بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

رمضانيات :

تاريخ نشر المقال 27-11-19 12:46:05

    أولا - الصوم عن الكلام
يجد المرء نفسه في بعض الأيام، يوثر الصمت على الكلام، و يميل إلى ( الخفت) على الازدحام ؟
قد يكون ذلك لكثرة المتكلمين في هذا الزمان ( سكتانة = اسكت أنت أتكلم أنا )
يتذكر الإنسان في هذا السياق صيام زكرياء و مريم - عليهما السلام - عن الكلام، ويتذكر كثرة صمت خير الأنام، و كيف أرتج على عثمان رضي الله فقال " أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوَّال ويتذكر الإنصات لخطبة الجمعة ومن لغا فلا جمعة له ويتذكر أخيرا دقيقة صمت ترحما على راحل، و يتذكر ، ويتذكر ...
يستدعي هذا الأمر الرجوع إلى بعض ما كتب عن المفاضلة بين الصمت والكلام، فيكون الجاحظ أول من يخطر على البال، من الخائضين في هذا المجال ، على الرغم من أنه لا يؤمن جانبه في مثل هذه الحال، فقد يمدح الشيء
ويذمه في آن، وفي كل مرة يسحرك ببيانه، فلا تملك النجاة من السقوط في حبائله، لمكره واحتياله، وقوة حجته وبرهانه ... لكنه محطة كبرى لابد من التزود منها ..
يتعوذ في أول البيان و التبيين من فتنة القول ومن السلاطة و الهذر، ويورد فيما أورد من شعر في الصمت، قول أحيحة بن الجلاح :
و الصمت أحسن بالفتى . . . ما لم يكن عي يشينه
و القول ذو خطل إذا . . . ما لم يكن لب يعينه
دون أن يكون هذا مذهبه، الذي هو تفضيل النطق على الصمت كما سيأتي ...
و على الرغم مما أورده أبو عثمان الجاحظ من نصوص في حق الصمت، من مثل قوله : وإذا تأملت أخبار الماضين لم تحص عدد من قتله لسانه، وكان هلاكه في كلمة بدرت منه فإن موقفه من الصمت يظل واحدا كما في رسالة : كتمان السر و حفظ اللسان وفي فصل من رسالته في تفضيل النطق على الصمت على وجه الخصوص أو في غيرهما من كتبه ورسائله على وجه العموم ، يقول: ولم أرَ للصمت فضيلة في معنى و لا للسكوت منقبة في شيء إلا وفضيلة الكلام فيها أكثر ونصيب المنطق عندها أوفر و اللفظ بها أشهر و قال في الرد على من كتب مفضلا الصمت على الكلام ، مؤكدا له بأن كلمة الفصل في الموضوع هو صاحبها : وإني سأوضح لك ذلك ببرهان قاطع و بيان ساطع وأشرح فيه من الحجج ما يظهر و من الحق ما يقهر بقدر ما أتت عليه معرفتي وبلغته قوتي وملكته طاقتي بما لا يستطيع أحد رده و لا يمكنه إنكاره وجحده ولا قوة إلا بالله ...
ونترك سلطان الأدب وصاحب المحاسن و الأضداد {ت 255هـ} وقد أوقعنا في الحيرة، باحثين عمن يخرجنا من ذلك ، فلا نجد أفضل من حجة الإسلام وصاحب المنقذ من الضلال {ت505هـ}
إنها محطة أخرى أكبر وأعظم و أبعد أثرا فيمن جاء بعده ... و إذا كان الجاحظ كما قال الدكتور زكي نجيب محمود " يعرض الفكرة و نقيضها ليخلص من المقارنة إلى رأي واضح ينشد اليقين عن طريق الشك " فإن ذلك مما سيتعمق عند أبي حامد الغزالي، الذي يكاد يجمع كل أطراف المنهج الرياضي عند ديكارت، والمنهج التجريبي عند بيكون و ذلك قبلهما بقرون ....
عن أهمية هذه المحطة ، وقامة صاحبها، يقول الدكتور زكي نجيب محمود :
"سنجعل وقوفنا في هذه المرحلة مع رجل واحد، هو أبو حامد الغزالي الذي طالت قامته حتى رآه المسافر من بعيد كالنخلة الفارعة وقد ألقى بظله على العصور التالية له، حتى لنحس وجوده معنا إلى يومنا هذا"
نعم سنقف في هذه المحطة لنتزود مما قاله الغزالي عن الصمت والكلام، وذلك من خلال حديثه المسهب عن آفات اللسان في كتابه " إحياء علوم الدين "
أمام تعذر الوقوف في هذا الموجز، على تفاصيل ما كتبه الغزالي عن الصمت والكلام، لأنه حديث متشعب طويل الذيل ، يلتقي فيه الظاهر بالباطن، والعقل بالقلب، فليس أمامنا إلا الاكتفاء ببعض الأقباس:
إن اللسان - على حد تعبير أبي حامد - من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب ...
و هو أعصى الأعضاء على الإنسان، ونحن - يقول الغزالي - بتوفيق الله وحسن تدبيره نفصل مجامع آفات اللسان ونذكرها واحدة واحدة بحدودها وأسبابها وغوائلها. فنذكر أولاً فضل الصمت ونردفه بذكر آفة الكلام فيما لا يعني، ثم آفة فضول الكلام، ثم آفة الخوض في الباطل، ثم آفة المراء والجدال؛ ثم آفة الخصومة، ثم آفة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه وغير ذلك مما جرت به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة، ثم آفة الفحش والسب وبذاءة اللسان، ثم آفة اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان، ثم آفة الغناء بالشعر...
و هو عندما يتحدث عن أسرار الصوم يجعله ثلاث درجات: صوم العموم وهو كف البطن و الفرج عن قضاء الشهوة في الوقت المعلوم ، وصوم الخصوص و هو كف السمع و البصر و اللسان و اليد و الرجل و سائر الجوارح عن الآثام، وصوم خصوص الخصوص وهو صوم الصالحين، وهو كف الجوارح عن الآثام و تمامه – عنده - بستة أمور ذكرها، يعنينا منها : "حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة و الفحش والجفاء و الخصومة و المراء ، وإلزامه السكوت، و شغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان "
وبعد حديث طويل عن فضيلة الصمت يختم كلامه بقوله :" ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر. وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي الربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً... "
و بعد فيبدو أن ما بين موقف الجاحظ المغالي في تفضيل النطق على الصمت، وموقف الغزالي المبالغ في آفات اللسان، توجد الحقيقة الضائعة والموقف السليم المنسجم مع وسطية الإسلام { و كذلك جعلناكم أمة وسطا } كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وكما دعا إليه الأئمة، واختارته الأمة كما سيأتي
يظهر مما تقدم ذكره في الأحاديث السابقة، أن المشكل لا يكمن في الصمت في حد ذاته، ولا في الكلام في حد ذاته، بل في توظيفهما وآدابهما و ما قد يجلبانه من خير، أو يثيرانه من شر، كما أن الكلام لا يتحيز في النطق فقط بل يذهب أبعد من ذلك ليشمل المنطوق والمفهوم والمكتوب و المرموز ... ، كما أن الصمت لا يعني السكوت فحسب، بل يتعداه إلى الموقف المتمثل في الإعراض وعدم التجاوب ، أو في الإقبال والتجاوب... و قد يصبح الصمت نطقا و الكلام صمتا ....
كان أبو العباس ابن البناء المراكشي{ت721هـ} كما قال تلميذه أبو زيد عبد الرحمن اللجائي فيما رواه عنه ابن هيدور في التمحيص :" قليل الكلام جدا، فلا يتكلم بهذر، و لا بما يكون خارجا عن مسائل العلم، وكان إذا حضر في مجلس فتكلم فيه سكت لكلامه جميع من حضر و أصاغوا لاستماع حديثه ، حتى قيل فيه :إن عنده كلام السكوت يسكت به الناس إذا تكلم"
وقد استنبط الفخر الرازي من قوله تعالى لمريم الصديقة : {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}
بأن الله تعالى أمرها بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام لمعنيين : أحدهما :أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها و فيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى و الثاني : كراهة مجادلة السفهاء و في أن السكوت عن السفيه واجب و من أذل الناس سفيه لم يجد مسافها "
و المعنى الأول يشهد له قوله تعالى :{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ويستأنس للثاني بقول الإمام الشافعي :
إذا نطق السَّفِيهُ فلا تُجِبْه . . . فخيرٌ مِن إجابتِه السُّكوتُ
فإن كلَّمته فرَّجت عنه . . . وإن خلَّيته كمدًا يموتُ
ثانيا - رمضان في الأمثال الشعبية المغربية :
اتجهت منذ عقود مضت، همم كثير من الباحثين والدارسين، صوب الأدب الشعبي، ليدرسوا من خلاله تاريخ الأمم والشعوب، خصوصا من خلال الأمثال، التي تعتبر إحدى أهم الوثائق الدقيقة الحية، التي ترك فيها الآباء والأجداد، للأبناء و الأحفاد، الكثير من تاريخهم الديني والاجتماعي و الفني ...
في هذا الإطار، و ارتباطا بشهر الصيام والقيام، تأتي هذه الإطلالة على بعض ما دونه الأسلاف، من أمثال مغربية ذات صلة بشهر القرآن :
1 – ( عَبَّادين رمضان ): يولي المغاربة شهر رمضان عناية فائقة، حيث يتغير خلاله نمط عيشهم بشكل واضح جلي، بل يظهر استعدادهم له منذ مطلع شهر شعبان، حتى إذا حل بهم ضيفا عزيزا، احتفوا به أيما احتفاء، فترى الموائد المغربية، تزدان بأشهى وألذ الأطعمة والأشربة إلى درجة المبالغة والإسراف، كما ترى المساجد والساحات غاصة بملايين المصلين يؤمهم خيرة القراء و أنداهم أصواتا، في صفوف متراصة في نظام بديع، وسمت جميل، يعيد للباس المغربي التقليدي ألقه وهيبته ...
