بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

الحركة الحديثية بالجامعة اليوسفية بمراكش خلال العهدين المرابطي و الموحدي وعناية المغاربة بالموطأ والصحيحين

تاريخ نشر المقال 12-01-23 06:05:08

    تأتي هذه المشاركة في توطئة و ثلاثة محاور :
توطئة : لاشك أن للزمان و المكان أحكاما ، و إذا كان هذا الأمر معروفا في تاريخ الفقه الإسلامي ، كما في تجربة الإمام الشافعي رحمه الله على سبيل المثال فإن الأمر كذلك بالنسبة للحديث النبوي الشريف، لكنه لم يحظ بعد على مستوى النظر بما يستحق من الدراسة ، و لقد كان الحافظ ابن عبر البر رحمه الله ، مدركا هذه الحقيقة عندما قال : إنما اعتمدت على رواية يحيى بن يحيى المذكورة خاصة لموضعه عند أهل بلدنا من الثقة و الدين والفضل و العلم و الفهم و لكثرة استعمالهم لروايته وراثة عن شيوخهم و علمائهم ... فكل قوم ينبغي لهم امتثال طريق سلفهم فيما سبق إليهم من الخير وسلوك منهاجهم فيما احتملوا عليه من البر وإن كان غيره مباحا مرغوبا فيه .
و إذا علمنا أن الحديث النبوي الشريف هو ما ينضوي تحته عند الجمهور ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي أي الحديث الموقوف و الحديث المقطوع إذا علمنا هذا و علمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم عاش بين مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وجب أن نعرف الأسانيد التي وصل بها الحديث إلينا أو بمعنى آخر لزم أن نضع في الاعتبار تركيبة الحديث من سند ومتن . و أن السند هو الطريق الموصل إلى المتن ، فلا بد أن يكون الحديث قد و صل إلى بلاد الغرب الإسلامي من المشرق عن طريق الرواية ...
قبل الحديث عن هذه الأمور أشير فيما يتعلق بالمكان إلى أن العالم العربي بعد الإسلام كان مقسما إلى قسمين : شرق أو مشرق وغرب أو مغرب ، و كان العباسيون قد قسموا مملكتهم إلى جهتين انطلاقا من عاصمتهم بغداد :
1 - المشرق و يشمل بلاد فارس و ما إليها شرقا
2 - المغرب و يشمل الشام و إفريقية و ما إليها غربا
ثم أصبح فيما بعد يعني بلاد المغرب الكبير و الأندلس لا يخفى أنه كانت للمغرب الأقصى الصدارة بين بلدان المغرب الكبير ،بل انضوت جميعها تحت حكمه لقرون ، و كانت مدينتنا العالمة مدينة مراكش عاصمة الغرب الإسلامي في تلكم العهود ...
و لم يكن مصطلح الغرب الإسلامي متداولا في القديم و إنما شاع استعماله في العصر الحديث و لعل ليفي بروفنصال أبرز من دافع عنه هذا المصطلح و روج له
المحور الأول - دخول الحديث إلى بلاد الغرب الإسلامي
أول ما يرد علينا و نحن نهم بولوج هذا الموضوع، سلسلة من التساؤلات المرتبطة به منها : كيف دخل الحديث إلى بلاد الغرب الإسلامي؟ و من أدخله؟ و ما هي المراحل التي مر منها؟ ...
و إذا كان مما لا شك فيه أن الحلقة الأولى بين المسلمين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الصحابة ، فهل دخل الصحابة إلى الغرب الإسلامي ؟ و هل نعرف منهم أحدا ؟ و هل لدينا أسانيد متصلة بهم ؟ ونزيد فنسأل: ألا يوجد من بين الصحابة مغاربة ؟ ونتساءل بعد الصحابة عن التابعين بمثل ذلك ؟
و الظاهر أن دخول الحديث إلى بلاد الغرب الإسلامي، بدأ مقترنا بالفتوحات الإسلامية لهذه البلدان بالتتابع، في نحو ستة عقود من الزمن ابتداء من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه{ 23-36هـ} إلى أواخر القرن الهجري الأول {92هـ} تاريخ فتح الأندلس على يد طارق بن زياد .
ويدل على دخول الحديث خلال هذه المدة أن جيش عبد الله بن أبي سرح كان أكثره من الصحابة كما أنه كان في جيش عقبة بن نافع بعد ذلك خمسة و عشرون صحابيا أو أكثر
وكان من بين هؤلاء الصحابة جميعا محدثون كبار، منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس و عبد الله بن عمرو بن العاص و هم من علماء الصحابة و من المكثرين لرواية الحديث، كما كان إلى جانبهم عبد الله بن الزبير و أبو ذر الغفاري و عبد الله بن أبي سرح و عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق و سلمة بن الأكوع و بسر بن أرطأة و غيرهم
كما تدل على دخول الحديث مع الفتوحات الإسلامية وصية عقبة لأبنائه :يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا من ثقة
ثم توالى دخول الصحابة إلى بلاد الغرب بشكل أقل في المراحل التالية و كان نصيب إفريقية من ذلك في المقام الأول ، و وصل منهم إلى المغرب الأقصى حسب صاحب الاستقصا عدد غير يسير و في ذلك نظر، في حين لم يدخل الأندلس من الصحابة سوى المنيذر الإفريقي حسب عبد الملك بن حبيب فيما نقله ابن الأبار في التكملة و ابن عبد الملك المراكشي في الذيل و التكملة على خلاف في ذلك وعبد الملك بن حبيب {ت238هـ} من أوائل المصنفين في الصحابة
و لا يفوتنا في هذا السياق أن نشير إلى قضية شائعة في بعض بلاد الغرب الإسلامي لا تخلو من تشويش على الناس خصوصا مع الخوض فيها بغير علم و هي القول بأن هناك صحابة مغاربة وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثل سبعة رجراجة من المغرب الأقصى، وعشرة زواوة من المغرب الأدنى، و هو موضوع أُثير قديما ثم تجدد على عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل، ليعود في العصر الحاضر إلى دائرة الضوء بشكل متهافت ...
في كتاب الأنساب لصالح بن عبد الحليم {ت 712هـ} قال :"سمعت أبي رحمة الله عليه مرارا يقول ذهب رجال من أهل المغرب حتى وصلوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فآمنوا به "
و في الحلل السندسية في الأخبار التونسية لمحمد بن محمد الأندلسي الوزير السراج {ت 1149هـ} قال :" حدثني شيخنا أبو العباس أحمد بن بُرناز قال : أخبرني شيخنا سيدي أحمد المغربي في أيام قراءتي عليه ببلاد زواوة : أن ببلاد المغرب مقبرة فيها عشرة من الصحابة بعثهم أهل المغرب رسلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فدخلوا مسجده الشريف فلما وقفوا سألوا عنه صلى الله عليه و سلم بلسانهم :" أذان آمازان إيربي " و هي كلمة بربرية : فآذان معناها أين ؟ و آمازان معناها رسول و إيربي معناه ربي فأجابهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله "آشكاب ’" معناه - و الله أعلم - أي شيء تريدون ؟
و نقل الزياني {ت 1249هـ} في الترجمانة الكبرى أن أول من أدخل الإسلام إلى المغرب رجال رقراقة السبعة من المصامدة ، و قيل كانوا اثنا عشر رجلا اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه و سلم و كلمهم باللسان البربري
و إذا كانت هذه الأخبار لا تصح بمقاييس المحدثين في أعيانها لانقطاعها ،فإنه في الوقت ذاته لا يمكن نفي وصول بعض أهل المغرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بدليل هذا الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال : "كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام و رسول الله صلى الله عليه و سلم قاعد قال : فقالت لي نفسي ائتهم فقم بينهم و بينه لا يغتالونه ، قال : ثم قلت لعله نجي معهم فأتيتهم فقمن بينهم و بينه قال : فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي قال : " تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ، ثم فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله" قال : فقال نافع : يا جابر لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم "
راوي الحديث هو نافع بن عتبة بن أبي وقاص أسلم يوم فتح مكة و كان فتحها في السنة الثامنة للهجرة و لم يغز بعدها النبي صلى الله عليه و سلم إلا ثلاث غزوات : حنين و الطائف و تبوك و في تبوك وفدت على رسول الله الوفود
المهم أنه ليس هناك ما يمنع من وجود صحابة مغاربة إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم توفي و الصحابة ما يقرب من مائة ألف إنسان و قيل أكثر من ذلك ، مع العلم أنه لم يبلغ ما ألف من مصنفات في تراجم الصحابة عشرة آلاف صحابي
قال ابن عبد الملك و هو يترجم المنيذر الإفريقي :"له صحبة ، دخل الأندلس فيما ذكر عبد الملك بن حبيب حكاه عنه الرازي و لم يذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر و لا غيره ممن ألف في الصحابة و إنما لم يذكروا ذلك و الله أعلم لبعد الأمد في استفتاح الأندلس عن وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم... وذكر ابن خلدون في تاريخه مقتل عقبة بن نافع و أصحابه و أنه لم يفلت منهم أحد و كانوا زهاء ثلاثمائة من كبار الصحابة و التابعين استشهدوا في مصرع واحد ثم قال : و أجداث الصحابة رضي الله عنهم و أولئك الشهداء بمكانهم من أرض الزاب لهذا العهد، و قد جعل على قبورهم اسنمة ثم جصصت واتخذ على المكان مسجد عرف باسم عقبة
مع العلم أنه لم يبدأ التصنيف في الصحابة إلا في أواخر القرن الثاني مع وكيع بن الجراح{ت197هـ} و من المؤلفات الأخيرة كتاب "حياة الصحابة" لمحمد بن يوسف الكاندهلوي العلامة المحدث الهندي {ت 1383هـ}
أما التابعون الذين دخلوا إلى بلاد المغرب فعددهم كبير و كان من بينهم محدثون كالمغيرة ابن أبي بردة خرج له مالك في الموطأ و الترمذي في جامعه و حبان بن أبي جبلة و غيرهما و من التابعين الداخلين إلى بلاد المغرب أعضاء البعثة العلمية العمرية نسبة إلى عمر بن عبد العزيز و كانت تتكون من عشرة من التابعين قاموا بتعليم المغاربة القرآن و لغته .. مع الإشارة إلى أنه كان من بينهم المحدث "إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر" الذي قال: "ينبغي أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفظ القرآن"
و في حين ذكر ابن الفرضي أنه دخل إلى الأندلس ستة من التابعين منهم موسى بن نصير و حنش الصنعاني، ذهب ابن بشكوال إلى أنهم أكثر من ذلك في كتاب سماه" التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين "
ومن التابعين في المغرب شاكر صاحب عقبة بن نافع ذكره التادلي في التشوف و ابن عذاري في البيان المغرب، وللشيخ عبد الحي الكتاني في رباط شاكر مقالة قيمة بعنوان " أشرف بقعة و أقدس بناحية مراكش - نشرت بمجلة المغرب - ربيع 2 - جمادى 1355 = يونيه يوليوز 1936
ومن التابعين المغاربة عكرمة مولى ابن عباس و منهم نافع مولى ابن عمر: قال الحافظ ابن عبد البر:" قيل كان أصله من المغرب أصابه عبد الله بن عمر في غزاته "
لكن على الرغم من دخول بعض الصحابة و عدد من التابعين إلى بلاد الغرب الإسلامي فإنه لم يتيسر ظهور أي لون من النشاط الحديثي في العقود الأولى التي تلت الفتح لأسباب من أهمها حاجز اللغة الذي لا شك أنه تطلب وقتا لتجاوزه ، ثم اشتغال الفاتحين بالجهاد ، و منها بعد المسافة بين بلاد المغرب ومراكز الرواية و السنن في المشرق، والاقتصار في البداية على تعليم القرآن فقط ،حتى قد قيل إن القرآن كان في الأندلس في أول الأمر المصدر الوحيد للتشريع و لم يتم اللجوء إلى الاستعانة بسنن الرسول صلى الله عليه و سلم إلا بعد احتكاك المسلمين بنظم الشعوب المفتوحة في المشرق و المغرب حين وجدوا أنفسهم بذلك أمام مشاكل تشريعية معقدة و عن هذه الاستعانة بالسنة نشأت المذاهب الفقهية
و مهما يكن فقد دخل الحديث إلى بلاد الغرب الإسلامي على مراحل وعبر قنوات أساسية من أهمها :
أولا - المذاهب الفقهية : كان المغاربة في صدر الإسلام على مذهب جمهور السلف من الأئمة ، و ربما بعثوا إلى المشرق من يسأل لهم عن بعض القضايا التي تعترضهم في حياتهم اليومية قبل ظهور المذاهب الفقهية
ثانيا - الرحلة
ثالثا – الكتب
مع الإشارة إلى أن الحديث ظل في البداية لا يلقى ما يستحق من عناية الناس واهتمامهم به فكان من يعرف العلم يبقى في صدره لا يسألونه عنه فيموت به مثل عبد الرحمن بن زياد بن أنعم على حد قول سحنون
و مثل ذلك قول يحيى بن سلام - بتشديد اللام - التميمي لابنه :" يا بني رويت ستة آلاف حديث أو ثمانية آلاف حديث لم يسألني عنها أحد و لم أحدث بها أحدا "
و عندما لقي ابن وضاح في رحلته إلى المشرق يحيى بن معين سأله هذا الأخير :جمعتم حديث معاوية بن صالح ؟ قال ابن وضاح : لا. قال يحيى: و ما منعكم من ذلك ؟ قال : قدم بلدا لم يكن أهله يومئذ أهل علم ، قال يحيى : أضعتم و الله علما عظيما "
و لعل من أسباب تأخر الإقبال على الحديث بالغرب الإسلامي ما كان مالك يوجه تلامذته إليه من الإقلال من الرواية كقوله :" ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم نور يضعه الله في القلوب "
المحور الثاني – الحركة الحديثية بجامع ابن يوسف بمراكش
فعلى الرغم من أنه لا يمكن فصل الأندلس عنه و أن عددا من مشاهير محدثي الأندلس ينحدرون من أصول مغربية فإن ما تجدر الإشارة إليه هو الدور الذي قام به الأدارسة في إدخال الحديث إلى المغرب فهم الذين أدخلوا الموطأ كما سيأتي، و وصف المولى إدريس الثاني بأنه كان راويا لحديث النبي صلى الله عليه و سلم و في هذا العهد نزح كثير من العرب من الأندلس و إفريقية ابتداء إلى المغرب ابتداء من سنة 189هـ كان نصيب أغمات منهم غير قليل، أوائل القرن الثالث الهجري ، بعد فرارهم من فتنة الربض بقرطبة على عهد الحكم الأموي
و سينجب المغرب بعد ذلك أعلاما كبارا كان لهم فضل إدخال الحديث ونشره في الغرب الإسلامي كالإمام عبد الله بن إبراهيم الأصيلي {ت392هـ} أول من أدخل صحيح البخاري إلى المغرب و الأندلس ، ثم عن طريق عمر بن الحسن الهوزني {ت512هـ}
عرف جامع ابن يوسف منذ تأسيسه إلى بداية الاستقلال، ازدهارا علميا وأدبيا ، منقطع النظير ، حيث توافد عليه العلماء – في فترات من التاريخ - من جميع أنحاء الغرب الإسلامي و من خارجه ، في وقت أضحت مراكش عاصمة الغرب الإسلامي كله ، و إحدى عواصم الخلافة السبع
ولا يمكن – على حد تعبير أستاذنا الدكتور محمد بن شريفة – "الفصل بين البيئة الثقافية في عهد المرابطين وبينها على عهد الموحدين ، فهما بيئة واحدة ، والثانية : استمرار للأولى ، وإن اختلفت الأيديولوجية المذهبية للدولتين ، وكثير من الثمرات الثقافية التي بدت واستوت ونضجت أيام الموحدين ، كانت من غرس الدولة المرابطية التي اخترمت في عنفوانها وأوجها..."
و محبة يوسف بن تاشفين و ابنه علي – من بعده – للعلم وأهله ، وما تحقق من إشعاع حضاري وثقافي متميز لمدينة مراكش على عهديهما حقيقة لم يستطع عبد الواحد المراكشي المتعاطف مع الموحدين إخفاءها ، بل قال بصراحة :" انقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله ، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم ، واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ، ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار "
و اعتنى الموحدون – بدورهم – بالعلم عناية فائقة ، وأحاطوا العلماء بكل ما يلزم من التكريم والرعاية ، بدءا بعبد المومن بن علي و مرورا بابنه و خلفه أبي يعقوب يوسف ثم حفيده يعقوب المنصور بن يوسف ، ومن جاء بعهم من الملوك والأمراء كما سيأتي...
يبدو أنه لا يستقيم الحديث عن الجامع اليوسفي، دون الحديث عن مؤسسه و بانيه ، وهو أمير المسلمين أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين الصنهاجي اللمتوني {477- 537هـ} تعلق بالحديث النبوي و اهتم به وستجاز أبا عبد الله محمد الخولاني جميع رواياته لعلو إسناده فأجازه ، و كان يبحث عن العلماء في السند العالي ليجيزوه
و على سننه سار حفيده إبراهيم بن تاشفين الذي كان يبعث في طلب العالم المحدث أبي علي الصدفي ليسمع منه الحديث النبوي و على ذلك كان عدد من العلماء أمثال: مالك بن وهيب {ت525هـ} ذكره ابن دحية في طبقات المحدثين و من مؤلفاته الحديثية اختصاره كتاب التمهيد لابن عبد البر اختصارا أجاد فيه و سماه " التبصير" رتبه على التراجم ، و له كتاب " قراصنة الذهب في ذكر لئام العرب "
و منهم ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني يكنى أبا عمر: " عني بالرواية و سماع العلم ، و كانت له رحلة حج فيها و سمع بمكة من أبي عبد الله الطبري صحيح مسلم في سنة سبع و تسعين و أربعمائة ، و سمع أيضا من أبي أم مكتوم بن أبي ذر الهروي صحيح البخاري في أصل أبيه أبي ذر و ابتاعه منه بمال جليل و هو الذي أوصله إلى المغرب ..."
و منهم داود بن عمر اللمتوني و أبو بكر ابن العربي و أبو الفضل عياض ومحمد بن عبد الله القيسي {ت 570هـ} ومحمد بن خلف بن عميرة {ت576هـ} و غيرهم
ولا يلتفت إلى مثل دعوى صاحب المعجب أنه في العهد المرابطي لم يبق عمل بكتاب الله و سنة رسوله
و ما عقب به ألفرد بل على كلام عبد الواحد المراكشي عندما قال : " من هذا النص يتبين لنا بوضوح أنه في عهد المرابطين و بأمر منهم هجرت دراسة "الأصول"في الدين والشريعة ، وخصوصا دراسة الحديث، بل كانت مذمومة في المغرب، فلم يروا فيها فائدة ، و نظر إليها الفقهاء نظرة الكراهية "
وزاد فقال :" و مثل هذه الحجج - جواب الإمام مالك عن معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} - أدت إلى هجر دراسة تأويل القرآن وجرى ذلك بعينه فيما يتعلق بدراسة الحديث ، فأهمل بوصفه لا فائدة منه "
و أضاف قائلا :" و هكذا فإنه في أيام حكم المرابطين لم يكن لسكان المغرب من مرشدين روحيين غير فقهاء ضيقي العقول ، فقهاء كان علمهم مقصورا على المذهب المالكي ، و هؤلاء الفقهاء نزلوا بالدراسات الدينية إلى مستوى دراسات قواعد التشريع مهملين دراسة العقائد ، و استطاعوا بفضل تأييد الأمير المطلق لهم، واحترام الشعب لأشخاصهم، أن يفتوا بجواز أمور ، تتنافى مع الشرع ..."
و كل هذا باطل و مردود على قائليه، كما تدل عليه أسماء الأعلام الذين عاشوا في هذا العصر و الذين ذكرنا - فيما تقدم - جملة منهم .
العصر الموحدي :
قال في المعجب في سياق الحديث عن الموحدين:" و قد جرت عادتهم بالكتب إلى البلاد و استجلاب العلماء إلى حضرتهم من أهل كل فن و خاصة أهل علم النظر ، وسموهم طلبة الحضر فهم يكثرون في بعض الأوقات و يقلون ، و صنف آخر ممن عني بالعلم من المصامدة يسمون طلبة الموحدين ، و لابد في كل مجلس عام أو خاص يجلسه الخليفة منهم ، من حضور هؤلاء الطلبة الأشياخ منهم ..."
قال في القرطاس في سياق الحديث عن المهدي بن تومرت :"كان ... راويا لحديث النبي صلى الله عليه و سلم حافظا له "
و عن عبد المومن بن علي الكومي :" كان ... حافظا لحديث النبي صلى الله عليه و سلم متقن الرواية "
و قال صاحب المعجب في سياق حديثه عن أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن :" صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين – الشك مني – إما البخاري أو مسلم ، و أغلب ظني أنه البخاري حفظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن "
و ذكر الدكتور إبراهيم حركات أن "من ملوك الموحدين الذين ناصروا مدرسة الحديث أو كان لهم معرفة واسعة بالحديث بعد عبد المومن ، كل من أبي يوسف و أبي يعقوب (والد أبي يوسف) و إدريس المامون ، و قد كتب أبو يوسف و هو يعرف بيعقوب المنصور : الترغيب في الأحاديث الصحيحة المتعلقة بالعبادات ، و هو مصنف يحيل الجمهور الشعبي المسلم مباشرة على النصوص النبوية ، رفعا لبعض التأويلات و الأحكام المتضاربة في فقه الفروع "
وفي القرطاس أن إدريس المامون الموحدي كان "فقيها حافظا لحديث النبي صلى الله عليه و سلم ضابطا للرواية "
و ذكر العلامة المنوني في سياق الحديث عن ازدهار الحديث في عهد الموحدين أن :" من الأدلة لنفاق علم الحديث في هذا العهد قصة امتحان ابن عات المذكورة في عنوان الدراية و النفح ببيت الطلبة بمراكش ، فإنها تدل بدورها على عناية القوم بالحديث ، وامتحان الواردين عليهم من أهله و لقد كان من أثر هذه النهضة أن ظهر بالمغرب محدثون كبار "
ثم ذكر منهم : ابن دحية الكلبي و عبد الرحمن بن محمد من أهل تامسنا بالمغرب الأقصى يعرف بالمكولي و أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن طاهر الحسيني الشريف الصقلي الفاسي ، و أبا الحسن ابن القطان ، و أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن هارون المرادي الفاسي ، و أبا عبد الله محمد بن يحيى ابن صاف يعرف بالمواق المراكشي ثم الفاسي
إحداث المجالس العلمية بالمغرب :
لعل أقدم مجلس علمي بارز بالمغرب هو ذلك المجلس الذي انعقد في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ، بجامع ابن يوسف لمناظرة محمد المهدي بن تومرت ، ونظرا لما أحاط بذلك اللقاء المشهود من مبالغة وغموض ، آثرنا تأجيله وتخصيص حلقات خاصة به ، و حسبنا هنا أن نشير إلى ما جاء بعده من مجالس ...
المهم هو أنه في هذا العهد انطلقت المجالس العلمية بالمغرب ، وكانت تسمى على عهد الموحدين بالمجامع ، ويحضرها عدد من كبار علماء المغرب والوافدين عليه من أقطار أخرى وفق ترتيب معلوم
كانت تنعقد تحت الرئاسة الفعلية للخليفة الذي يفتتح المجلس بنفسه ، بمسألة علمية معينة ، يلقيها مباشرة أو بالإشارة ، ثم يعود في النهاية ليتولى الختم بالدعاء و الوزير يؤمن جهرا لإسماع من بعد من الناس
و استدعي لهذه المجالس فطاحل العلماء من المغرب والأندلس كأبي زيد السهيلي ، وأبي عبد الله بن الفخار ، و أبي محمد ابن الفرس ، و أبي محمد بن ذي النون الحجري وأضرابهم ...
ومن الطريف المفيد أنه كان من علماء هذه المجالس عالم اسمه يحيى بن أبي الحجاج {ت 590هـ} أحضره المنصور الموحدي مجالسه بعد تحقق ما استخرجه من تفسير ابن برجان من خلال كلامه على سورة الروم { الم غلبت الروم } " أن فتح بيت المقدس سيكون في الوقت الذي فتح فيه على المسلمين ، حيث وضح و عين ما كان أغمض فيه ابن برجان و أبهم ، فبقي المنصور مرتقبا و معتنيا في نفسه به حتى كان ذلك على حسب ما قاله "
إحداث المجالس العلمية بالمغرب
إلى جانب المجامع السلطانية ،التي سبق الحديث عنها في الحلقة الماضية ، كانت هناك مجامع أميرية ، كمجالس الأمير أبي زكرياء يحيى بن يوسف بن عبد المومن الموحدي - على سبيل المثال - ، و ممن كان يحضرها عبد الواحد المراكشي صاحب كتاب " المعجب في تلخيص أخبار المغرب "
كما كانت هناك مجالس خاصة ، يعقدها بعض العلماء في بيوتهم في إطار حلقات علمية ، كمجلس علي بن عبد الله الأنصاري أبي الحسن بن قطرال {ت 651هـ } الذي كان كثير من طلبة العلم بمدينة مراكش ينتابونه - بداره - للرواية عنه
أقدم نصين في صفة المجالس الحديثية بالمغرب
أحاط ملوك الموحدين المجالس العلمية عامة ، ومجالس الحديث بصفة خاصة بعناية فائقة ، وكان من أبرز محدثي المغرب الكبار في هذه الحقبة ، و أبعدهم صيتا ، أبو الحسن ابن القطان الكتامي الفاسي المراكشي { 562 - 628 هـ }
كان يعقوب المنصور يوثره على غيره من طبقته ، و من أجل ذلك عينه لقراءة الحديث الذي يقرأ بين يديه ، ومن الطريف اللطيف ، أنه كانت العادة اتباع القارئ البسملة والتصلية ، بالدعاء للمنصور بالرضى ، لكن ابن القطان حين فرغ من التصلية ، عرضت له حبسة كانت تعتريه أحيانا ، فمكث قليلا ثم قال : و رضي الله عنكم ، فاستبشر لذلك المنصور و قال : "هكذا ينبغي أن يقرأ الحديث من يقرأه بين أيدينا ، فاصلا بين الدعاء لنا ، والتصلية المتبعة البسملة ، وبين حديث النبي صلى الله عليه و سلم "
و كان يتولى السرد في هذه المجالس ، علماء أجلاء ، مثل أبي عبد الله محمد العجلاني الفاسي {ت 609 هـ } فقد كان المعين لقراءة الحديث بين يدي الأمراء و السلاطين ...
