بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

من آداب الجدل و الحوار

تاريخ نشر المقال 16-04-19 09:57:37

    لم يكن الإكراه في يوم من الأيام سبيلا إلى الإقناع، و فرض الرأي وحسم الخلاف بين الناس، و في الوقت ذاته كسب الرهان في آخر المطاف، بل إنه كثيرا ما يزيد الطين بلة ، و الشقة هوة، مع ما يبعث عليه من حقد و كراهية، و ربما على تبييت نية الثأر والانتقام، وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ } الآية
من ثَمَّ كان الحوار و الجدل بالتي هي أحسن ، السبيل الأفضل للتفاهم و الإقناع، بعيدا عن أي تعصب أو تشنج، ودون اللجوء إلى القسر و الإكراه ، لأن الأمر لا يعدو في النهاية ما تقول حكمة ;يمكنك أن تورد الخيل الماء ، ولكنك لا تستطيع إرغامها على الشرب
و الله تعالى يقول و هو أصدق القائلين:{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} الآية و يقول { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }
و نفي الإكراه في الآية الأولى بـ لا النافية للجنس، نفي شامل مستغرق لجميع أنواعه وصوره وأفراده ، و يستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، و إنما يكون بالبيان والبرهان.
من هذا المنطلق، و بأسلوب أهل التفسير و البيان، على أساس من الفهم البسيط والحجة الموصلة إلى الحقيقة الناصعة، يمكن الوقوف على بعض أخلاقيات الجدل والحوار في القرآن الكريم
أولا – الجدل - 1
الجدل والجدال : المفاوضة على سبيل المنازعة و المغالبة ، و أصله كما قال الراغب من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ... فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه ، وقيل : الأصل في الجدال : الصراع و إسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة. والجدل قد يكون بالباطل ليصرف عن الحق، و قد يكون بالحق ليدحض الباطل والمقام هو الذي يعين المراد ...
يقول الله تعالى :{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}
تفيد هذه الآية أن الإنسان يميل بطبعه إلى الجدل و المراء، و المخاصمة و المعارضة للحق بالباطل، إلا من أخذ الله بيده، و وفقه إلى طريق النجاة ...
في الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه و فاطمة رضي الله عنهما ليلا، فقال: ألا تصليان ؟ قلت: إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف النبي صلى الله عليه و سلم، و لم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته و هو مدبر يضرب فخذه و هو يقول :{وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}
في فتح الباري أن ابن بطال نقل عن المهلب بن أبي صفرة قال : فيه أنه ليس للإمام أن يشدد في النوافل، حيث قنع صلى الله عليه وسلم بقول علي رضي الله عنه : أنفسنا بيد الله لأنه كلام صحيح في العذر عن التنفل، ولو كان فرضا ما عذره .
الجدل _ 2 ( نظرات ثاقبة للفخر الرازي)
قال الله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
لم أجد في تفسير هذه الآية أوفى من قول الإمام الفخر الرازي الآتي و هو كلام جامع مانع إن شاء الله :
قال رحمه الله : لما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض، وجب أن تكون طرقاً متغايرة متباينة، وما رأيت للمفسرين فيه كلاماً ملخصاً مضبوطاً
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة ، والمقصود من ذكر الحجة ، إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين ، وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه .
أما القسم الأول : فينقسم أيضاً إلى قسمين : لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية مبرأة عن احتمال النقيض ، وإما أن لا تكون كذلك ، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل ، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة . أولها : الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية ، وذلك هو المسمى بالحكمة ، وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات ، وهي التي قال الله في صفتها : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرا }.
وثانيها : الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وهي الموعظة الحسنة . وثالثها : الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم ، وذلك هو الجدل ، ثم هذا الجدل على قسمين :
القسم الأول : أن يكون دليلاً مركباً من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور ، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل ، وهذا الجدل هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن .
والقسم الثاني : أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب ، والحيل الباطلة ، والطرق الفاسدة ، وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل إنما اللائق بهم هو القسم الأول ، وذلك هو المراد بقوله تعالى : { وجادلهم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية .
إذا عرفت هذا فنقول : أهل العلم ثلاث طوائف : الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة ، والقسم الثاني الذي تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام ، وهذان القسمان هما الطرفان . فالأول : هو طرف الكمال ، والثاني : طرف النقصان .
وأما القسم الثاني : فهو الواسطة ، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين ، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين ، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية ، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة ، وأدناها المجادلة ، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون ، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة ، وفيهم الكثرة والغلبة ، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة ، فقوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ } معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة ، وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة ، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية ، والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل .
- ومن لطائف هذه الآية أنه قال : { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة ، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة ، أما الجدل فليس من باب الدعوة ، بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام فلهذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن ، بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة ، وإنما الغرض منه شيء آخر ، والله أعلم.
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها ، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار
الجدل - 3 ( لا جدال في الحج)
لا شك أن للعبادات في الإسلام حِكَما من أجْلِها شرعها الله تعالى ، في مقدمتها إصلاح الإنسان وتهذيبه وتربيته والتسامي بغرائزه، وعدم العجب والاستعلاء على إخوانه ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تخلص الإنسان من الشح و عبادة المال، وتوطد علاقات المحبة والتعاون، بين مختلف فئات المجتمع وشرائحه، والصيام يعلم الصبر و الإحساس بمشاعر الفقراء والمحتاجين ، وهو في الوقت ذاته صيام للجوارح عن الدنايا ...
والحاج و هو يؤدي فريضة العمر، مطالب بالتقوى وعدم تجاوز ما رسمه له الدين من ممارسات خلال تلكم الأيام ...
وقد تضمنت هذه الكلمات الثلاث الآتية في قوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } الحكمة من وراء النهي عن الجدال في الحج، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة ، أعني الشهوانية ، و الغضبية، والوهمية ، فلما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال :{فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفيسة هي المقصد الأقصى من هذه الآيات ، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها ، ومن الله التوفيق في كل الأمور على حد تعبير الفخر الرازي رحمه الله .
من الجدل إلى الحوار
ننتقل من حدة الجدل و عنفه، إلى هدوء الحوار وحميميته، لنرى كيف رسم القرآن الكريم آداب الحوار وضروبه ، بعد أن وقفنا فيما تقدم على أخلاقيات الجدل و بعض صوره...
يقول الله تعالى : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
إن هذه الآية الكريمة ، تصف أول الحال بالجدل، و آخره بالحوار ، حين جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو زوجها أوس بن الصامت, وهي منفعلة مما صدر عنه في حقها من الظهار، الذي أقسم عليها به بقوله : أنت علي كظهر أمي أي في حرمة النكاح , وهي تتضرع إلى الله تعالى وتشكو زوجها بالجدل ...
لكن سرعان ما تغير حال المرأة و تبدل موقفها، بعد أن هدأت نفسها بالحديث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، و اطمأن قلبها إلى قوله، فتحول الجدل إلى حوار ...
أهمية الحوار و جدواه :
كرم الله تعالى الإنسان و ميزه بالعقل، الذي به يزن الأمور، و يحكم على الأشياء.. وعلى الرغم من أن الحوار قد يكون أحيانا ذاتيا ، فإن الإنسان الواحد يبقى مع ذلك ، مهما أوتي من علم و رجاحة عقل، عاجزا عن الإحاطة بالقضايا من كل جوانبها { وفوق كل ذي علم عليم} و {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}
ومن الشعر قول القائل :
اقرن برأيك رأي غيرك و استشر. . . فالرأي لا يخفى على الإثنين
من هنا كان الحوار حاجة إنسانية ملحة، تغني التجربة وتنمي المعرفة، و ترفع الحجاب عن الغائب المستور، وتوصل إلى الحق المفضي إلى الإقناع و القبول، وإلى المودة والاتفاق بعد الحيرة والاضطراب، و الفرقة و الاختلاف {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }