قرطبة و فاس، حتى ليمكن القول إن كل علم من أولئك الأعلام أمة وحده، كالحضرمي المرادي و أبي الوليد ابن رشد الجد، ومالك ابن وهيب، وابن أبي الخصال و أبي الفضل عياض وابن طفيل وابن زهر و ابن الجد والسهيلي و ابن مضاء، وابن رشد الحفيد، وابن الفخار، و أبي العباس السبتي، ومحيي الدين بن عربي الحاتمي، والحرالي المراكشي وابن خروف النحوي، وغيرهم من الأعلام الشامخة والقامات السامقة، وحتى عندما آل الأمر إلى بني مرين، ونقلهم العاصمة إلى فاس مع ما عرفته البلاد من تقلص نفوذها، وسقوط الأندلس، فإن جامعة ابن يوسف بمراكش تخرج بها و درس بها أعلام كبار كالقاضي محمد بن عبد الملك المراكشي ومفخرة المغرب في كل العصور أبي العباس ابن البناء المراكشي و غيرهما من العلماء الأفذاذ ومن هذه القمم التي عاشت في هذه الحقب مفسرون كبار كما سيأتي ... وليس صحيحا ما ذهب إليه أستاذنا الراحل الدكتور عبد الهادي التازي : ... لقد ازدهر التفسير بالمغرب وتميز خلال القرون الثلاثة: السادس والسابع والثامن – على وجه الخصوص – بشكل لافت للانتباه، وعرف أسماء لامعة، وتفاسير ذائعة الصيت ، دارت في معظمها حول تفسيري ابن عطية والزمخشري، كـــ : ; الجمع بين تفسيري الزمخشري وابن عطية لعلي بن أحمد بن حسن الأنصاري الإشبيلي الجياني نزيل مراكش {ت663هـ} وحاشية على الكشاف لأبي العباس أحمد ابن البناء المراكشي {ت721هـ} و الكشف عن مشكلات الكشاف لعمر بن عبد الرحمن الفاسي { ت745هـ }
وأخرى صوفية تميزت بتحليقها في آفاق من عوالم الحقيقة، وبغوصها في أعماق النفوس البشرية و بواطنها، فجاءت بأعاجيب باهرة كتفسير ابن برجان(ت 536هـ =1141م و تفسير ابن أبي أسود أبو بكر الغساني {ت536هـ} وتفاسير الحرالي (ت637هـ=1239م) وتفسير ابن عربي الحاتمي ، و تفاسير ابن البناء العددي (721هـ =1321م) وكلهم من أهل مراكش أو الحالين بها من الأعلام، ومثل ذلك بعض تفاسير غير المراكشيين، على اختلاف مشاربها و تعدد أبعادها...
و هذه التفاسير منها ما هو شامل لكل القرآن، ومنها ما هو جزئي لبعضه، من هذه التفاسير: تفسير القرآن لأبي بكر بن أسود الغساني محمد بن إبراهيم المتوفى بمراكش {ت536هـ} تحبير نظم الجمان في تفسير أم القرآن لأبي بكر محمد بن علي ابن الفخار المراكشي و ممن فسر للناس القرآن من أوله إلى آخره علي بن محمد الغرناطي المراكشي المفسر توفي بمراكش {ت577هـ}
و كتاب التعريف و الإعلام لما أبهم من القرآن من أسماء الأعلام لأبي زيد عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي {ت581هـ} وتفسير القرآن في عشرة مجلدات لأبي محمد الحسن بن قاسم بن عبد الله بن علي المرادي المراكشي {ت 749هـ} يُلَقَّب ببدر الدين، ويُعرَف بابن أم قاسم
وسنقف مع ثلاثة من هؤلاء المفسرين المراكشيين الأعلام، خلال القرون الثلاثة: السادس والسابع و الثامن، بمعدل واحد منهم لكل قرن ، وقد اخترنا منهم أبا الحكم ابن برجان، ليكون هو النموذج الذي سنتوسع في الحديث عنه أكثر في المحور الثالث كأحد أعلام المفسرين المغاربة، و عن تفسيره للقرآن العظيم وما انطوى عليه من أسرار، و ما يمكن أن يفجره من قضايا غير معهودة عند غيره من المفسرين، ومعه كل من الحرالي و ابن البناء الذين سنتحدث عنهما قبله بإيجاز، بعد التمهيد لذلك كله بكلمة عن التفسير الصوفي:
تمهيد: ينقسم التفسير الصوفي إلى تفسير صوفي نظري ، و تفسير صوفي فيضي أو إشاري، فالأول حسب محمد حسين الذهبي ينبني على مباحث نظرية، و تعاليم فلسفية ... والصوفي حرصا منه على أن تسلم له تعاليمه و نظرياته ، يحاول أن يجد في القرآن ما يشهد له أو يستند إليه، فتراه من أجل ذلك يتعسف في فهمه للآيات القرآنية، ويشرحها شرحا يخرجها عن ظاهرها الذي يؤيده الشرع و تشهد له اللغة .
