بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

نظرات في الآيات 2،3،4 من سورة الأنفال

تاريخ نشر المقال 05-08-19 11:53:24

    مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم رب العالمين ولي المومنين عليه نتوكل وبه نستعين والصلاة والسلام على سيد الأنام الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين وعلى ءاله وصحابته الكرام ...
أما بعد فإن جوهر الدين وسره هو الإيمان ، الذي تهب نسماته على الإنسان فتمنحه السكينة والاطمئنان ، وتفتح بصيرته وبصره ، فإذا هو يرى ما لا يرى غيره كما قال النبي :"اتقوا فراسة المونم فإنه ينظر بنور الله "
و لا يخفى ما لهذه الثمرة من نتائج عظيمة وأثر بعيد في بناء الحضارة ونهضة الأمة ، لأنها تعطي الإنسان صانع الحضارة الثقة في جهاده النبيل حين يعمل مرتبطا بالله مستمدا منه كل عون وتوفيق
في هذا السياق يأتي هذا الموضوع الذي جعلت محوره الذي يدور عليه الآيات الثانية والثالثة والرابعة من سورة الأنفال ، لما تضمنته من سمات فضلاء المومنين وصفات كمال الإيمان معتمدا في ذلك على مختلف التفاسير من شتى المذاهب والمشارب الإسلامية المعتبرة ، وما فتح الله به من توفيق وسداد في إبراز ما تحتويه من معاني وأسرار
قال الله تعالى : إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون أولئك هم المومنون حقا لهم درجات عند ربهم و مغفرة ورزق كريم سورة الأنفال :2-4
تنتمي هذه الآيات إلى سورة الأنفال ثاني سورة نزلت بالمدينة النبوية بعد " البقرة" على أرجح الأقوال ، وتأتي قبلها في ترتيب المصحف سورة الأعراف ، ووجوه المناسبة بين الأنفال والأعراف كثيرة من أبرزها :
1- أن الله تعالى لما ذكر في الأعراف قصص عدد من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ، اقتضى ذلك بيان حال رسول الله مع قومه فجاء ذكره في الأنفال
2- أنه سبحانه لما ذكر في الأعراف أن اتباع الهوى أصل في الضلال والتنكب عن سبيل الرشاد ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه [ الأعراف :176 ] أمر المومنين - هنا في الأنفال - بسد باب الأهواء ونبذ الشقاق والنزاع حفاظا على صفهم من التصدع ، ووحدتهم من الانهيار ، وبالتفويض لله ورسوله في تدبير أمورهم ، فإن ذلك أجدى لهم وأهدى ، مذكرا لهم بما ينبغي لهم التزامه إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم .
3- أنه تعالى لما قال في الأعراف : وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [ الأعراف: 204 ] بين في الأنفال حال المومنين عند هذا السماع فقال جل ذكره: إنما المومنون إلى قوله : زادتهم إيمانا [ الأنفال :2-4 ] لأنه هكذا يكون سماع المومن و لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون [ الأنفال:21 ]
وهذه الوجوه وغيرها مما يؤكد أن وضع الأنفال بعد الأعراف وقبل براءة في ترتيب المصحف توقيف من رسول الله للصحابة ، وليس مجرد اجتهاد من الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء اعتمادا على حديث ضعيف يدور في كل رواياته على يزيد الفارسي وهو غير مشهور بل يكاد يكون مجهولا ، روي أنه ذكر ليحيي بن معين فلم يعرفه ، وذكره الإمام البخاري في الضعفاء ، ومن ثم فلا يصح أن تكون روايته التي انفرد بها مما يعتد به في ترتيب القرآن المتواتر .
سبب النزول :
لا خلاف أن سورة الأنفال نزلت في بدر وغنائمه ، وسميت كذلك أخذا من مطلعها حيث افتتحت بقوله تعالى : يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
والأنفال : الغنائم واحدها نفل بالتحريك ، وتعني في كلام العرب : الزيادة على الواجب ومنه قول لبيد :
إن تقوى ربنا خير نفل * * * وبإذن الله ريثي والعجل
ويستفاد من مجموع الآثار الواردة في سبب النزول أن أهل بدر اختلفوا في غنائمها وفي قسمتها فسألوا رسول الله عن ذلك ، فأنزل الله - في شأنها - ما يرفع كل لبس وغموض ، وأنها لله تعالى يقضي فيها بحكمه ، وللرسول يقسمها وفق قضاء الله وحكمه
ثم أتبع سبحانه ذلك بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله ، فقال جل ذكره : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله ورسوله إن كنتم مومنين
أي إن كنتم كاملي الإيمان ، لا إن لم تكونوا مومنين ، تحريضا لهم على أن يكون إيمانهم في أحسن صوره وأبهى مظاهره ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله من قوله تعالى : فاتقوا الله إلى آخر الآية
وهذه الأمور الثلاثة : تقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة أوامر الله والرسول ، دعائم أساسية لصلاح المجتمع الإسلامي وفلاحه ، لما توفره من معنى الانضباط والالتزام في كل الأحوال لأحكام الشرع ووحدة الكلمة والصف وتكفل طاعة القيادة المخلصة الحكيمة .
