الإنسان مدني بطبعه، يأنس إلى غيره من بني جنسه، يحمل رسالة سامية في الحياة، ويتحمل مسؤولية جسيمة داخل مجتمعه مخيرا أو مجبرا ...
لكن على الرغم من كل ذلك، يظل في حاجة- ملحة بطبعه أيضا – إلى الخلود أحيانا إلى نفسه لمراجعتها، و الإصغاء إلى ما يدور بدواخلها ...
ويصدق على كلا الحالين مثل ما رواه الإمام الأوزاعي عن عالم أهل الشام التابعي مكحول قال:" إن كان في الجماعة الفضيلة، فإن في العزلة السلامة "
ويصدق على الثاني قول الإمام الغزالي :
لستُ أخلو لغفلةٍ وسكون . . . وفرار من الورى وارتياح
إنما خلوتي لفكرٍ وذكـــر . . . فهيّ زادي وعُدّتي لكفاحي
وكثيرا ما تسبق في حياة الإنسان وجهاده، لحظات الانطلاق ، فترات عزلة وانقطاع...
وخير مثال في هذا السياق، تجارب عدد من الأنبياء والمرسلين، وسير كثير من رجال الإصلاح ، والعلماء العاملين ...
في الصحيح عن أم المومنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى شيئًا إلا جاء مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنّث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك
"حُبِّبَت العُزلة إليه صلى الله عليه وسلم- كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي البستي {ت 384هـ } - لأنَّ معها فراغ القلب، وهي مُعينة على التفكُّر، وبها يَنقطع عن مألوفات البشر، و يتخشَّع قلبه".
وإن فرض الحجر الصحي الاضطراري، الذي تعيشه أمتنا اليوم ، قبل شهر رمضان، لجدير بالتأمل والتدبر، حري بأن يستحضر وتسترجع تلكم الفترة التي سبقت البعثة النبوية ونزول القرآن في شهر رمضان - قبل فرض الصيام – بأعوام
قال الله تعالى : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ : " فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ "
وكما تكون العزلة اختيارية تكون اضطرارية كما في قصة أولئك التابعين الذين اختفوا خوفا من بطش الحجاج الثقفي بهم، و الذين كتب عنهم الحافظ عبد الغني بن سعيد" كتاب المتوارين " و هو مختف بدوره خوفا من الحاكم صاحب مصر.
يبدو أنه من المفيد في هذه الظروف الصعبة ، التي تمر منها البشرية أن نرجع قليلا - قبل مواصلة الحديث عن عزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء- إلى الوراء - لنشير إلى أن من دلائل النبوة- كما قال عدد من علماء الأمة - أن عام مولده صلى الله عليه وسلم- الذي اقترن بعام الفيل تحققت فيه معجزة خارقة، وإشراقة فارقة ، وعلامة تحول قريبة ...
قال ابن سيد الناس{ت 734هـ} :"ولد سيدنا ونبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لاثنتي عشرة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل ، قيل بعد الفيل بخمسين يوما "
يريد الحدث العظيم الذي لخصه القرآن الكريم في سورة الفيل { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }
قال الفخر الرازي " واعلم أن قصة الفيل واقعة على الملحدين جدا ، لأنهم ذكروا في الزلازل والرياح والصواعق وسائر الأشياء التي عذب الله تعالى بها الأمم أعذارا ضعيفة ، أما هذه الواقعة فلا تجري فيها تلك الأعذار ، لأنها ليس في شيء من الطبائع والحيل أن يقبل طير معها حجارة ، فتقصد قوما دون قوم فتقتلهم ، ولا يمكن أن يقال : إنه كسائر الأحاديث الضعيفة لأنه لم يكن بين عام الفيل ومبعث الرسول إلا نيف وأربعون سنة ، ويوم تلا الرسول هذه السورة كان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ، ولو كان النقل ضعيفا لشافهوه بالتكذيب ، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا سبب للطعن فيه
وفي سيرة ابن إسحاق قال : حدثني يعقوب بن بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس قال :حدثت أنه أول ما رؤي في أرض العرب والحصبة والجدري ومرائر الشجر من العشر والحرمل وأشباه ذلك عام الفيل
في عزلة استثنائية خاصة، ظل النبي صلى الله عليه وسلم لسنوات يجاور في غار حراء العظيم ، في رمضان من كل عام ، بعيدا عن الأنظار، في مكان موحش صعب المرتقى ...
في غار لم يكن يتسع لمرقد أكثر من ثلاثة أشخاص متجاورين، في علو قامة رجل ربعة، في نهايته صدع تُرى منه الأرض والجبال، إلى أم القرى مكة المكرمة .
هناك كان صلى الله عليه وسلم ، يعيش عالمه الرحيب، وقد صفت نفسه، ورقت أحاسيسه، وتعلقت روحه و قلبه بالسماء، بعيدا عن قومه، وما هم عليه من ضلال مبين، من عبادة الأوثان، والسجود للأصنام...
لم يكن صلى الله عليه وسلم، في يوم من الأيام على دين قومه، بل كان مسلما حنيفا ...على ملة أب الأنبياء عليه الصلاة والسلام و {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
وقد استدل الإمام أحمد بحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته
على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل في التوحيد منذ نشأ على حد تعبير الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف ، وأضاف: بل يستدل بذلك على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نبياً، فإن نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق، حيث استخرج من صُلب آدم فكان نبياً من حينئذ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك...
لقد كانت رعاية الله تعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم حاضرة في حياته { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى }
هناك من على جبل النور، في غارحراء على رأس الأربعين من عمره عليه الصلاة والسلام ،جاء الوحي و بدأ نزول القرآن ...
وقد أحسن التعبير عن هذه الحال المرحوم عبد الوهاب عزام {ت1959م} عندما قال :
لله ما وعى هذا الغار من آيات ويا عجبا كيف ثبت – يعني الجبل – على هذه الرجفات { لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ}
قلت من قبل في شعر الصبا:
لعل جبال مكة لا يزال . . . يجلجل فوقها هذا المقال
ويخفض رأسها ذاك الجلال ... وما نسيت بغار حراء ذكرى
أيها الغار! من لي فيك بخلوة، من لي بخلوة فيك !