و لعل هذا النص و الذي قبله ، أقدم ما وصل إلينا في وصف المجالس الحديثية الملوكية بالمغرب ، وعلى هذه السنة التي سنها الموحدون ، سار ملوك المرينيين ، ثم السعديين والعلويين إلى الآن ...
من العلماء المدعوين لنشر الحديث بمراكش :
1 ابن الفخار المالقي {ت590هـ} أخذ عنه بمراكش علي بن فخار
2 عبد الله بن محمد ابن ذي النون الحجري {ت 591هـ}..... استدعاه المنصور إلى مراكش ، وأجلسه بجامعها الأعظم لإسماع الحديث النبوي ، فأسمع في نحو سنة خمسة و خمسين ديوانا
3 أبو عمر أحمد بن هارون ابن عات الشاطبي {ت 609هـ} قال في عنوان الدراية في سياق الحديث عن أبي الخطاب ابن دحية الكلبي وامتحانه في المشرق في أحاديث بأسانيد ذكروها له حولوا متونها ، و أنه أعاد الأمور إلى نصابها :" وأخبرني شيخنا أبو عبد الله الخطيب أن مثل هذه الحكاية اتفقت لأبي عمر ابن عات بمراكش في كتاب مسلم ببيت الطلبة منها ..
4 أبو الحسن علي بن عبد الله ابن قطرال {ت651هـ} كان يستضعف القول بالإجازة
5 أبو الحسن ابن القطان {ت628هـ}
6 عمر بن عبد الله ابن صمع القرشي {ت598هـ}
7 عمر بن محمد القيسي {ت626هـ}
8 عمر بن محمد الصنهاجي {ت622هـ}
9 أبو الحسن علي بن محمد ابن الحصار { كان حيا سنة 606هـ} كان محدثا راوية ... ألف كتاب "المدارك في رفع الموقوف و وصل المقطوع من حديث مالك " سكن مدينة مراكش
10 عبد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصاري {ت616هـ}
11 أبو بكر محمد بن أحمد ابن محرز الزهري {ت655هـ}
12 أبو عبد الله بن المواق المراكشي {ت642ه} قام بالتعقيب على نقد شيخه ابن القطان (بيان الوهم و الإيهام)
13 - أبو بكر بن زهر الوزير الطبيب {ت595هـ} " ذكر عنه ابن الجد أنه كان يحفظ كتاب البخاري بأسانيده "
14 - عمر بن مودود بن عمر شرف الدين أبو البركات الفارسي{ت639هـ} ... ورد مراكش في حدود 635 هـ أسمع الحديث و كتب الرقائق و التصوف ، روى عنه جماعة من أهلها و من المستوطنين بها من غيرهم ...
المحور الثاني : دخول الموطأ إلى بلاد الغرب الإسلامي و عناية المغاربة به وينقسم إلى مبحثين :
أولا - عناية المغاربة بالموطأ :
بدأت عناية المغاربة بالموطأ في حياة مؤلفه إمام دار الهجرة مالك بن أنس بفضل ما يسر الله لذلك من رحلات طلبة العلم المغاربة إليه أولا، ثم بتبني الدولة الأموية في الأندلس مذهب مالك بعد مرحلة أوزاعية لم تعمر طويلا و بتبني الدولة الإدريسية بالمغرب له كذلك منذ تأسيسها على يد إدريس بن عبد الله {ت177هـ} و لعله أول من أدخل الموطأ إلى المغرب فيما يظهر كما يستفاد من مثل قوله :" نحن أحق باتباع مالك وقراءة كتابه " ثم تلاه عامر بن محمد بن سعيد القيسي الأندلسي ، القادم من قرطبة على إثر معركة الربض ، وهو قاضي إدريس الثاني سمع من مالك وسفيان الثوري وروى عنهما كثيرا ... و هذا الرجل لم نقف له على ترجمة ، وليس بين أيدينا من المعلومات عنه ، أكثر مما ذكره صاحب روض القرطاس ،ثم صاحب جذوة الاقتباس
و تجدر الإشارة إلى أنه عن طريق المغرب الأقصى عرف المغرب الأوسط الموطأ و كان دخول الموطأ إلى بلاد الغرب الإسلامي ، في وقت متقارب جدا ، على يد أمثال علي بن زياد التونسي العبسي (ت183هـ) و الغازي بن قيس الأندلسي {ت 199 هـ}شهد مالكا وهو يؤلفه ثم زياد بن عبد الرحمن اللخمي الأندلسي، المعروف بشبطون{ت204 هـ} وهو "أول من أدخل الأندلس موطأ مالك متقنا بالسماع منه - قال القاضي عياض - ثم تلاه يحيى بن يحيى و هو كما هو معلوم روى عن شبطون الموطا ، قبل رحلته إلى مالك الذي أدركه فروى عنه الموطا، إلا أبوابا في كتاب الاعتكاف شك في سماعها من مالك ، فأبقى روايته فيها عن زياد عن مالك ،و أدخله آخرون غير من ذكر لكن أشهرهم كان يحيى بن يحيى الليثي ...
و قد اقتصرنا في هذه المشاركة على رواية يحيى بن يحيى اقتداء بأسلافنا من علماء هذه الأمة في الغرب الإسلامي و في طليعتهم الحافظ ابن عبد البر كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، مع العلم أنها قد و صلت إلى الغرب الإسلامي جل روايات الموطأ التي كانت معروفة ومتداولة بين العلماء في العصور الذهبية لعلوم الحديث رواية و دراية ، منذ زمن مالك إلى ما قبل ضعف المسلمين و احتلال بلدانهم في القرون الأخيرة من ذلك :- موطأ عبد الله بن وهب المصري {ت197هـ}: عمر بن يوسف بن عمر من أهل بجانة ، سمع منه موطأ ابن وهب ورأيت نسخته منه حدث بها عن ابن فطيس وهي رواية سحنون - توفي نحو 370هـ
- موطأ القعنبي( عبد الله بن مسلمة{ ت220هـ} : أحمد بن أبي قُومس من أهل قرطبة شارك أحمد بن خالد في رحلته ، و في كتابه من موطأ القعنبي عقد هذا الأخير سماعه
- عبد السلام بن السمع رحل إلى المشرق ، و سمع بجدة الحسين بن حميد النجيرمي ... و موطأ القعنبي {ت387هـ}
- موطأ ابن بكير ( يحيى بن عبد الله بن بكير {ت231هـ}:عبد الله بن الحسن المعروف بابن السَنَدي من أهل وشقة ، سمع بقرطبة و رحل فلقي بإفريقية يحيى بن عمر و حمل عنه موطأ مالك رواية ابن بكير و انصرف إلى بلده فكان عظيم الوجاهة فيه {ت335هـ} وإلى رواية يحيى بن عبد الله بن بكير ينتهي سند مهدي الموحدين في محاذي الموطأ كما هو معلوم
- موطأ أبي مصعب بن أحمد بن بكر الزهري {ت241هـ}:
- روايات الموطأ في التعريف لابن الحذاء
- روايات أبي العباس الداني
- ثم توالت عناية المغاربة بالموطأ عبر تاريخ المغرب و تجلت في عدة مظاهر نذكر منها في هذه العجالة بعض رؤوس أقلام :
1- نسخ ملوكية كتلكم النسخة لتي كتبت بخط يحيى بن محمد بن عباد اللخمي - نجل المعتمد بن عباد - لخزانة أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ، و تلكم النسخة الأخرى التي كتبت بخط الخليفة الموحدي عمر المرتضى في سفرين بخطه من أصل عتيق مقروء على المشيخة
- حمله بين يدي الملوك في الحروب و الأسفار : في سياق حديثه عن عناية ملوك الموحدين بالمصحف الإمام، وفق الترتيب الذي أشار إليه أبو المطرف بن عميرة ، في قطعة نثرية فنية له ، في وصف المصحف، يقول ابن عبد الملك المراكشي :" إن أمراء بني عبد المومن ، كانوا إذا تحركوا لغزو أو سفر، جعلوا أمامهم بمقربة منهم ،راية كبيرة بيضاء ، يعتام لها أتم العصي طولا ، لترشد إلى موضع السلطان من العسكر، فيهتدي إليه من أراد قصده ... و يليها المصحف الكريم ،محمولا على أضخم بختي يوجد ،و قد جعل في قبة حرير،ّ ارتفاعها نحو عشرة أشبار، و عرض كل وجه من وجوهها الأربع ،نحو أربعة أشبار، و بأعلاها جامور محكم الصنعة ،على نحو جوامير الأخبية ، من أتقن ما أنت راء جمالا ،و في أعلى كل ركن من أركان القبة ،عصية ركب فيها سنين مذهب ،و قد ربطت بها راية حرير، لا تزال تخفق عذباتها بأقل ريح ،و لو لم يكن إلا بهز الجمل إياها في سيره ،و يسمى جمل المصحف ،و يتبعه بغل من أفره البغال ، يحمل ربعة كبيرة ، مربعة الشكل و قد غشيت كذلك بحرير، و ضمنت الموطأ لمالك ،و صحيحي البخاري و مسلم، وسنني أبي داود والنسائي ،وجامع أبي عيسى الترمذي، و كان عوام ذلك الوقت ،يقولون فيه بغل المصحف و هو غلط منهم "
يعني مثل قول عبد الواحد المراكشي : إن الموحدين كانوا يحملون المصحف :"على ناقة حمراء عليها من الحلي النفيس و ثياب الديباج الفاخرة ما يعدل أموالا طائلة " ثم يقول بعد ذلك :" و خلف الناقة بغل محلى أيضا عليه مصحف آخر يقال إنه بخط ابن تومرت دون مصحف عثمان في الجرم "
- حفظه و ختمه : قال المقري :" كان بخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية ،في كل واحدة منبر وفقيه مقلص، تكون الفتوى في الأحكام و الشرائع له وكان لا يجعل القالص عندهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ ، :و قيل من حفظ عشرة آلاف حديث ،عن النبي صلى الله عليه وسلم ، و حفظ المدونة ..."
- محمد بن إبراهيم بن خلف الأنصاري أبو عبد الله ابن الفخار(ت590هـ) قال ابن أخته الطبيب أبو محمد ابن الفخار :" سافرت مع خالي أبي عبد الله من مالقة إلى مراكش (سنة 570هـ)حين استدعي إليها ، و كان ذلك في فصل الشتاء وصادفنا الأمطار و الأوحال ، فكان مع ذلك لا يفتر عن القراءة ليلا ولا نهارا مستظهرا من حفظه ، و سمعته ليلة قد ختم و دعا فتوهمت أنه ختم القرآن فسألته فقال : ختمت الموطأ"
- تدريس الموطأ بالغرب الإسلامي :
كانت لتدريس الموطأ و قراءته بالغرب الإسلامي ،مجالس حافلة في البيوت والمساجد و الحوانيت في أوقات معلومة لا يتسع المجال لذكرها و قد جمعت منها الكثير بفضل الله ...