صفات كمال الإيمان :
في ذلكم السياق الآنف الذكر، جاءت آيات صفات كمال الإيمان ، دافئة متدفقة ، بأسمى المعاني وأعجز المباني، مما يجعلها تنفذ إلى أعماق القلوب والنفوس من غير استئذان، ويقبلها العقل بغير ارتياب
تبتديء الآيات بصيغة الحصر "إنما" التي يخاطب بها من يعلم ذلك و لا يدفع صحته أو ينزل منزلة العالم به الذي لا ينكره ، وظاهر القصر -هنا - أن من لم يتصف بهذه الصفات ليس مومنا ، وليس الأمر كذلك لأدلة من الكتاب والسنة ، على أن الإيمان لا ينقصه الإخلال ببعض الواجبات ومن ثم فالحصر - هنا - باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان ، كقول القائل :"إنما الشجاع علي " على سبيل المبالغة والادعاء .
يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور - في تفسير التحرير والتنوير -:"يؤول هذا إلى معنى :إنما المومنون الكاملو الإيمان ، فالتعريف في "إنما المومنون"تعريف الجنس المفيد قصرا ادعائيا على أصحاب هذه الصفات مبالغة ، وحرف "ال" فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال "
وصفات الكمال في الآيات ، جاءت مرتبة أحسن ترتيب ، حيث بدئت بمقام الخوف من الله وخشيته ، ثم بالانقياد لتكاليفه ، ثم بالتفويض إليه وحده دون سواه ، وهي كلها صفات تتعلق بالقلوب والبواطن، ثم أتبعت بإقامة الصلاة ، وبذل المال في مرضاة الله ، باعتبارهما رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ، وأصل كل خير وفلاح ...
الصفة الأولى من صفات كمال الإيمان : وجل القلوب عند ذكر الله
قال تعالى : إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
الوجل : الخوف والفزع ، وأكثر استعماله في القلب ، ومنه قولهم : حمرة الخجل وصفرة الوجل "
وقرأ ابن مسعود "فرقت " وقرأ أبي بن كعب "فزعت " وكلتا القراءتين إنما تحمل على التفسير ، ونظير هذه الآيةقوله تعالى : وبشر المخبثين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون -الحج :34-35 -
وجاء الوجل كذلك في سورة الحجر في حوار إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ضيفه المكرمين قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم الحجر :51-52 ]وفي سورة المونون في حق المومنين المشفقين من خشية ربهم والذين يوتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون المومنون :60]وليس للوجل بعد هذا ذكر في القرآن الكريم
وفي سنن الترمذي عن أم المومنين عائشة أنها سألت رسول الله عن هذه الآية الأخيرة فقالت :أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : لا ،بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك يسار عون في الخيرات المومنون:61]
و وصفت أم الدرداء الوجل عند ذكر الله وصفا حيا معبرا عندما قالت لمن سألها عن حقيقته :"الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجد له قشعريرة ؟ قال : بلى ، قالت : فادع الله فإن الدعاء يستجاب عند ذاك .
والسعف جريد النخل يسمع له عند احتراقه نشيش يشبه شعور الوجل يلم بالقلب من ذكر الله فيهتز له ويخفق كما قال الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك هزة * * * كما انتفض العصفور بلله القطر
والقلوب تفزع عند ذكر الله استعظاما لجلاله وعظيم سلطانه ولكل معاني أسمائه تعالى الحسنى وصفاته العلى .
و لا تعارض بين الوجل - هنا - وبين الاطمئنان المذكور في قوله تعالى : الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد:28 ]
قال الإمام القشيري في لطائف الإشارات : يقال : سنة الحق سبحانه مع أهل العرفان أن يرددهمبين كشف جلال ولطف جمال ، فإذا كاشفهم بجلاله وجلت قلوبهم ، و إذا لاطفهم بجماله سكنت قلوبهم "
وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين ، قد اجتمعا في آية واحدة هي قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله الآية... الزمر:23 ]
وكذا القلوب بذكــــركم * * * بعد المخــــــافة تطمئن
والخشية تتضمن على الدوام الرجاء ، ولولا ذلك لكانت قنوطا إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون يوسف: 87] كما أن الرجاء يستلزم الخوف ولولا ذلك لكان أمنا فلا يامن مكر الله إلا القوم الخاسرون الأعراف:99] وهذه حال كمل الإيمان العارفين بالله إنما يخشى الله العلماء فاطر:21]
وحمل الوجل في الآية على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح وأنسب للموقف الذي جاءت الآية في سياقه من حمله على شئ معين بالذات ، كما أن الذكر في عمقه هو ذكر الله وتذكره في كل المواقف والمجالات ، ومراقبته تعالى في جميع الأحوال والظروف في السر والعلن وفي الحركات والسكنات .
يتبع