رمضان هذا الشهر العظيم المبارك، كنز زاخر بالمنح الإلهية، والمكرمات الربانية، فهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، و شهر الإحسان و المواساة وكان رسول الله أجود ما يكون في رمضان، و هو شهر يزاد في رزق المومن فيه ...
من صامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وَمَنْ قَامَه إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ... إلى آخر ما جاء عن النبي المختار من فضائل هذا الشهر الفضيل
لكن تبقى أعظم بركاته ، و أجل صفاته، أنه شهر القرآن، الشهر الذي بدأ فيه الإشراق الرباني، بنزول القرآن العظيم ، وببعثة خير الأنام بالرسالة الخاتمة، والديانة العالمية السرمدية، إلى الناس كافة ...
ومن ثمة فلا غرو أن يدعو الشارع الحكيم، إلى الاستكثار من تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان، لأنها من أفضل العبادات لقوله صلى الله عليه وسلم :" الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب إني منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن : رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان ."
وقد كان عليه الصلاة والسلام ، وهو الأسوة الحسنة، يعرض القرآن الكريم على جبريل في كل ليلة من رمضان حتى ينسلخ ، وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يجعلون لشهر الصيام نصيبا من تلاوة القرآن أكبر من نصيب كل شهر، منهم – على سبيل المثال – إمام دار الهجرة مالك بن أنس، الذي كان إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ، وأقبل على قراءة القرآن في المصحف الشريف .
على أن القرآن قبل ذلك وبعده ، لم ينزل للتلاوة والتبرك فحسب، بل نزل للتخلق به وتطبيقه على أرض الواقع، و انعكاسه على حياة وسلوك الفرد والمجتمع ...
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يجسد القرآن في سلوكه ، ويخرجه من مجال التصور إلى مجال التطبيق في نفسه وفي أمته ، وهو ما عنته أم المومنين عائشة رضي الله عنها عندما قالت لمن سألها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن "
وكان الصحابة ، و مِن بعدهم التابعون، حريصين على تطبيق القرآن في حياتهم، بمجرد تعلم ما تيسر منه، كما يترجم ذلك مثل قول أبي عبد الرحمن السلمي :"حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل"قالوا: " فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعاً"
و لهذا كانوا يقضون مدة طويلة في حفظ السورة الواحدة ، وقد يستغرب الإنسان عندما يقرأ أو يسمع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قضى في حفظ سورة البقرة عدة سنين، قيل: ثماني سنين... لكن سرعان ما يزول الاستغراب، عندما يعلم أن الأمر لا يتعلق بمجرد الحفظ في الصدور فقط ، بل وبحفظ وتعلم فقهها، وكل ما تتضمنته من علوم وأحكام وأمثال ...
وذلك أن الله تعالى قال:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ )، وقال:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وقال:( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل )وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وللفخر الرازي ملحظ جميل، يؤكد رحمة النبي الأمين بالناس أجمعين ، وذلك في سياق تفسيره لقوله تعالى:{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} حين ذهب إلى أن لقائل أن يقول: إن قول محمد عليه السلام : * {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} في المعنى كقول نوح عليه السلام {رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هاهنا، فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} جوابه: أن نوحا عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين} كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق.
و مما جاء في تفسير الآية أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} الآية، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن، أكثروا اللغط والكلام حتى لا يسمعونه؛ فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول، أو غناءٍ أو لهوٍ من هجرانه. "
والخلاصة هي أن القرآن هو الدين وهو اللغة وهو الدستور وهو الحكم ،وهو الدنيا والآخرة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}، ، {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا }
وإذا هدى – كما قال الإمام الحرالي – الناس، كان للذين آمنوا أهدى، وكان نورا لهم، وللمومنين أنور، كذلك إلى أعلى رتب الصالحين العاكفين الذاكرين الله كثيرا ، الذين تماسكوا بالصوم عن كل ما سوى مجالسة الحق بذكر .
وفي قوله {وبينات} إعلام بذكر ما يجده الصائم من نور قلبه، وانكسار نفسه وتهيئة فكره لفهمه، ليشهد تلك البينات في نفسه"
إن رمضان هذا العام في زمن الجائحة و ما فرضته من حجر صحي ، فرصة للعمل على إحلال القرآن المكان اللائق به في نفوسنا وضمائرنا، وفي سلوكنا ونظام حياتنا، وإن شهرا تصفو فيه أجواء العبادة، وترق الأرواح، وتتحرر الإرادة من قيود الجسد، لقادر بإذن الله أن يجعل أمة القرآن تعود إلى كتابها لتستهدي به في التخطيط لمستقبلها، ورسم ملامحه لأن المستقبل للإسلام و قد نبهنا الله عز وجل إلى أن آياته المتلوة توصلنا إلى الحق كما أن آياته المجلوة تقودنا إلى الحق حيث يقول جل ذكره :{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ }