بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نور السموات و الأرض، أزاح الستار عن الحقائق في كتابه المبين ، بضرب الأمثال ، في أساليب بديعة المثال ، جلى بها الحق و عرى الباطل ، فأنار قلوب عباده المومنين ، و أقام الحجة على أهل الزيغ و الضلال المبين .
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد خير الأنام ، و على آله و صحبه الكرام ، إلى يوم القيام
أما بعد ، فإن المثل معلم بارز من معالم القرآن الكريم، و أسلوب رائع من أسلوب هدايته ، له في النفوس أثر عجيب ، و على القلوب سلطان عظيم ، في إيجاز معجز ، لا إخلال فيه بالمعاني و لا تعقيد ، فكان سلاحا فعالا في التوجيه و الإرشاد ، بل بلسما و شفاء ، إذا استعمل بأمانة و إخلاص ، داخل داخل تعاليم الدين الحنيف ، و لمصلحة عباد الله دنيا و أخرى ...
هـذا الموضوع سأتناوله بحول الله من خلال :
ـ مقدمة أضعها بين الآية
ـ تفسير آية النور و إبراز إشعاعاتها
ـ خاتمة في تجليات المثل القرآني
بين يدي الأية
قال الله تعالى: اللَهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ النور : 35
تنتمي هذه الآية الكريمة إلى سورة النور المدنية و هي أربع و ستون آية ، اسمها مأخوذ من الآية الخامسة و الثلاثين منطلق هذه المشاركة
تأتي قبلها في ترتيب المصحف سورة (المومنون) ، و وجه المناسبة بين السورتين أنه سبحانه لما قال : والذين هم لفروجهم حافظون(5)إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
(6)فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون استدعى الكلام بيان حكم العادين ، و لم يوضح في سورة (المومنون) فأوضحه الله عز و جل في سورة النور ، فذكر فيها من الأحكام و التشريعات و الآداب ، ما من شأنه أن يصون أعراض الناس ، و يحمي المجتمع من الفساد و الانحراف ، و وسطها بذكر النور الذي هو مصدر كل خير و صلاح ، فضرب المثل ـ أولاـ لنور الطاعة و الإيمان، ثم لظلمات الكفر و العصيان ، منوها ببيوت العبادة ، و بالقائمين فيها ، مذكرا بعظمة الحق المتعال ، و بدائع صنعته ، و سوابغ نعمه ، و ما أعده لعباده المومنين من استخلاف و تمكين .
في هذا السياق ، جاءت آية النور متلألئة مشرقة ، فتبارك الله أحسن القائلين ، و أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات و الروابط ـ كما قال الفخر الرازي في تفسيره ـ و لهذا كانت إشعاعات أمثال القرآن ، لا تتجلى كاملة و بدقة تامة ، إلا بالنظر إليها في المكان الذي أنزلت فيه من سور القرآن العظيم .
و تعتبر الآية الرابعة و الثلاثون ، طالع القسم الثاني من سورة النور ، وكما افتتح القسم الأول منها بقول الله تعالى: سورة أنزلناهاو فرضناها و أنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون فكـذلك ابتدأ القسم الثاني بآية شبيهة بالأولى ، حتى كان ذلك بمثابة رد العجز على الصدر وهي قوله تعالى : و لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلا من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين و تم فيها العدول عن الفصل إلى العطف ، لأن هذه نهاية الأحكام و التشريعات ، التي نزلت السورة لأجلها ...
و لآية النور بالذات جاذبية خاصة ، استهوت إلى جانب المفسرين ، عددا من العلماء و الحكماء و أهل الذوق قديما و حديثا، فألفوا فيها مصنفات مفردة كصنيع أبي حامد الغزالي في مشكاة الأنوار، بعد أن خصوا سورة النور كاملة بتفاسير مستقلة ـ لا يتسع المجال لذكرها ـ كما أقاموا على الآية تصورات و أبحاثا شتى ، لم يسلم بعضها من الشطط ...
و الواقع أن المفسرين و الدارسين ، و قفوا إزاء آية النور، ما بين متهيب رآها غاية في الدقة و الجلال ، فالتزم الحيطة و الأدب ، خشية الوقوع في الزلل ، و رام تنزيه الله سبحانه عن النظير ليس كمثله شيء و هو السميع البصير و بين مقتحم ، بالغ في التأويل ، و تجرأ في المقارنة و التحليل ، فابتعد ـ للأسف ـ عن غاية التنزيل .
و الحق أن سبيل المتهيبين ، هو الاختيار المصيب ، لأنهم تحاشوا في هذا المقام الجرأة في التأويل ، و اختاروا اعتماد ما يستفاد من أصل العقيدة و روح الدين ، وفق ما جاء في الذكر الحكيم ، و سنة النبي الكريم ، مستأنسين في ذلك بما جاء من تفسير عن خير القرون ،و بما نطق به العرب الأقحاح ، مما يوافق استعمال القرآن و يجاريه .
تفسير آية النور:
شد النور الناس منذ غابر العصور ، لإحساسهم بجماله الفائق ، ولاهتدائهم به في الظلمات و المسالك ، و تعلقوا بقبة السماء المرصعة بالنجوم و الكواكب ، و بكل مضيء مشرق ، بحثا عن المدبر الحكيم لهذا الكون الفسيح ، و هو نزوع فطري تلقائي نحو الإيمان
قال الله تعالى : و إذ أخد ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [الأعراف:172]
لكن الفطرة السليمة تظل بمفردها عاجزة عن الإمساك بالخيط الرفيع الدي يوصلها إلى المعرفة الدقيقة عن ذات الله العلية و صفاته و أفعاله السنية ، ما لم تستنر بالوحي المنزل على الرسل ، فإذا جاء الوحي ، اهتدت و أسلمت لله رب العالمين .
في هذا الإطار يصور لنا القرآن العظيم ، ببلاغته المعجزة ، و حججه الساطعة الباهرة ، خليل الله إبراهيم الخليل عليه الصلاة
والسلام ، و هو يناظر قومه من منطلق التجربة و اليقين ، مبينا لهم ضلالهم و زيف ما يعبدون من دون الله
و كدلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رءا القمر قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هدا أكبر فلما أفلت قال يا قومي إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت و جهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين (79) [الأنعام ]
و لم يتردد في الاستجابة لأمر الله إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين [البقرة :131]
و تعاقبت الأجيال تلو الأجيال ، بعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، إلى أن بلغت البشرية تمام نضجها ، فأشرق نور الإسلام ، ببعثة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الناس كافة ، و خاتما للأنبياء و المرسلين ، فانطفأت في العابد النيران ، و تحطمت الهياكل و الأوثان ، و تبخرت أوهام الشرك و الضلال ، و ارتفع صوت الحق مجلجلا في كل مكان ، معلنا أنه لا معبود إلا الله ، و أنه يتصف بكل جمال و كمال ، و يتنزه عن كل عيب و نقصان .
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه و هو على كل شيء و كيل (102) لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير (103)[ الأنعام]
هو خالق السماوات و الأرض و من فيها ، يمسكها جميعا بجاذبية تملأ الكون بقدر معلوم
إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا [فاطر:41]
وهذا الكون الفسيح بكل مافيه ، يسبح في أنوار ، لا يعلم مداها إلا الله تعالى
و لله في كل تحريكة . . . و في كل تسكينة شاهد
و في كل شيء له آية . . . تدل على أنه واحـد
على هذا الأساس فسر الصحابة رضي الله عنهم قول الله تعالى : الله نور السماوات و الأرض فقالوا إنه منورهما ، فعن أنس رضي الله عنه :"إن إلهي يقول :نوري هداي " و قد قرأها بعضهم ( الله منور السموات و الأرض) و مثلها قراءة من قرأ( الله نور السموات و الأرض) ـ بفتح النون و الواو المشددة ـ
و هو مدبرهما بحكمة بالغة ، و حجة نيرة ، كما يوصف القائد الفائق التدبير ، بأنه نور القوم ، لاهتدائهم به في الأمور ، كما قال الشاعر:
و أنت لنل نور و غيث و عصمة . . . و نبت لمن يرجو نداك و ريق
و قال عبد الله بن عباس رضي الله عنها هادي أهل السماوات و الأرض ، و اختاره الإمام الطبري و عدد من المفسرين .
قال ابن عطية و القرطبي و غيرهما :إنه بالله و بقدرته أضاءت السماوات و الأرض ، و استقامت أمورها و قامت مصنوعاتها تقريبا للذهن ، كما نقول : الملك نور الأمة ، أي به قوام أمرها ، و صلاح جملتها ، لجريان أموره على سنن السداد ، فهو في الملك مجاز ،
وفي صفة الله حقيقة ، إذ هو الذي أبدع الموجودات ، و خلق العقل نورا هاديا ، لأن ظهور الموجود به حصل ، كما حصل بالضوء ظهور المبصرات .
كل هذه المعاني و ما في مجراها إنما هي فعل الله ، أما النور الذي هو من أوصافه سبحانه ، فقائم به و منه اسم النور الذي هو من الأسماء الحسنى تبارك الله لا رب سواه .
و بعد أن حلقت الآية , في مجال أسمى معاني النور الإلهي ، و ما يفيضه سبحانه على السماوات و الأرض و من فيهما ، من هداية وإشراق ، عادت لتقرب للإدراك البشري ، مدى هدا النور المعقول ، في مثل قريب محسوس .
قال الله تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
أي صفة نوره العجيبة الشأن ، و نوره القرآن العظيم ، كما يعرب عنه ما قبله ، من وصف آياته بالإنزال و التبيين ، و هذا اختيار كثير من المفسرين قديما و حديثا و هو ما نميل إليه.
و قد كنى الله تعالى عن كتابه و لم يجر له ذكر فقال : إنا أنزلناه في ليلة القدر و صرح بكونه نورا في عدد من آي الذكر الحكيم ، كقوله : و أنزلنا إليكم نورا مبينا النساء :174
و عليه فمثل نور الله ( أي القرآن) في قلب عبده المومن كمشكاة فيها مصباح ، و أعظم عباد الله ، و أكثرهم نصيبا من هذا النور ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إن القرآن لم ينزل على الناس مباشرة ، و إنما نزل أولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و منه أشرق على العالمين ، و قد سماه الله تعالى سراجا منيرا لأنه صلى الله عليه وسلم منور الظاهر منور الباطن ، شرح الله صدره مرتين أولاهما في صباه ، وأخرى ليلة الإسراء و المعراج ، فكان على أتم استعداد ، لتقبل الوحي و حمل الرسالة ، و لرؤية ما رأى من آيات ربه الكبرى .
قال الله تعالى: مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية
أي كمصباح في مشكاة ، و إنما قدم المشكاة في الذكر ،لأن المشبه به هو مجموع الهيئة ، فاللفظ الدال عليه ، هو مجموع الهيئة ، فاللفظ الدال عليه هو مجموع المركب المبتدئ بقوله عز من قائل كمشكاة و المنتهي بقوله جل ذكره و لم تمسسه نار و المثل هنا ليس تماثلا ، و ما أحسن قول أبي تمام في مدح الأمير أحمد بن المعتصم العباسي :
إقدام عمرو في سماحة حاتم . . . في حلم أحنف في ذدكاء إياس
و لما قال له يعقوب بن إسحاق الكندي ، و كان حاضرا : الأمير أكبر في كل شئ ممن شبهته به ، رد على البديهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه . . . مثلا شرودا في الندى و الباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره . . . مثلا من المشكاة و النبراس
و المشكاة هي الكوة أو الفرجة غير النافذة يوضع فيها المصباح ، فتجمع نوره ، و تعكس أشعته و توجهها فيما يشبه اليوم الأضواء الأمامية للسيارات .
و لم تات كلمة مشكاة في القرآن كله في غير هذه الآية ، و مثلها فيما سيأتي : الزجاجة و الكوكب الدري
و في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن أم سلمة رضي الله عنها أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ على النجاشي ملك الحبشة ، صدرا من سورة مريم بكى و بكى أساقفته ثم قال :إن هدا و الله و الدي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة
و المشكاة على مستوى رسم القرآن جاءت في المصحف بالواو على الأصل المشكوة بدل الألف و مثلها : الصلوة و الزكوة والحيوة إلى ثمانية أحرف قال عنها أبو العباس أحمد ابن البناء المراكشي رحمه الله ت721هـ : هي جوامع قواعد الشريعة و مفاتح أبواب العلم ، و ضروب الفقه ، وهي باطنة و ظاهرة ، فالصلاة ـ مثلا ـ هي طهارة البدن الباطن و الظاهر ، و هي قاعدة الدين ، و مفتاح ذكر رب العالمين ، و المشكاة هي قاعدة الهداية ، و مفتاح الولاية ، قال الله تعالى في الآية : يهدي الله لنوره من يشاء
و المصباح عبارة عن سراج ، يشتمل على زيت و فتيل يغمس فيه من أحد طرفيه ، فيسري الزيت إلى الطرف الآخر الدي يكون في أعلى ، فإذا اشتعل و أضاء .
و في إعادة لفظه في الآية ، تفخيم له و تنويه به ، لأنه أعظم أركان التمثيل تليه في ذلك الزجاجة .
قال الله تعالى : المصباح في زجاجة المصباح ـ كما تقدم ـ عبارة عن سراج ، يشتمل على زيت و فتيل يغمس فيه من أحد طرفيه ، فيسري الزيت إلى الطرف الآخر الذي يكون في أعلى ، فإذا أوقد اشتعل و أضاء .
و في إعادة لفظه في الآية ، تفخيم له و تنويه به ، لأنه أعظم أركان التمثيل تليه في ذلك الزجاجة ، التي تحيط بالمصباح ، فتقيه الريح و تعطي لنوره قوة و إشراقا .
الزجاجة كأنها كوكب دري نسبة إلى الدر لفرط تلألئه و شفافيته ، و قريء في السبع أيضا بالمد و الهمز من الدرء و هو الدفع ، لأنه يدفع الظلام بنوره ، كما قريء بضم الدال و الهمز و المد بمعنى الدفع كذلك .
و تشيبه الوجاجة بالكوكب الدري ، و زيادة في صفة نور المصباح ، و مبالغة في نعت إشراقه و تألقه .
و بعد أن ارتقت الآية من الزجاجة إلى الكوكب الدري ، عادت من جديد إلى المصباح فوصفته بأنه : يوقد من من شجرة مباركة زيتونة و قريء كذلك توقد و صيغة المضارع على هاتين القراءتين ، تفيد تجدد الإيقاد ، قال الطبرسي في مجمع البيان :" و من قرأ توقد ، كان فاعله المصباح ،لأن المصباح هو الذي توقد ، قال امرؤ القيس :
سموت إليها و النجوم كأنها . . . مصابيح رهبان نشت لقفال
كما قريء ـ في السبع دائما ـ توقد بفتح التاء و الواو و تشديد القاف و فتح الدال ، بصيغة المضي الذي يفيد ثبوت الإيقاد و تحققه .
و المراد بالإيقاد ما يمد به المصباح من زيت شجرة ، فحذف المضاف ، يدل على ذلك قوله تعالى : يكاد زيتها يضيء
قال الله تعالى: يوقد من شجرة مباركة زيتونة
الشجرة هي شجرة الزيتون ، و في إبهامها و وصفها بالبركة ثم الإبدال عنها ، تفخيم لشأنها و هي مباركة جليلة ، جمة المنافع
قال تعالى: و شجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن و صبغ للآكلين [المومنون :20]
و أقسم سبحانه بالزيتون فقال: و التين و الزيتون و طور سنين و هدا البلد الأمين الآيات
ثم قال عز من قائل : لا شرقية و لا غربية أي إنها زيتونة جهتها بين جهتي الشرق و الغرب ، تنبت في أرض جيدة مباركة ، كأرض الشام الموسومة بالبركات ، لكونها مبعث الأنبياء و كفاتهم أحياء و أمواتا ـ على حد تعبير القاضي البيضاوي في تفسيره ـ قد أخذت من الشمس بأوفى نصيب ، فصفا بدلك زيتها و تلألأ .
يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا ، لصفائه و تلألئه و فرط لمعانه ، ، و لما فيه من قابلية قوية للاشتعال ، و بدلك تتحقق له الإضاءة على كل حال ، مسته نار أو لم تمسسه نار ، و هذا تشبيه بالغ غاية الروعة و الجمال .
كما أن هذا الانتقال من الزيتونة إلى الزيت الصافي ، ترك للعقل استكمال المراحل التي يمر منها الزيتون بعد نضجه ثم جنيه إلى أن يصبح زيتا ، لأنه لا داعي لذكر ذلك في التمثيل .
قال جل ذكره: نور على نور
نور متضاعف زاد في إشراقه : صفاء الزيت ، و زهرة القنديل ، و ضبط المشكاة لأشعته ، و ليس مجموع نورين اثنين فقط ، بل المراد التكثير ، كما يقال : فلان يضع درهما على درهم ، و لا يراد به درهمان .