- و من الكشف و الشفوف ما رواه التادلي في التشوف عن عبد الرحمن بن إسماعيل قال : زرت أبا حفص عمر بن هارون و كانت عندي مخلاة فيها موطأ مالك بن أنس رحمه الله تعالى فقال لي أبو حفص أنت ضيف و لو كان عندي خديم يقوم بك لبت عندي ولكني منقطع هنا و ليس عندي من يقوم بالضيف، ثم قال لي: أحق ما قريء كتاب الله عز وجل و الذي في مخلاتك يعني الموطأ و ما رآه و لا أعلمته به"
ثانيا: أسانيد الموطأ :
لا تخفى أهمية الأسانيد عند أهل الحديث فعلم الرجال كما هو معلوم نصف علم الحديث ، و قد آثرنا في هذه المشاركة أن ينصب الكلام في هذا المحور على أسانيد المغاربة إلى الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي على وجه الخصوص
و اسمحوا لي قبل الحديث في هذه النقطة أن نمهد لهذا المبحث بهذه النادرة الدالة على مدى عناية المغاربة بالأسانيد ...
قال أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن البطروجي {ت542هـ } وهو بمقبرة خارج الربض الشرقي من قرطبة : حدثني صاحب هذا القبر وأشار الى قبر أبي عبد الله محمد بن فرج ابن الطلاع {ت497ه} عن صاحب هذا القبر وأشار الى قبر يونس بن عبد الله بن مغيث {ت429ه}عن صاحب هذا القبر وأشار الى قبر أبي عيسى يحيي بن عبد الله بن يحيي بن يحيي بن يحيي الليثي {ت367ه}عن صاحب هذا القبر وأشار الى قبر عبيد الله بن يحيي {ت298ه}عن صاحب هذا القبر وأشار الى قبر يحيي بن يحيي الليثي{ت234ه} عن مالك {ت179ه} في الموطا
و قد اهتم المسلمون بالإسناد منذ عصر الصحابة ، و غير صحيح ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن المسلمين لم يهتموا بالإسناد لحفظ الحديث إلا في زمن متأخر عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه رضي الله عنهم مستدلين بمثل قول ابن سيرين:"لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم فينظر أهل السنة فيؤخذ حديثهم و ينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم " الذي ربما تعمد تأويله المستشرق الألماني يوسف هورفست ، وروبنسون حين ذهبا إلى أن المقصود بالفتنة في كلام ابن سيرين ما كان من اقتتال بين عبد الله بن الزبير و بين الأمويين
في حين لم يكن ابن سيرين يعني أكثر من أن العناية بالإسناد و الاهتمام بالرجال تضاعف بعد استشهاد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، مع العلم أن التابعي إذا قال :كانوا يفعلون كذا و كانوا يقولون كذا ، و لا يرون بذلك بأسا، فالظاهر إضافته إلى الصحابة إلا أن يقوم دليل على غير ذلك
و ما رواه مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال حين خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة : إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عل وسلم أهل بعمرة عام الحديبية "
حيث أنكر على أساسه شاخت أن يكون الإسناد بدأ قبل القرن الهجري الثاني رافضا قبول نسبة قول ابن سيرين إليه معتبرا ذلك موضوعا عليه مستدلا بكون ابن سيرين توفي عام 110هـ بينما هاجت الفتنة سنة 126هـ يريد فتنة مقتل الوليد بن يزيد الأموي
ولم تعن الأمم السابقة في النقل والرواية بالإسناد، ولذا وقع في رواياتهم وأخبارهم التحريف والتبديل بخلاف الأمة الإسلامية حتى جاز لأبي محمد بن حزم أن يقول : «نقل الثقة عن الثقة مع الاتصال حتى يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خَصَّ الله به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها" .
و ما نجده من غمز و لمز للأسانيد المغربية في بعض الكتابات المشرقية لا يخلو في معظمه ، من جور و تعسف تكذبه شواهد التاريخ و وقائعه ، كما بل توجد لهم أوهام قاتلة أحيانا ، مما لا يتسع المجال لاستعراض تفاصيله ويكفي في هذه العجالة من القلادة ما أحاط بالعنق كما يقولون و فيما يلي بعض غمزاتهم و لمزاتهم و كذا بعض أوهامهم و أغلاطهم
15 • قال الدارقطني :"هذا إسناد مغربي , ورجاله مجهولون ولا يصح…"(ابن الصلاح في إصلاح الغلط)
16 قال في ذيل التقييد:" ولم أر ذكر رواية أحد من المغاربة و لا رواية أحد من أهل اليمن بشيء من الكتب المذكورة في التأليف لنزول روايتهم لذلك غالبا إلا أن لجماعة من المغاربة رواية عالية في الموطأ رواية يحيى بن يحيى و غير ذلك مما أهملت ذكر روايتهم لذلك …"
قال الإمام أبو عبد الله الحطاب المغربي في شرحه على خليل وهو يسوق أسانيده إلى الكتب المصنفة :" الموطأ للإمام مالك بن أنس ولنقتصر على رواية يحيى بن يحيى الليثي لأنها أشهر رواياته وهي مما انفرد بروايتها المغاربة…"اهـ.
و دعوى نزول المغاربة في الإسناد ليس من مفردات ابن نقطة فقط ، فقد وصفهم غيره بذلك ، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ - بعد أن ذكر جماعة من الأندلسيين- :" هؤلاء المغاربة لا يكاد يقع لنا حديثهم إلا بنزول ثم هم نازلون في الإسناد فيبقى نزول على نزول وبالله الاستعانة ."
أما أوهام المشارقة و أغلاطهم في أسماء رجال المغرب فهناك أمثلة كثيرة منها في هذا الباب جمع منها العلامة الدكتور إبراهيم بن الصديق رحمه الله نماذج كثيرة في كتابه "الجرح و التعديل في المدرسة المغربية للحديث " خاصة لدى الحافظين الذهبي و ابن حجر، وتتبعنا في مقال لنا أوهام :د.محمد زينهم محمد عزب - وذ.محمود نصار في تحقيقهما لكتاب "ألقاب الصحابة و التابعين في المسندين الصحيحين" للحافظ أبي علي الحسين الجياني الغساني الأندلسي {ت 498هـ} فوجدنا منها الشيء الكثير
و الحق أنه ظهر ببلاد المغرب محدثون كبار كان منهم في الأندلس أمثال معاوية بن صالح الحمصي {ت158هـ} روى ابن وضاح عن يحيى بن يحيى الليثي قال :"أول من دخل الأندلس بالحديث معاوية بن صالح الحمصي " وهو من رجال مسلم و من تلامذته بالأندلس داود جعفر الصغير القرطبي ...
صعصعة بن سلام{ت 201هـ} و بقي بن مخلد {ت 276هـ} و محمد بن وضاح {ت287هـ}
ابن حزم و ابن عبد البر و الباجي الخ ....
- كتاب " أسانيد الموطأ المسمى تاج الحلية " لأبي محمد بن يربوع المحدث ... المدارك 2/85
و كما رحل المغاربة إلى المشرق طلبا للحديث وفد المشارقة على المغرب من أجل ذلك أو هموا به منهم : زيد ابن الحباب {ت203ه} رحل من الكوفة بالعراق إلى الأندلس للقاء معاوية بن صالح الحمصي ذكره الإمام أحمد فقال : وقد ضرب في الحديث إلى الأندلس - نقله الحميدي في الجذوة
و همَّ ابن أبي خيثمة أن يرحل إلى الأندلس ليجمع حديث معاوية بن صالح كما هم الحافظ الدارقطني {ت385هـ} بالرحلة إلى الأندلس للسماع من أبي عيسى يحيى بن عبد الله الليثي وكان قد لقي الإمام الأصيلي و قال عنه :" حدثني أبو محمد الأصيلي ولم أر مثله "
عطية بن سعيد القفصي (ت 408هـ ) الذي قرئ عليه بمكة صحيح البخاري عن الفربري – وكان الحافظ أبو العباس أحمد بن الحسن الرازي هو القارئ، وربما توقف أبو العباس، فيبادره عطية، هذا فلان بن فلان، روى عنه فلان بن فلان... ويذكر مولده وبلده... والحاضرون يتابعون في شغف، وكلهم إعجاب بحفظ وغزارة معارفه.
- أبو عمران الفاسي {430هـ}
- حافظ المغرب و المشرق أبو عمر ابن عبد البر {463هـ}
- ابن سعادة {ت522هـ} و غيرهم رحمهم الله جميعا
المحور الثالث : دخول الصحيحين إلى الغرب الإسلامي
- دخول صحيح البخاري (256هـ) إلى المغرب: كان ذلك منذ بداية القرن الرابع على يد ثلة من العلماء و الذي دخل من رواياته روايتان : رواية أبي عبد الله محمد بن يوسف الفربري {ت 320 هـ} و رواية ابراهيم بن معقل النسفي {ت 295هـ }
و من العلماء الذين أدخلوا صحيح البخاري إلى بلاد الغرب الإسلامي ابن برطال رحل سنة 341هـ ومحمد بن إسماعيل الأنصاري رحل سنة 343هـ و من أبرزهم أبو محمد الأصيلي رحل سنة 351هـ و أبو الحسن القابسي القابسي و كان ضريرا رحل مع الأصيلي و هو الذي ضبط له البخاري سماعه على المروزي بخط يده و عنهما شاعت رواية صحيح البخاري في الغرب الإسلامي و أدخله غيرهم ...
وكانت عناية المغاربة به فائقة و من مؤلفاتهم حوله :
- كتاب النصيحة في شرح صحيح البخاري للإمام أحمد بن نصر الداودي (402هـ) وهو أول شرح للصحيح -إذ استثنيا عصريه الخطابي-.
- المختصر النصيح في تهذيب الجامع الصحيح للمهلب بن أبي صفرة الأندلسي {ت435هـ}
- شرح البخاري لابن بطال علي بن خلف القرطبي (ت449)[55]
- شرح البخاري لابن أبي جمرة المعروف ببهجة النفوس (ت699 هـ)[56]
- المتجر الربيح في شرح الجامع الصحيح لابن مرزوق التلمساني (ت 842هـ
دخول صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري إلى المغرب :
دخل صحيح الإمام مسلم بن الحجاج {ت261هـ} إلى الغرب الإسلامي من خلال روايتين هما: رواية أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان النيسابوري {ت308هـ} و رواية أبي محمد بنعلي القلانسي{ت} و قد أدخل صحيح مسلم إلى بلاد الغرب الإسلامي عدد من الراحلين والوافدين من أشهرهم أحمد بن فتح ابن الرسان القرطبي {ت403هـ} رحل و لقي بمصر حمزة بن محمد الكناني الحافظ {ت357هـ} و عيره و روى عن أبي العلاء بن ماهان صحيح مسلم
و اشتهر الحافظ أبو عبد الله محمد ابن الحذاء {ت416هـ} بإدخال صحيح مسلم
قال الحافظ ابن الصلاح : " و أما القلانسي فهو أبو محمد أحمد بن علي بن الحسين بن المغيرة بن عبد الرحمن القلانسي و عت بروايته عن مسلم عند المغاربة و لم أجد له ذكرا عند غيرهم ، دخلت روايته إليهم من مصر علي يدي من رحل منهم إلى جهة المشرق كأبي عبد الله محمد بن يحيى الحذاء التميمي القرطبي و غيره "
قال ابن عطية في فهرسته : سمعت أبا عمر ابن الحذاء يقول : سمعت أبي يقول :أخبرني ثقات من أهل مصر أن أبا الحسن الدارقطني كتب إلى أهل مصر أن اكتبوا عن أبي العلاء بن ماهان كتاب مسلم الصحيح و وصف أبا العلاء بالثقة و التمييز "
و قد كانت عناية المغاربة بصحيح مسلم كبيرة حتى فضله بعضهم على صحيح البخاري، قال ابن خلدون في المقدمة: "وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به، وأكبوا عليه وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع لهم في التراجم "
وهذا التفضيل على الراجح لا يعود إلى مسألة الأصحية، وإنما لامتيازات مسلم على البخاري في التبويب والتأليف كما نقل عن ابن حزم قوله عن صحيح مسلم: " ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها أهل الوصف المشروط في الصحيح، وأيضا فإن مسلما قد اختص بجمع طرق الحديث في مكان واحد."[58]
و للمغاربة عليه شروح منها :
- المعلم بفوائد صحيح مسلم للإمام المازري {ت536 هـ}
- إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عيا ض اليحصبي {ت544 هـ }
- المفهم في شرح مسلم لأبي العباس أحمد بن إبراهيم الأنصاري {ت656هـ}
- شرح صحيح مسلم لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي جمرة {ت 598 هـ}
- مكمل إكمال الإكمال لأبي عبد الله السنوسي التلمساني {ت895 هـ}
كما صنفت كتب عديدة في رجال مسلم مثل كتاب ابن يربوع الاشبيلي {ت522هـ} المعروف ب "المنهاج في رجال مسلم بن الحجاج" [62]، وألف القاضي عياض: "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" في غريب الموطأ و الصحيحين، وجمع الحميدي{ت488 هـ} بين الصحيحين ولا يتسع المجال لأكثر من هذا ؟، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد و على ءاله وصحبه وسلم تسليما
و الله و لي التوفيق .