يقول : ونستطيع أن نعتبر الأستاذ الأكبر محيي الدين بن عربي شيخ هذه الطريقة في التفسير ... و إن كان له من التفسير الإشاري ما يجعله في عداد المفسرين إن لم يكن شيخهم أيضا و هذا الحكم لو أن حسين الذهبي رحمه الله اطلع قبله على تفسير ابن برجان أولا ثم تفاسير الحرالي ثانيا لغير رأيه و لعلم أن ابن عربي ما هو إل حلقة من سلسلة تنتمي إلى مدرسة من روادها الأوائل ابن برجان و من مقعديها الحرالي ...
أما التفسير الإشاري فعرفوه بأنه هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفيفة تظهر لأرباب السلوك ،ويمكن التطبيق بينه و بين الظواهر المرادة و لم يكن التفسير الإشاري بالأمر الجديد في إبراز معاني القرآن الكريم بل هو أمر معروف من لدن نزوله على رسول الله صلى الله عليه و سلم أشار إليه القرآن و نبه عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ، وعرفه الصحابة رضوان الله عليهم و قالوا به
واشترطوا لصحة المعنى الإشاري شرطين أساسين هما :
أ - أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ، بحيث يجري على المقاصد العربية
ب - أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض . و يذكرون من أهم المؤلفات فيه : حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي {ت412هـ}و عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد الشيرازي {ت606هـ}
أولا : الحرالي (ت638هـ):
تفيد مصادر ترجمة أبي الحسن علي بن أحمد التجيبي الحرالي انتماءه إلى بلدان وأقطار متباعدة ومعارف وآداب متنوعة وسلوك وأخلاق متألقة، فهو أندلسي الأصل مراكشي المولد والنشأة ، مصري الإقامة ، مدني الجوار، بجائي النزول ، شامي الوفاة والقبر، فقيه مالكي مبرز ، ومفسر خصه الله تعالى بالفهم والشفوف، محدث يعرف صحيح الحديث من سقيمه، ولغوي ضليع، عارف بلغة العرب وقواعدها ، شاعر نوراني، ومرب رباني ، رزقه الله من البركات والكرامات ، ما سلم له به العدو قبل الصديق
ذكر ابن الطواح في سبك المقال أن الحرالي استضاف في بيته بمراكش محيي الدين بن عربي الحاتمي، ثم بعد ذلك قال له هذا الأخير : إما أن تقيم هنا و نرتحل، وإما أن ترتحل و نقيم، لأن زنديقين لا يجتمعان في كل واحد ، فارتحل الشيخ أبو الحسن إلى حماة وسكنها ثم مات بها رحمة الله عليه ... و عندما كان بمصر كأنما شوش على العز بن عبد السلام سلطان العلماء وإمام الديار المصرية في زمانه الذي طلب أن يقف على شيء من تفسير الحرالي ، فلما وقف عليه بدأ يتساءل : أين قول مجاهد؟ أين قول قتادة ؟أين قول ابن عباس، إلى كلام من هذا القبيل، ثم قال : يخرج من بلادنا. ولما بلغ كلامه الحرالي ، قال : هو يخرج ،و يقيم عبد الله ، فكان كذلك