و من دقائق القرآن الكريم ، مجيء النور مفردا للهدى ، و الظلمات جمعا للضلال ، و مثل ذلك مجيء ولي بالإفراد ، مضافة للمومنين ، و بالجمع مضافة إلى الكفار
قال تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
بهذا تكتمل الصورة في الذهن ، و يظهر التمثيل واضحا جليا ، و التشبيه بالمصباح أوفق و أليق من التشبيه بالشمس ـ مثلا ـ ، لأن فيه وصفا دقيقا و معبرا عن حالة القلب ،و قد لفه ظلام الشك من كل ناحية ، و استولى عليه الرعب و القلق من كل زاوية ، حتى إذا أشرق عليه نور الإيمان، تبدد خوفه و زال قلقه و هدأ و اطمأن الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب فهو كالتائه ليلا في البيداء ، يخبط خبط عشواء ، حتى إذا أبصر بصيصا من نور ، تبدل خوفه أمنا ، و أحس بالفرحة تغمر قلبه ، و تحقق النجاة ، وبان له الطريق إلى بيته و أهله .
قال الله تعالى : نور على نور
نخلص مما تقدم إلى أن قلب المومن صاف يقظ ، يعمل بالهدى قبل أن ياتيه العلم ، فإذا جاء العلم ، ازداد نورا على نور ، و هدى على هدى ، فهو كجهاز لاقط ، يستقبل باستمرار الرموز و الإشارات الوافدة ، فيترجمها و يحل ألغازها ، ثم يرسل ثمرتها إلى العقل ليشتعل و يضيء ، فإذا المومن يرى ما لا يرى غيره ...
ولهذه الثمرة أثرها العظيم في بناء الحضارات الإنسانية الراشدة ، لأنها تمنح الإنسان صانع الحضارة الثقة في جهاده النبيل في الحياة حين يعمل مرتبطا بالله ، مستمدا منه كل عون و توفيق .
وكتاب الله هو المصباح الدي يرسم للناس، معالم طريق الحق و الصواب ، في دلالة واضحة و بيان في الإرشاد ناصع بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من استمسك به نجا و اهتدى كما قال الله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم و يبشر المومنين الدين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا
إنه مثل بعض نور الله ، و ليس فيما ذكر المفسرون في هدا السياق، ما يرقى إلى مقام هذا النور ، فهو كلام الله الذي قال عنه سبحانه : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون
و هو في صون و حفظ من الانطفاء إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون في تجدد دائم و إشعاع مستمر ، و عطاء لا تنقضي عجائبه ، يلبي حاجات كل جيل ، وفق ظروفهم و طرق تفكيرهم ، مبارك نزل في ليلة مباركة .
قال تعالى: و هذا كتاب أنزلناه مبارك [الأنعام :92 ]
و قال إنا أنزلناه في ليلة مباركة [الدخان :3
يوقد من شجرة الوحي المباركة ، لا شرقية و لا غربية ، سمته السماحة ، وانتفاء الحرج ، تكاد حججه تنطق و إن لم يقرأ ، و كفى بأم القرآن التي لا تصح صلاة إلا بها ، و بسورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن ،نورا يملأ القلوب لتشرق و تتألق ...
و إلى جانب القرآن ، يوجد البيان ، بيان رسول اللهصلى الله عليه وسلمالذي هو ـ كذلك ـ من شجرة الوحي و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى و الدي هو من جهة أخرى بمثابة مس النار للسراج ...
و الأمة ـ على الدوام ـ في أمس الحاجة إلى فهم القرآن و بيانه ، و إلى تجديد الإيمان في قلوب المومنين ، و تلك مهمة العلماء ورثة الأنبياء في كل زمان ، لاستخراج إرشاد القرآن ، كما تستخرج الزيت من ثمرة الشجرة بالاعتصار .
قال الله تعالى: يهدي الله لنوره من يشاء
أي يوفق الله و يرشد من يختاره لاتباع نوره كما قال جل ذكره و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم و من لم يجعل الله له نورا فماله من نور
ثم قال تعالى : و يضرب الله الأمثال للناس و الله بكل شيء عليم
أي يبين لهم الأمثال لتقريب المعاني المرادة إلى أفهامهم ، ليعتبروا و يتعظوا بما فيها من الأسرار الباهرة و الحكم الآسرة
و الله بكل شيء عليم
واسع العلم لا يخفى عليه شيء ، معقولا كان أو محسوسا ، ظاهرا كان أو باطنا ، و فيه وعد و وعيد ، وعد لمن تدبر الأمثال ، و وعيد لمن لم يكترث بها .