هذه بعض أجواء ليالي رمضان، أما أجواء نهاره فلها حديث آخر، حيث تكون مظاهر الصيام بادية للعيان، حتى إن أصحاب الأعذار المرخص لهم بالإفطار، لا يستطيعون تناول شيء من الأكل أو الشراب و لا الدواء، احتراما لمشاعر الصائمين، وحياء من أن يظهروا أمام الناس بمظهر المقصرين ...
إن الجميع حتى المتبرمين بأداء الفرائض قبل رمضان، يجتهدون خلاله في أداء هذه الفريضة، وكلهم أمل في التوبة و الغفران، وبلوغ ما يتطلعون إليه من تحسن الأحوال كما سيأتي ...
لعله من هنا جاء هذا المثل المغربي المعبر عن هذه المظاهر بإيجاز كبير، دون تعميم الحكم على نيات الناس جميعا، و إنما لكل امريء ما نوى ... و إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ...
2 – ( الصلاة عادة، و الصيام جلادة، و اللي تبغي تجربوا جربوا في هذا )
من الحقائق الثابتة أن للتربية أثرها الكبير، في غرس القيم و المباديء السامية، في الناشئة منذ الصغر، و من ثم وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآباء والأمهات إلى أمر الأولاد بالصلاة منذ وقت مبكر :"مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع "
كما يعود الصغار على الصيام، حسب سنهم و قدرتهم، فيصوموا مرة إلى نصف النهار، وأخرى إلى منتهاه ، إلى أن يقووا على صيام يوم و إفطار آخر، مما يكسبهم الصبر والتحمل على الصيام، ويهيئهم فيما بعد، لأداء هذا الركن من أركان الإسلام، بشوق وحب وثقة في النفس ...
وقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، كما في حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها ، يَصومون عاشوراء، و يُصَوِّمون صبيانهم الصِّغَارَ ، ويذهبون إِلى الْمسجد ، فَيجْعلون لهم اللُّعْبة مِن الْعِهْنِ ، فَإِذَا بكى أَحَدهم عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَوه إِيَّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ
و غير خاف أن المسلمين حققوا عبر تاريخهم الطويل، أعظم الانتصارات في شهر رمضان، لكن الذي يغفل عنه كثير من الناس، هو أن السر وراء ذلك، هو الانتصار أولا على النفوس قبل كل شيء ، وتخليصها من الحجب الكثيفة، التي تحول بينها وبين الرؤية الواضحة، للطريق المستقيم الموصل إلى الهدف المنشود، وفقا لسنة الله في خلقه : {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم
3 - (قاليه: آش حرفة ابَّاك ؟ قاليه: نَفَّار. قاليه: رمضان تقاضى)
ونحن نعيش أواخر شهر رمضان، حيث ترتفع وثيرة القيام، و قراءة القرآن ، و تظهر أمارات الحرص على إدراك ليلة القدر، تتوارد على البال خواطر كثيرة، بعضها مرتبط بأجواء رمضان الربانية، و ما تمنحه للنفوس من رقة وصفاء وللقلوب من سكينة و طمانينة ،وبعضها يتصل بحال المسلمين، وما هم عليه من ضعف و تمزق، مما يوقظ المواجع، ويبعث على الحسرة والأسف، على واقع أمة القرآن و الصيام و القيام و ليلة القدر
يَا لَيْلَةً تَفْضُلُ الأَعْوَامَ وَالحِقَبَا . . . هَيَّجْتِ لِلقَلْبِ ذِكْرَى فَاغْتَدَى لَهَبَا
وَكَيْفَ لا يَغْتَدِي نَارًا تُطِيحُ بِهِ . . . قَلْبٌ يَرَى هَرَمَ الإِسْلامِ مُنْقَلِبَا
ويزداد الألم حدة، إذا ما تذكرنا أن أجواء رمضان، سرعان ما تختفي، فتتبدل الأحوال بمجرد طلوع شهر شوال، ويُخْلَع لباس رمضان، ويُرْتَدى لباس باقي شهور العام، فتبعد الشقة بين الناس، و تضعف نسبة المشترك بينهم ، و تتعدد الطرق وتتفرق، وتختلف المقاصد والغايات ... فيصبح شهر رمضان في النهاية، عبارة عن موسم عابر، يتوقف تأثيره بانتهائه، كما ينتهي كل ما يتصل به من أعمال، مما ينطبق عليه المثل المغربي : قاليه: آش حرفة ابَّاك ؟قاليه: نَفَّار. قاليه : رمضان تقاضى" يظهر مع بزوغ شهر الصيام، و يغيب بحلول شهر شوال ، بعد أن كان يشيع الأنس والبهجة في ليالي رمضان ، ويوقظ النيام للسحور، على نغمات اعتادوا سماعها ، وفق قواعد و ضوابط و آداب مألوفة