قال أبو العباس الغبريني(ت714هـ) : تعلمنا عليه الفاتحة في نحو من ستة أشهر، وكان يلقي في التفسير، قوانين تتنزل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام ، إلى أن من الله ببركات و مواهب لا تحصى ، مما لا عين رأته و لا أذن سمعته و لا خطر على قلب بشر، و على أحكام تلك القوانين وضع هو رحمه الله تعالى الكتاب المسمى : مفتاح الباب المقفل على فهم القرآن المنزل وأما علم التفسير ، فكان يورد الآي ويناسقها نسقا بديعا، و يتكلم فيها بما لم يسبق إليه، و له تفسير على كتاب الله تعالى سلك فيه سبيل التحرير، وتكلم عليه لفظة لفظة و حرفا حرفا
وقال الأدنه وي : وله تفسير فيه عجائب و لم أتحقق بعدد ما ينطوي عليه من العقد غير أنه تكلم في علم الحروف و الأعداد و زعم أنه استخرج :علم وقت خروج الدجال، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج ياجوج وماجوج
و قد اهتم بتراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير الزميل الدكتور محمادي بن عبد السلام الخياطي فأخرج كتابين في الموضوع الأول بعنوان تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير تضمن ثلاث رسائل للحرالي محققة هي : مفتاح الباب المقفل لفهم القرأن المنزل و عروة المفتاح و التوشية و التوفية ثم قام باستخراج نصوص من تفسير الحرالي المفقود اعتمادا على ما نقله البقاعي في تفسيره نظم الدرر في تناسب الآيات و السور و هي نصوص لا تتجاوز سورة البقرة و بعضا من سورة آل عمران . و الكتاب الثاني بعنوان: أبو الحسن الحرالي المراكشي المتوفى سنة 638هـ - آثاره و منهجه في التفسير
و تجدر الإشارة إلى أن الكتب الثلاثة الأولى من تراث الحرالي في التفسير – المذكورة آنفا - اهتمت بجانب النظر و التصور حيث و ضع في الأول قوانين لفهم القرآن، وفي الثاني المحاور التي اشتمل عليها القرآن انطلاقا من حيث : كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على وجه واحد و نزل القرآن الكريم على سبعة أحرف : زاجر وآمر وحلال وحرام و محكم و متشابه وأمثال الحديث .
و تناول في الكتاب الثالث موضوعين رئيسين هما: توجيه ما ظاهره اللوم أو العتاب مما خاطب به الله رسوله صلى الله عليه و سلم على أن في طيه أبلغ المدح و أسماه لأخلاقه وفضائله
لفت الأنظار و تنبه الأفهام إلى تدبر ما جاء في القرآن الكريم من ذكر الأديان السابقة على الإسلام ، و إبراز الفائدة من تكرار أخبار أصحابها على هذه الأمة .
ثانيا – أبو العباس أحمد بن البناء المراكشي (ت:721هـ): يزخر التراث المغربي، بأعمال علمية خالدة، وجهود مباركة رائدة، تستحق من العلماء وكل الباحثين الكثير من العناية و الاهتمام من ذلك تصانيف أبي العباس أحمد بن البناء المراكشي (ت:721هـ) التي تحمل من العلم والفرائد، والعقود القلائد، ما لم يسبقه إليه سابق، و لا تجاوزه فيه لاحق. و من ثم فلا عجب أن يصبح قمة عصره في صناعة التأليف، على مستوى المغرب و المشرق جميعا كما نقل ذلك المقري في أزهار الرياض عن بعض المتأخرين: و انتهت صناعة التأليف في علماء المغرب، على صناعة المشرق لشيخ شيوخ العلماء في وقته. ابن البناء الأزدي المراكشي في جميع تصانيفه
يصفه تلميذه أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الربيع سليمان اللجائي فيقول:
كان شيخا أبو العباس ابن البناء- رحمه الله- شيخا و قورا حسن السير قوي العقل(...) ماهرا في جميع العلوم(...) و كان قليل الكلام جدا (...) و كان إذا حضر في مجلس، فتكلم فيه، يسكت لكلامه جميع من حضر (...) حتى قيل فيه:إن عنده كلام السكوت يسكت به الناس إذا تكلم (...) و إنما كان شيخا أبو العباس محققا في كلامه قليل الخطأ فيه و لأجل ذلك حسد
التفسير عند ابن البناء المراكشي:
أ - آثاره في التفسير و علومه: خلف ابن البناء المراكشي عددا مهما من المؤلفات ذات الصلة الوثيقة بالتفسير وعلوم القرآن هي – فيما أعلم- كالآتي:
1 - تفسير الاسم من بسم الله الرحمن الرحيم
2 - تفسير الباء من بسم الله الرحمن الرحيم
3 - تفسير سورة العصر
4 - تفسير سورة الكوثر
5 - رسائل في تفسير بعض الآي من القران
6 - كتاب تسميات الحروف و خاصية و جودها في أوائل السور .
و هو في حكم الضائع و لست أدري لما وضعه العلامة الراحل الأستاذ عبد الله كنون ضمن مؤلفاته ابن البناء في العلوم الفلكية و التنجيمية .
7 - حاشية على الكشاف للزمخشري
وصفه ابن هيدور بأنه سفر صغير غريب في معناه و سماه بن قنفذ: الطرر على الزمخرشي في بيان مواضيع الاعتزال ليحذر من ذلك و بسط الشبهة و الجواب عنها.
وذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن الأمر يتعلق بكتابين هما:
- اختصار الكشاف للزمخرشي.
- ;حاشية على الكشاف للزمخرشي.
8 - كتاب نحا فيه منحى ملاك التأويل في المتشابه اللفظ من أي الكشاف لابن الزبير
قال عنه ابن هيدور : إنه موضوع عجيب أتى فيه ببدائع و عجائب
9 - رسالة في إحصاء عدد أسماء الله الحسنى من القران و إخراجها منه على ما هي من غير تغيير
10 - رسالة في الفرق بين الخوارق الثلاث: المعجزة و الكرامة و السحر
ومن فصولها:أن المعجزة من باب الوجود الممتنع على البشر، و الكرامة من باب الوجود المفتوح للبشر و لهذا يمكن التحدي فيها، و السحر من باب الخواص الأرضية المرتبطة بالقوى، و صاحب السحر، لا بد له من آلة ظاهرة أو خفية و ليس لصاحب المعجزة و الكرامة آلة إلا الدعاء إلى الله تعالى.
11 - عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل
ب- رؤية ابن البناء إلى التفسير و نموذج من عطائه فيه:
على الرغم من أن معظم آثار ابن البناء في مجال علوم القران غير مطبوعة باستثناء كتاب عنوان الدليل فقد يسر الله الحصول على بعض أعماله المخطوط التي اعتمد هذا البحث بعضها:
1 - رؤية ابن البناء إلى التفسير:
يقول في مقدمة رسالته: تفسير الاسم من بسم الله الرحمن الرحيم مبينا الفرق بين التفسير و التأويل : اعلم أن النظر في القران من وجهين:
الأول: من حيث هو منقول، و هي من جهة التفسير و طريقة الرواية و النقل.
و الثاني: من حيث هو معقول، و هي جهة التأويل و طريقة الدراية و العقل.
قال الله تعلى: {إنا جعلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون} . و هذه النقطة التي انطلق منها ابن البناء المراكشي اختلف فيها وجهات نظر العلماء فمنهم من قال: إن التفسير والتأويل مترادفان و منه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : اللم فقهه في الدين وعلمه التأويل
و بهذا المعنى استعمل الطبري في تفسيره لفظة التأويل كقوله: تأويل قوله تعالى كذا / و اختلف أهل التأويل في هذه الآية و نحو ذلك.
وفرق كثير من العلماء بين التفسير و التأويل على غرار ما ذهب إليه ابن البناء و هو ما ارتضاه جل المتأخرين، وأورد أبو البقاء في الكليات مثالا يجسد هذا الفرق فقال:
و تفسير القران هو المنقول عن الصحابة و تأويله ما يستخرج بحسب القواعد العربية و لو قلنا في قوله تعالى:( يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي ) أريد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا أو إخراج المؤمن من الكافر و العالم من الجاهل كان تأويلا
ثم يقول: و تفسير القران بالرأي المستفاد من النظر و الاستدلال و الأصول جائز بالإجماع و المراد بالرأي في الحديث هو الرأي الذي لا برهان فيه.
و لا يصح تفسير القران باصطلاح المتكلمين و تفسير الحي بالباقي الذي لا سبيل للفناء فيه
و بَيَّنَ أبو العباس ابن البناء الأدوات التي تلزم المفسر و المؤول فقال:
فلا بد من معرفة اللسان العربي في فهم القران العربي فيعرف الطالب الكلمة، وشرح لغتها و إعرابها ثم ينتقل إلى معرفة المعاني ظاهرا و باطنا فيوفي لكل منهما حقه و لا يخل بشيء من ذلك و إلا كان مخطئا أو مقصرا .
ويقول بعد ذلك: وقد قصر للمقصرين في اللسان قوانين النحويين لما اعوجت الألسنة، و للناقصي التعقل علم المعقولات، و للناقصي الإبانة و البلاغة علم الأدب وللناقصي الفهم في أحكام الشرع، علم الأصول و الله سبحانه يفهم من عنده ما يشاء ويزيد في الخلق من يشاء ;.
ويتحدث في شرح ;شرح مراسم الطريقة ; عن خطورة التفسير وهيبته فيقول: القران فيه معاني كتاب الله تعالى، وهو بيانه يهدي الألباب إلى الحقائق كما قال تعالى: {لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا}
و ليس يلزم من البيان التبيين فلذلك كان السلف رضي الله عنهم يهابون تفسيره لئلا يلزم فيه الفهم على تفسيره، ما لا يلزم من صريح ألفاظه المرشدة إلى الحق فيقع تحريف في المعنى لأجل ذلك.
و كانوا يطلبون فهمه على ما هو عليه، ليحصل لهم العقل الشرعي،يتلقونه بالعقل الروحي فيقيم له المعقولات في أكمل رتب البيان و التحقيق و ثلج اليقين و لا يتوقفون في التأويل لأنهم قد أمروا بالتدبر فيه.
نموذج من تفسير ابن البناء القران الكريم .
هذا مثال من تفسير ابن البناء اخترته من كتابه: شرح مراسم الطريقة في فهم الحقيقة من حال الخليفة وهو من أنفس مؤلفاته و أنفعها وقد نشر مراسم الطريقة بتحقيق الدكتور صلاح الدين الناهي،
أما الشرح و هو الأهم فتوجد منه عدة نسخ مخطوطة
قال الله تعالى: {لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}.
قال ابن البناء: فيه معنى قول النبي عليه السلام: فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك ثم قال تعالى: {وهو اللطيف الخبير). فبلطفه صغر قدر الأبصار عن أن تدركه ورفق بها في أن يتجلى لها فيهلكها و لأنه خبير أدركها قبل كونها و بعده، فلم يستجد علمه بها ما لم يكن قبل كونها.