تجليات المثل القرآني :
لا شك أن الأمثال هي المرآة الصقيلة الصافية لحياة الشعوب و الأمم ، عليها ينعكس فكرها و نمط عيشها ، و رقيها أو انحطاطها ، و هي عريقة في القدم ، رافقت الإنسان منذ نشوء الثقافات و ازدهارها عبر العصور ، و كثرت في الكتب السماوية ، و جاءت في كلام الأنبياء والحكماء و الخطباء و الشعراء ، و بلغ العرب في ضربها شأوا بعيدا ، فكانت في الجاهلية ثم في الإسلام ، حكمتهم و أخلد آثارهم و أكثرها جريانا على الألسنة حتى قالوا :"أسير من مثل " ، و وصفوها بأنها ذات شأن غير خفي، في إبراز خفيات الدقائق ، و رفع الأستار عن الحقائق ، تظهر المتخيل في صورة المتحقق ، و المتوهم في معرض المتيقن ، والغائب كأنه الشاهد .
و القرآن العظيم عندما نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر ذلكم الاهتمام بالأمثال ، وكرس استعمالها ليعتبر الناس و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون
وروي عن غير واحد من السلف الصالح رضي الله عنهم أنهم كانوا يحزنون، بل إن الواحد منهم ليبكي إذا مر بآية من كتاب الله ، أو سمع مثلا من أمثاله ، فلم يفهمه و هو يعلم أن الله تعالى يقول : و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون
ولحاجة الناس إلى ضرب الأمثال ، لإدراك ما غاب عنهم و خفي ، ضربها الله لهم من أنفسهم ضرب لكم مثلا من أنفسكم ليعقلوا بها فيدركوا ما غاب عن أبصارهم ...
و ليس لهم أن يضربوا لله الأمثال ، لأنه سبحانه تنزه عن المثل و الشبيه قال الله تعالى: ولله المثل الأعلى و قال : فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم و أنتم لا تعلمون
و تعددت مجالات أمثال القرآن ، لتشمل كل نواحي الحياة البشرية ، و استمدت عناصرها من الكون الفسيح و ما فيه من خلائق ، لتبقى قريبة من الإنسان مؤثرة فيه ، و اتخذت من الطبيعة ميدانا لالتقاط مختلف الصور ، لا فرق في ذلك بين الإنسان و الحيوان و النبات و الجماد ...
و لا يعكر على هذا ، التشبيه بالمصباح ، لأنه كان معروفا في كلام العرب، و تردد كثيرا في شعر امريء القيس ، الذي كان مولعا بالتشبيه بمصابيح الرهبان ، مما حاول بعض المستشرقين المغرضين الطعن به في أصول أمثال القرآن من خلاله ...
قال امرؤ القيس في معلقته :
تضيء الظلام بالعشاء لأنها . . . منارة ممسى راهب متبتل
و قال عن لمعان البرق وسط سحاب متراكم :
يضيء سناه أو مصابيح راهب . . . أمالَ السليط بالذبال المفتل
هال المكذبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اللون من الأسلوب القرآني ، فقال المنافقون : الله أعلى و أجل من أن يضرب هذه الأمثال ، و قال المشركون : ما بال الذباب و العنكبوت يذكران في القرآن ؟ فرد الله تعالى عليهم جميعا بقوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها لأن الغاية من ذلك هي تبيين الحق وتقريره ، و فضح الباطل و دمغه ...
على أن خلق هذه المخلوقات الصغيرة مثل البعوضة و العنكبوت و الذباب ، معجز كخلق الجمل و الفيل و الخيل لو كانوا يعقلون
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له ، و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب [الحج :73 ]
ثم إن هذا الموقف و شبهه ، ليس سوى مكابرة و عناد و جدل عقيم ، و إلا فقد دأب الناس على ضرب الأمثال بأحقر الأشياء ، فقال العرب على سبيل المثال :"أحمق من رجلة " و هي بقلة حمقوها لأنها تنبت على طرق الناس فتداس ،أو على مجاري السيول فيأتي السيل فيقتلعها .
و ضربت الأمثال في التوراة و الإنجيل بالسوس و الوبار و الجراد و النمل و العنكبوت و الحصاة و حبة الخردل و غير ذلك ...
وحين يضرب القرآن الأمثال ، فإنه يضربها بما هو موجود، مشاهد بالأبصار، أو حاضر في الأذهان، مطابق للواقع ، و مما يثار عادة في هذا الباب ،على سبيل التساؤل ،أو الاعتراض غالبا قول الله تعالى : إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين
استوقف هذا بعضهم فقال :إنما يقع الوعد و الوعيد، بما عرف مثله ، و هذا لم يعرف ، فكان الجواب ،بأن الله ،إنما كلم العرب على قدر كلامهم ، أي أنهم رسمت في نفوسهم ،صورة رؤوس الشياطين ،في هيئة بشعة مرعبة ، تأكدت و ترسخت مع الزمن ، حتى أصبحت كأنها محسوسة ،ترى رأي العين ، و الشاعر الجاهلي يقول :
أيقتلني و المشرفي مضاجعي . . . و مسنونة زرق كأنياب أغوال
و هم لم يرو الغول قط .
و قريب من هذا قول الله تعالى: فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا و لم يعقب
قد يأتي المثل في القرآن أحيانا ، على شكل قصة تسمى : القصة التمثيلية ، يضرب الله تعالى بها المثل للناس قصد العبرة المستخلصة منها ، كقصة صاحب الجنتين في سورة الكهف ، و قصة أصحاب الجنة في سورة القلم ، و هي قصص حقيقية واقعية ، كان لها وجود فعلي في هذه الحياة الدنيا ، و يمكن أن تتكرر في كل زمان و مكان .
و كتاب الله تعالى ،حين يستعمل المثل، لكشف الحقائق المستترة ، و المعاني الخفية ، يصوغ ذلك صياغة حسية ، قريبة الفهم مؤثرة في النفس ، مطمئنة للقلب ، و شتان ما بين أن يضرب المثل ، في تنافي الشيئين ، فيقال :هذا و ذاك هل يجتمعان ؟ وبين الاكتفاء بالقول : هل يجتمع الماء و النار ؟ و ذلك لأن التمثيل ، يقطع كل شك و تكذيب ، و يرفع الحجاب عن الشيء المخبر عنه ، حتى يعاين و يختبر ، كما أن المثل الجامع ،يلخص الموقف الكبير في بضع كلمات ، تنبثق معها في النفس معان كثيرة .
لهذه الاعتبارات و غيرها ، كان للمثل القرآني ، دور كبير في الدعوة إلى ما يصلح البشرية و يبصرها، بما يخلصها من المشاكل المختلفة التي تعترضها في حياتها ، فهو يوقظ الإحساس لدى الإنسان بما يجري حوله ، كما يلفت انتباهه إلى ما جرى من قبل ، ليتسنى له أن يبني مستقبله ،على أساس من العلم و الوعي المنبثق من اليقين .
خاتمة :
للاعتبارات المذكورة في الحلقات السابقة و غيرها مما لم يذكر ، كان للمثل دور كبير في الدعوة إلى ما يصلح البشرية و يبصرها بما يخلصها من المشاكل المختلفة التي تغترضها في حياتها ، فهو يوقظ الإحساس لدى الإنسان بما يجري حوله ، كما يلفت انتباهه إلى ما جرى من فبل ، ليتسنى له أن يبني مستقبله على أساس من من العلم و الوعي المنبثف من اليقين كما قلنا من قبل
و لما كانت الأمثال في القرآن أقيسة عقلية ، يعلم منها حكم الممثل من الممثل به ، اعتبرها بعض الأئمة مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن ، و القياس ـ كما هو معلوم ـ أصل من أصول الشريعة لا يستغني عنه فقيه
و الداعية الكفء بمثابة طبيب خبير بأمراض النفوس ، و ما يصلحها من علاج ، و كتاب الله و سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم هما الصيدلية الزاخرة بكل العقاقير و الأدوية النافعة لكل داء ، و منها المثل الذي هو لون أدبي رفيع ، ما أحوج الدعاة إلى استعماله بحكمة و لطف ، لأنه أجدى و أنفع في كثير من الأحيان من الموعظة المباشرة ...
و الجدير بالذكر في الختام أن الآداب و الفنون الملتزمة و منها الأمثال بطبيعة الحال من شأنها أن تسهم بدور كبير في غرس المباديء و القيم السامية في النفوس ...
و الله ولي التوفيق