كان إلى ما قبل مغرب أمس ، أحد خمسة أو ستة أو أكثر قليلا، هم آخر العلماء حاملي شهادة العالمية من جامعة ابن يوسف بمركش الباقين على قيد الحياة ، قبل أن يغتاله الموت بعد ذلك رحمه الله، وأطال أعمار الباقين
امتاز من بين كل معاصريه، بأنه كان الذاكرة الحافظة لتاريخ هذه الجامعة في العصر الحديث، العالم برجالها وأحوالهم وأنسابهم، الخبير بأسرارها، الحاضر في كل المحطات والمنعطفات التي مرت بها ، الشاهد على ما عانت من مضايقات، إلى أن انتهت إلى ثانوية عتيدة في بداياتها ، ضعيفة منهكة في نهاياتها ...
كما امتاز بخصال كثيرة، منها الصبر والأناة، وسعة الصدر، وبعد النظر، والقدرة الفائقة على حل المعضلات، وتجاوز الأزمات ...
كان ضمن أول فوج تخرج بجامعة ابن يوسف بعد النظام سنة 1947، كما كان من الستة أو السبعة علماء الذين أبعدوا عن وظائفهم ،بسبب مواقفهم الوطنية، إبان الأزمة ونفي جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه
ولأهمية هذا الجانب من حياة الراحل في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ المغرب، نقتبس الأقباس الآتية، مما كتبه أستاذنا الكبير العلامة الحسن الزهراوي في ورقات، لعلها كانت مشروعا لعمل كبير لم يتم، نشرها الزميل الأستاذ محمد الطوكي بعنوان:"حقائق لم تنشر بعد حول كفاح الجامعة اليوسفية":
" عندما ابتدأت الحرب العالمية الثانية ، شعرت الدول الغربية بحاجتها الملحة إلى الدول الضعيفة ، وخشيت أن تقوم باضطرابات ضدها "..." وعندما لاحت بوادر النصر ونزلت الولايات المتحدة بقوتها في شمال إفريقيا، وابتدأت دول المحور تتقهقر، ارتأى الشعب المغربي أن يطالب بالوفاء بالوعد الذي قطعه الحلفاء على أنفسهم "..." وبمجرد ما شاعت الفكرة اجتمع كاتب هذه السطور والأستاذ الرحالي والأستاذ الهاشمي السرغيني والأستاذ عبد السلام المسفيوي، وبعد دراسة الموضوع اتفقنا على أن نتصل بالإدارة"..."وفي نفس سنة 1944 تعززت جماعتنا بانخراط الأستاذ السيد المهدي السرغيني والأستاذ محمد العمراني"..." وكان كل همنا هو التفكير في مصلحة البلاد ودراسة ما يجري فيها من الأحداث وما يجب علينا أن نقوم به نحن حسب ما يفرضه الواجب الديني و الوطني.
وفي سنة 1949 اكتملت الجمعية بدخول الشاب الأديب الأستاذ محمد بن أحمد البزيوي وهو ممتليء نشاطا وإيمانا بوطنيته "..." بعدما تمت الجماعة فكرنا في إنشاء جمعية تضم جميع علماء المغرب حتى تكون كلمتها القول الفصل وحتى لا يستغل الاستعمار بعض الأفرادباسم علماء المغر واتفقت الجمعية على أن أكون أنا والأستاذ السيد محمد العمراني مبعوثين إلى علماء جامعة القرويين لما لنا من الاتصال بهم أيام الدراسة "..."ثم تتابعت الأحداث وتتابعت العرائض كلما اقتضاها الحال نذكرمنها "..." وعريضة أبلغتها إلى القصر في شأن السيد عبد الواحد بن عبد الله حينما لألقي عليه القبض وهكذا استمر العمل إلى سنة 1953 لقد كنا في هذه السنة ننتظر العطلة الصيفية لنبتعد عن هذا الجو الخانق الذي هو منبع الشرور وبمجرد الفراغ من الامتحان اجتمعنا على أن يعمل كل واحد أينما كان باسم الجماعة لما لنا من الثقة الكاملة في بعضنا البعض"..."وفي سنة 1953 كان الاجتماع النهائي حيث بويع ابن عرفة ..."
بعد إحالة الراحل على المعاش التحق بكلية اللغة العربية أستاذا متعاقدا، لكن من حسن حظه أنه سرعان ما جاء الفرج، بإعفاء العلماء من التقاعد مما قال عنه الأستاذ البراوي نفسه :"كان جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه "..."في أثناء زيارته لحضرة مراكش "..." في أواخر السبعينات دعا أمير المومنين علماء المجلس العلمي بمراكش لتناول الغذاء بهذا الجناح الجديد– جناح بولخصيصات أحد أجنحة القصر الملكي بمراكش – "..." وفي بهجة هذا اليوم التاريخي الأغر ، وتحت قبة هذا الصرح المنيف "..." بشر رحمه الله العلماء بأن قانون التقاعد لا ينطبق عليهم، وأنهم لا يحالون على المعاش ..."
ومعلوم أن الأستاذ قضى معظم حياته في إدارة الجامعة اليوسفية حارسا عاما ثم ناظرا وكان يسمى مراقب الدروس، وبالتحاقه بكلية اللغة العربية بدأ صفحة جديدة من حياته حيث تم تكليفه بتدريس مادتي الحضارة الإسلامية، وما كان يسمى بالأحوال الشخصية
وقد سبق للمجلس العلمي لمراكش أن نشر له ترجمة بقلمه ضمن أول إصدارته ( المجلس العلمي لمراكش – تاريخ وأعلام ) ب، كما قام بتكريمه بمناسبة الندوة الجهوية "الجامعة اليوسفية تاريخ وأعلام" وأخيرا طبع له جملة من أحاديثه بإذاعة مراكش بعنوان" في ظلال الكلمة الطيبة " انتقاها ورتبها وقدم لها الزميل الأستاذ محمد البايك
هذه بعض الجوانب المهمة من حياة الأستاذ محمد البراوي نقدمها للتعريف به بمناسبة لحاقه بالرفيق الأعلى تغمده الله بواسع الرحمة والرضوان ...