و الإدراك صفة عامة(...) فليس إدراك بصره كإدراك بصائرنا فإنه ليس ( كمثله شيء) وهو لطيف صغر قدر بصرنا و لط بنا على أن يتجلى من صفته لها ما لا تقدر و لا تطيقه لنقصها.
فالرب يسمع الكون و يراه فلا حجاب وهو معنى الشهادة منا (...) و ليس الإبصار انفعالا إنما هو تمييز يذلك عليه قوله تعالى: (وجعلنا آية النهار مبصرة ) و(فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) فالمبصر هو المبين و المميز...
و مثل هذا التفسير-كما لا يخفى-إنما يصدر عن فهم يخص الله تعالى به من يشاء من عباده.
المحور الثالث ابن برجان و تفسيره للقرآن
كنا في أول الأمر على نية الاقتصار على نموذج واحد لكن وجدنا أنفسنا في النهاية نقف على ثلاثة نماذج و في ذلك خير و يبقى ابن برجان الرائد الأول في هذا المسار
يأتي هذا المحور في ثلاثة مباحث كالآتي :
أولا – التعريف بابن برجان : لا شك أن مصادر ترجمة ابن برجان الأولى مغربية وهو شيء طبيعي فأهل كل بلد أعلم برجاله و لذا لا عجب أن يسقط المشارقة حتى الكبار في الأخطاء عندما يترجموا المغاربة مما سنشير لبعضه ...
وقد ترجم المشارقة ابن برجان اعتمادا على المغاربة و على ما وقفوا عليه من تراث الرجل ، ترجمه الحافظ الذهبي في السير فحلاه بـ : الشيخ الإمام العارف القدوة شيخ الصوفية
ثم نقل قول أبي عبد الله بن الأبار : كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث ، والتحقيق بعلم الكلام والتصوف ، مع الزهد والاجتهاد في العبادة ، وله تصانيف مفيدة ، منها تفسير القرآن لم يكمله ، وكتاب شرح أسماء الله الحسنى وقد رواهما عنه مرو القنطري
و ختم الترجمة بقوله : توفي مغربا عن وطنه بمراكش في سنة ست وثلاثين وخمس مائة وقبره بإزاء قبر الزاهد الكبير أبي العباس بن العريف . : أُخِذ هذان ، وغربا ، واعتقلا، توهم ابن تاشفين أن يثورا عليه كما فعل ابن تومرت
و قد تصحفت توفي مغربا في ذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد المكي: فاصبحت غريقا بمراكش و قُبِر بإزاء قبر ابن العريف
و كان يعتقد إلى وقت قريب أن ابن برجان تلميذ لابن العريف قبل أن تظهر رسائل ابن العريف إلى ابن برجان في مفتاح السعادة وهو ينعته بالشيخ الفاضل الإمام والإمام أبي الحكم شيخي وكبيري.
أما عن علم ابن برجان فيقول ابن الزبير في صلة الصلة : كان – رحمه الله - من أجل رجال المغرب ، إماما في علم الكلام و لغات العرب و الأدب عارفا بالتأويل و التفسير ، نحويا بارعا، نقادا ماهرا ،إماما في كل ما ذكر، لا يماثل بقرين، مشاركا في علم الحساب والهندسة ، قد أخذ من كل علم بأوفر حظ، مؤثرا لطريقة التصوف وعلم الباطن، متصرفا في ذلك، عارفا بمذاهب الناس، متقيدا في نظره بظواهره الكتاب والسنة، بريئا من مردى تعمق الباطنية، بعيدا عن قحية الظاهرية، شديد التمسك بالكتاب والسنة، جاريا في تأويل ذلك على طريق السلف و علماء المسلمين، و ما عليه السواد الأعظم ... وهذه حقيقة تعكسها نوعية المصادر التي ترجمته
محنته و نهايته : قال التادلي : و لما أشخص أبو الحكم ابن بَرَّجان من قرطبة إلى حاضرة مراكش، سئل عن مسائل عيبت عليه، فأخرجها على ما تحتمله من التأويل. فانفصل عما ألزمه من النقد، وقال أبو الحكم: والله لا عشت ولا عاش الذي أشخصني بعد موتي. يعني السلطان. فمات أبو الحكم. فأمر السلطان أن يطرح على المزبلة، ولا يصلى عليه، وقلد من تكلم فيه من الفقهاء فدخل على ابن حرزهم - أبو الحسن علي بن حرزهم - رجل أسود كان يخدمه و يحضر مجلسه فأخبر أبا الحسن بما أمر به السلطان في شأن أبي الحكم فقال له أبو الحسن :إن كنت تبيع نفسك من الله فافعل ما أقول لك، فقال له: مرني بما شئت أفعله ، فقال له : تنادي في أسواق مراكش وطرقها : يقول لكم ابن حرزهم: احضروا جنازة الشيخ الفاضل الفقيه الزاهد أبي الحكم بن برجان و من قدر على حضورها و لم يحضر فعليه لعنة الله ففعل ما أمره به، فبلغ ذلك السلطان فقال: من عرف فضله و لم يحضر جنازته فعليه لعنة الله
ثانيا – مؤلفاته وياتي الحديث عنها على الشكل التالي:
أ - مؤلفاته :
له تفسير القرآن سياتي الحديث عنه مفصلا
- وله كتاب في تفسير الأسماء الحسنى وصفه ابن الزبير بالشهير وهو مطبوع.
- وله كتاب آخر هو الإرشاد قال عنه ابن الزبير: إنه قصد فيه إلى استخراج أحاديث صحيح مسلم بن الحجاج من كتاب الله تعالى فتارة يريك الحديث من نص آية ، وتارة من فحواها ومفهومها ،وتارة من إشارتها أو من مجموع آيتين مؤتلفتين أو مفترقتين ، ومن عدة آيات إلى أشباه هذه المآخذ»حتى وفى كتابه بالمقصد المذكور و بذلك وصفه الزركشي :في البرهان 2/129 في النوع الأربعون فى بيان معاضدة السنة للقرآن
اعلم أن القرآن والحديث أبدا متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة حتى إن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر ويبين إجماله ،ثم منه ما هو ظاهر ومعه ما يغمض وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف الإمام أبو الحكم ابن برجان فى كتابه المسمى بالإرشاد
و في كتاب التذكرة بأحوال الموتى و أمور الآخرة لأبي عبد الله القرطبي المفسر {ت671هـ } : في سياق شرح حديث جابر في صحيح مسلم وفي آخره فقال - رسول الله صلى الله عليه وسلم- : إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين ففي هذا الحديث زيادة على رطوبة الغصن و هي شفاعته صلى الله عليه و سلم ... وقد خرج أبو داود الطيالسي حديث ابن عباس أن رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على قبرين فقال :إنهما ليعذبان في كبير....ثم قيل يجوز أن يكونا كافرين ... و لو كانا مومنين لعلما لقرب العهد بتدافن المسلمين يومئذ قاله ابن برجان في كتاب الإرشاد الهادي إلى التوفيق و السداد
ب – التعريف بتفسير ابن برجان: كتاب في التفسير قال ابن الأبار : لم يكلمه ،وقال ابن الزبير بانه :« جرى فيه على طريقة لم يسبق إليها واستقرأ من آيات عجائب وكوائن من الغيوب إلا انه أغمض في التعبير ، فلا يصل إلى مقصوده إلا من فهم كلامه وألف إشارته وإلهامه » .
توجد نسخة من هذا التفسير في الخزانة العامة بالرباط تحث رقم (242ك )تبدأ بسورة الأعراف وتنتهي عند تفسير قوله تعالى :« لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ» من سورة النور وقد كتب فوق الصفحة الأولى بخط غير الناسخ تفسير ابن بلجان (هكذا ) كما كتب فوقها صك الراء يتضمن اسم المشتري مشطوبا عليه وتاريخ الشراء وهو :1270هـ، ومكان الشراء :الذي هو تونس واسم الدلاء أيضا ، كما يوجد فوق هذه الصفحة ختم محمد عبد الحي الكتاني.
