ظلت الرسالة و الكتاب لعصور، يؤديان وظيفة التواصل و تقريب المسافات بين الناس في مختلف الجهات، فقبل ظهور نظرية مارشال ماكلوهن {ت 1980م} في كتابه : مجرة جوتنبرج الذي توقع فيه تأثير وسائل الإعلام على الحياة المعاصرة، نجد – على سبيل المثال - مع فارق الزمان أبا علي الحسن ابن الربيب القيرواني يقول في رسالة إلى أبي المغيرة عبد الوهاب ابن حزم - ما يمكن أن ينطبق على ما يسمى اليوم بالعولمة الثقافية - :
إنه ليس بيننا وبينكم، غير روحة راكب أو رحلة قارب، لو نفث من بلدكم مصدور، لأسمع من ببلدنا في القبور فضلا عمن في الدور و القصور
ولعل العالم و هو اليوم قد تجاوز كل هذه المراحل يصدق عليه، أمام جائحة كورونا القول بأنه لو سعل موبوء في أدنى الأرض، لأعدى من في أقصاها، أو العكس ...
إن على العالم وهو يئن تحت كلكل الكابوس الجاثم على صدره، من جراء هذه الجائحة أن يعيد النظر في كثير من القيم و المبادئ و الشعارات و المفاهيم شكلا ومضمونا... و أن يسعى إلى بناء حضارة الإنسان بدل حضارة الأشياء التي لم يجن الإنسان من ورائها غير الشقاء...
الإنسان العالم الصغير :
نقل الراغب في المفردات عن جعفر بن محمد قال : العالم عالمان : الكبير وهو الفَلَك بما فيه و الصغير، وهو الإنسان لأنه مخلوق على هيئة العالم ، وقد أوجد الله تعالى فيه كلَ ما هو موجود في العالم الكبير
قال نجم الدين بن سوار الشيباني:
و ما أنت غير الكون بل أنت عينه . . . و يفهم هذا السر من هو ذائق
و قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ينسب إليه
دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ. . . وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ
أَتَزعُمُ أَنَّكَ جِرمٌ صَغير. . . وَفيكَ انطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي. . . بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ
وَما حاجَةٌ لَكَ مِن خارِجٍ . . وَفِكرُكَ فيكَ وَما تُصدِرُ
الإنسان كائن، خُلِق معلقا بالسماء ، مشدودا إلى الأرض، يمشي منتصب القامة، مرفوع الهامة ... روحه من النفخة العليا، وجسده من طين وماء .
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ * * * وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ * * * وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا * * * كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
الروح من عالم الملكوت، والسر الإلهي، والنور الرباني، والجسد نهاية الصنع والإبداع، وغاية الخلق والاختراع ...
حير أمره العلماء والعارفين، والفلاسفة والمبدعين ، واختلطت عليهم الأمور، ووقفوا أمام ألفاظ: النفس، والقلب، والروح، وفعل العقل، متسائلين عن كنهها، وصلتها ببعضها...
يقول الله تعالى :{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا}
وقد استعرض أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين جملة من الأقوال المتعلقة بالموضوع تحت عنوان قولهم في الإنسان ما هو؟ فذكر من ذلك قولَ بشر بن المعتمر إن: الإنسان جسد وروح، وإنهما جميعا إنسان، وإن الفَعّال هو الإنسان الذي هو جسد وروح
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم فهو الصناعة المدهشة للفكر، الباهرة للمدارك، قد ركبت جميع آلاته تركيبا متناسقا، ورتبت على بعضها ترتيبا متناسبا ، لا تجد فيها عوجا ولا أمتا ، و لا تصادف فيها خللا و لا عيبا، اللهم إلا ما تلحقه به العوارض التي يجرها على نفسه، أو تجرها عليه الطبيعة ...
جسد هو ملك لخالقه ، ليس ملكا لصاحبه، يتصرف فيه، وفق هواه – كما يعتقد كثير من الناس – بل يتصرف فيه وفق إرادة الله سبحانه...
كثير من المصائب و الكوارث التي تعاني منها البشرية اليوم، ما هي إلا نتيجة اتباع الهوى، والانغماس في الشهوات - لمن تأمل -وسيحاسب الإنسان على ذلك ...
قال تعالى : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
و الإنسان مكرم من الله تعالى { و لقدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}
الإنسان دون تمييز، و بغض النظر عن جنسه و دينه ولسانه ولونه، و تحقيقا لهذا التكريم منع الإسلام بغي الإنسان على أخيه الإنسان، و حرم ذلك .
و قد كرم الإسلام جسد الإنسان حيا وميتا ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كسرُ عظم الميت ككسره حياً
و الكليات الخمس التي حددتها ودعت الشريعة الإسلامية إلى حفظها والعناية بها، توجب الاهتمام والعناية بالجسم، الذي هو مَحَلُّ ثلاثٍ منها هي: لنفس، والعرض، والعقل .
و الخلاصة :
1 - حديث الإسلام عن الإنسان، هو حديث عن روحه وجسده ، في تلاقيهما المتوازن بالشكل الذي يجعله جديرا بالخلافة في الأرض ، لأن أي تغليب لأحد الجانبين على الآخر من شأنه أن يفضي إلى الخلل
2 - سعادة الإنسان باني "الحضارة " إنما تكمن في تحقيق التوازن بين مطالب الروح، ومطالب الجسد مصداقا لقوله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وقوله سبحانه : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
بين القرية العالمية والعالم الصغير :
بين الإنسان والكون، علاقة كريمة متينة، فكلاهما من صنع الله البديع ، وكلاهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه، وهما معا في التصور الإسلامي، يخضعان لإرادة الله، مع تكريم الإنسان وخصه بحرية الاختيار، بين طريق الخير، وطريق الشر، دون فرض، أو إلزام في ذلك، وبتسخير الكون له، مجالا لحركته ونشاطه واستفادته ، باعتباره سيدا للكون وخليفة لله في الأرض، وليس عبدا إلا لله وحده ...
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
أي ذلل لكم ما فيها، فلا أصلب من الحجر، ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم، وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب، والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها
{ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }
قال الفخر الرازي : لما علَّم الله عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة بقوله :{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه}
وقد صدق من قال : ما أحرى أن يهتف الإنسان، كلما أتيح له، أن ينتفع بثمرات جهده : {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } وبهذا ترد الأمور إلى بارئها، ومصدرها ومنشئها الحقيقي .. ويظل الإنسان على تواضعه، فلا يقتله غرور العظمة، ولا تجتاحه مركبات النقص .. و لا يعبد حضارة صنعها بيديه
هذا عن العالم الصغير، أما عن القرية العالمية، فمثلها مثل أي قرية أو مدينة، صغيرة كانت أو كبيرة، وهي لا تعني التراب والأحجار، و لا المياه و الأشجار، بقدر ما تعني الأهل والساكنة، الذين بهم ترقى أو تنحط، تزدهر أو تنحدر...
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
و من يتأمل فيما عرفته البشرية، خلال العقود الأخيرة من تاريخها الطويل، من خراب ودمار ومن مخالفات للفطر والنواميس، يدرك أن ذلك لا يمت في معظمه بأي صلة للإنسانية ...
إن حضارة الأشياء ، لم تنتج قط سوى الشقاء و الكراهية والعدوان، والخوف، وعدم الاطمئنان ...
وقد شاءت إرادة الله، أنه كلما كثر الفساد، وسفك الدماء، أن ينتهي الأمر إلى الأصلح {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعملوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}