وتقع هذه النسخة في 388صفحة من الحجم المتوسط في كل صفحة 27سطرا وفي كل سطر مابين 12و13 كلمة ، كتبت بخط مشرقي مقروء ، ميزت فيه بعض العناوين باللون الأحمر ونجد طرر وحواشي بعض الصفحة تعليقات بخط غير خط الناسخ ، والنسخة سليمة على العموم إلا ماكان فيها من بتر في الورقة الأولى وكذا في سورة التوبة عند قوله تعالى :« إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ » ففيه بتر إذ يبدأ التفسير بعدها بقوله تعالى :« إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وكذلك في سورة الحج فلا نعثر على بداية السورة وإنما يبدأ التفسير بقوله تعالى :« إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا» .
2-تسمية الكتاب : أغلب المترجمين لابن برجان ينسبون له التفسير بالإطلاق بدون وصفه باسم يميزه ، والظاهر إن اسمه هو : تنبيه الأفهام إلى تدبر الكتاب الحكيم و تعرف الآيات والنبأ العظيم حسب طبعة أحمد فريد المزيدي . يتبع من مقدمة التفسير
ثالثا – نماذج من تفسيره :لا أخفي أن صلتي بتفسير ابن برجان و تطلعي للوقوف عليه ترجع إلى أوائل التسعينيات عندما كنت أدرس مادة إعجاز القرآن مع طلبة سنة الإجازة بكلية اللغة العربية بمراكش و في بحث عن نص من التراث في الإعجاز الغيبي ساقتني الأقدار أو ساقت إلي تفسيرا لأول سورة الروم {الم غلبت الروم } الآيات يقول إن أبا زكرياء يحيى بن أبي الحجاج ت590هـ} استخرج من تفسير أبي الحكم ابن برجان من كلامه على سورة {الم غلبت الروم } فتح بيت المقدس في الوقت الذي فتح فيه على المسلمين و حقق وعين ما كان أغمض فيه ابن برجان و أبهم، ووقف المنصور – الموحدي – فبقي مرتقبا له و معتنيا في نفسه به، حتى كان ذلك على حسب ما قاله ، فأمر أن يحضر مجلسه ، و يرتسم في جملة طلبته و وقع في المشرق ما يشبه ذلك لأبي المعالي محيي الدين بن زكي الدين الدمشقي الشافعي {ت598هـ} قال ابن خلكان : و كانت له عند السلطان صلاح الدين رحمه الله المنزلة العالية ، والمكانة المكينة ، و لما فتح السلطان المذكور مدينة حلب ، يوم السبت ثامن عشر صفر، سنة تسع و سبعين و خمسمائة أنشده القاضي محيي الدين المذكور قصيدة بائية أجاد فيه كل الإجادة، وكان من جملتها بيت هو متداول بين الناس و هو :
وفتحك القلعة الشهباء في صفر . . . مبشر بفتوح القدس في رجب فكان كما قال لأن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاثين و ثمانين و خمسمائة ، وقيل لمحيي الدين من أين لك هذا ؟ فقال : أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى :{الم غلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين}
وشاء الله أن أقف بعد ذلك على تفسير ابن برجان فوجدته يقول: قول الله جل ذكره {غلبت الروم } هو إخبار و بشارة من عن التقدير المقدر لظهور الكائن ، فكان ذلك زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه غلبهم على بلاد الشام واستخرج بيت المقدس عن أيديهم ...
ثم قال عز من قائل:{وهم} يعني : الروم {من بعد غلبهم سيغلبون } أي أنهم / يتبع في تفسير ابن برجان

والحمد لله أولا و آخرا






ــــــــــــــــــــــــــــــــــ