بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

البعد الروحي للتنمية وحقوق الإنسان

تاريخ نشر المقال 02-07-21 08:03:07

    مقدمة - تجمع هذه المشاركة بين اقتراح سابق بعنوان : البعد الروحي للتنمية وحقوق :الإنسان وبين تصرف كريم لاحق بعنوان تجربة المجلس العلمي المحلي لمراكش في التنمية الروحية وحقوق الإنسان " وفي كل الأحوال لم يكن لي أن أتخلف عن الحضور، أو أتراجع عن المشاركة في هذا المحفل الكريم
إن الشيء الراسخ في العقل والوجدان هو أن حقوق الإنسان من القيم الخالدة التي كان للمعتقدات والديانات السماوية إسهام في ترسيخها إلى جانب فلسفات وقوانين قديمة وجديدة ، وجدير بالأمة الإسلامية أن تكون في طليعة من يدعو إلى هذه الحقوق والحريات ويسعى إلى تطبيقها لانسجامها - في مجملها - مع دينها... و ما يمكن أن يكون فيها من نقائص ككل عمل بشري سيتم تداركه مع مرور الزمان ، و لنا أن تعتز كذلك بأن من الحقائق الثابتة، أنه إذا روجع تاريخ الأديان قبل ألفي سنة لم يوجد منها دين واحد غير الإسلام - خرجت دعوته من نطاق القومية، فعمت شعوب الإنسانية على اختلاف أصولها و أجناسها ...
هذا من جهة ومن جهة أخرى، لا يمكن لمن عاصر العقود الأخيرة من القرن العشرين، وشاهد المخاض العسير، الذي مرت منه حقوق الإنسان, قبل أن تصبح حقيقة تمارس في الميدان بنسب متفاوتة، ألا تتولد لديه إحساسات ومشاعر خاصة، إزاء التحولات الكبرى التي مرت بها هذه الحقوق سواء على مستوى الاعتراف أو على مستوى مراحل التنزيل، مع العلم أن هذا شيء لم يكن منه بد، لتحقيق التنمية في شمولها ، والتي هي أولا وقبل كل شيء من صنع الإنسان، الذي لا يمكن بحال, أن يكون منتجا أو صالحا، في غياب احترام إنسانيته ، وتمتيعه بحقوقه
ثم إنه بقدر ما يكون الحديث عن حقوق الإنسان, أو عن التنمية ميسورا إلى حد ما، انطلاقا من حقائق ملموسة، ونماذج مدروسة ، ومعطيات واضحة محسوسة، بقدر ما يكون في المقابل، الأمر عسيرا، عندما يتعلق بالبعد الروحي، بعيدا عن أي تصنيف أو انتماء، غير الكونية والإنسانية ...
إن الكائنات الحية كلها تتصرف بالفطرة ، وفق قوانين وضوابط دقيقة ، تنظم حياتها الخاصة وعلاقاتها مع بعضها ومع غيرها ، دون أن تتعلم شيئا من ذلك
أما الإنسان فلابد من تربيته ورعايته، لأنه كلما ابتعد عن الفطرة، كلما أصبح خطره كبيرا ... على الرغم مما هو مزود به من قوى، لا توجد عند غيره، في مقدمتها العقل الذي هو سلاح ذو حدين
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ . . . وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ
و في المقابل توجد قوة جبارة أخرى، تنازع العقل التحكم في سلوك الإنسان، و في توجيه تفكيره ، و اتخاذ قراراته ، وهي النفس بكل ما تنطوي عليه من أحاديث داخلية، وحوارات ساخنة، تتراوح بين الاندفاع والانقباض، و تتردد بين الخير و الشر ... ومن ثم كان أعظم انتصار يمكن أن يحققه الإنسان في حياته، هو انتصاره على نفسه وهو الجهاد الأكبر الذي يحتاج إلى كثير من الصبر والمجاهدة، لطرد وساوس النفس الأمارة بالسوء وتجاوزها إلى النفس اللوامة” التي يمكن القول بأن مصطلح الضمير في علم النفس قريب جدا منها ، ويعني تلك القوة الداخلية التي تمنع الإنسان من القيام بتصرفات غير أخلاقية ، وتقوم في الوقت ذاته بتأنيبه في حالة قيامه بذلك .
وتمثل الروح أمر الله و إرادته ، والطاقة التي يتصل بها الإنسان بالمحجوب ، تسير الجسد وفق ذلك، و حين ينتهي تبقى بعده، كما حث الدين ، الجسد على الوسطية والاعتدال في كل شيء حتى في أكله وشربه، وحمَّل النفس المسؤولية الكاملة في التنسيق بين الروح و الجسد، بعد أن ألهمها فجورها وتقواها .. وبالإرادة الإنسانية التي تقوى بما سبق ذكره يستطيع الإنسان تجاوز كل الحواجز، وتكسير كل القيود ...
حضرات السيدات والسادة
إن من المسلمات أن العصر الحالي، بلغ أقصى ما يمكن تصوره من تقدم علمي خارق ، على جميع المستويات وفي كل المجالات ، لكنه في الوقت ذاته وعلى الرغم مما وفر من وسائل الرفاهية ورغد العيش، لم يحقق للإنسان السعادة و الطمأنينة بل سلبه المزية الوحيدة الحقيقية التي تتيح له الإفادة مما أعطاه عندما صرفه صرفا شديدا عن قيم الروح و الحال كما قال القائل مخاطبا الإنسان :
أقبل على النفس واستكمل فضائلها , , , فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إن سعادة الإنسان باني الحضارة إنما تكمن في تحقيق التوازن بين مطالب الروح، ومطالب الجسد
أما فيما يتعلق بالتنمية فقد نحتاج للحديث عنها باعتبارها مجالا لم ينل بعد ما يستحق من البحث والدراسة بالقدر الكافي ...
إن مفهوم التنمية التي تتم عن طريق ما يقوم به الإنسان من جهود منظمة لتحقيق أهداف معينة تختلف عن النمو الذي يحدث تلقائيا دون تدخل الإنسان في ذلك وقد ظل مصطلح التنمية زمنا غير يسير يكاد يكون مقصورا على التنمية في الحقول الاقتصادية المقصودة وظلت في الوقت ذاته تدور حول الجانب المادي، دون أي جانب من الجوانب الأخرى، همها الوحيد هو تكوين رأس المال، أي زيادة الطاقة الإنتاجية للاقتصاد
ونحن عندما ننظر إلى الموضوع في بعده الروحي بعد إقرار بعده المادي نجد أن رسالة الإنسان على الأرض هي إعمارها بالبناء والحرث والزراعة والصناعة بعد نشر العلم والعدل و السلام و مختلف القيم السامية وأن العمل فرض مقدس و كذا التنمية الاقتصادية والاجتماعية وكل المجالات التي تتم فيها عملية التنمية ففي الدين بمجرد أداء الصلاة ينتشر الناس في الأرض للعمل { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ }
واعتمادا على هذين المؤشرين، أي: معدل دخل الفرد، والدخل القومي، تقاس التنمية في المجتمعات المعاصرة، وبالتالي يتم تصنيفها إلى مجتمعات متقدمة، وأخرى متخلفة.
وقد واجهت هذا التركيز على الجانب المادي في التنمية انتقادات عنيفة من داخل المجتمعات الغربية نفسها، مما أنتج مؤشرا اجتماعيا للتنمية سمي بمقياس :" درجة الرفاه الاجتماعي ، فهو يقيس نمط الحياة للأفراد، وتمتعهم بمختلف الخدمات الاجتماعية التي تحقق إسعادهم كالتعليم، والرعاية الصحية، ووسائل الترفيه المختلفة.
ومن ثم فالتنمية ليست مجرد استهلاك سلع وخدمات، وإنما هي تحسين في مستوى الرفاه
الاجتماعي.
إن البشرية أدركت اليوم أن الإنسان هو قطب التنمية ومحورها الأساس، وصانعها الأول، ولا تنمية بغير تطوير الإنسان وتنميته، لأن التنمية في العمق تعني تنمية الموارد البشرية
بالتربية، والتعليم، والتدريب، والتثقيف، فالإنسان المؤهل علميا وعمليا هو المصدر الوحيد القادر على استثمار مصادر الثروات الأخرى كلها.
وذلك بالسير بالحياة الإنسانية إلى ما هو أفضل، دون الاقتصار على نشاط واحد من أنشطة المجتمع، أو اهتمام بفئة محدودة من فئاته، والتي تهتم بكل ما يحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
و إلى جانب عبارة عمارة الأرض تم بحث مفهوم التنمية من خلال عبارة، رغد العيش وهو مفهوم إسلامي يتضمن في معناه مفهوم درجة الرفاه ويتعداه إلى تحقيق سعادة الإنسان في الآخرة، من خلال طاعة أوامر الله، والإنفاق في سبيله
ولا شك أن الروح هي العنصر الأسمى في الحضارات والمدنيات، فإذا غابت – وإن حدث تقدم مادي- فلا يتعدى في آخر المطاف أن يكون حضارة الإنسان الأعمى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى}
إن الإنسان هو صانع الحضارة، ومحور العملية التنموية وهدفها، أو بتعبير آخر هو : الوسيلة والغاية في الوقت ذاته لتحقيق التنمية، وتلك رسالته على الأرض، وبذلك استحق التكريم من خالقه
إن التنمية الروحية في الدين تتراوح بين ثلاثِ مراتب هي : الإسلام وهو أدناها وينضوي تحته كل المسلمين و لو عن طريق الوراثة و التقليد و الاتباع {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} ويبقى التفاوت بين عامة المسلمين حسب قربهم أو بعدهم من الإسلام القائم على خمسة أركان لها تأثيرها الإيجابي في التنمية الروحية بما لايتسع المجال ثم يأتي الانتقال بفضل التنمية الروحية إلى درجة الإيمان القائم على اليقين والاقتناع والذي هو مرتبة أعلى تنأى بصاحبها عن الوقوع في المخالفات الدينية والدنيوية و تقوي روابط الأخوة الدينية والإنسانية
ثم تأتي درجة الإحسان وهي أعلى المراتب التي يمكن أن يصل إليها الإنسان في علاقته بالله
و قد ذهب بعض المستشرقين إلى أن المتصوفة الإسلاميين يستعملون مصطلح الإنسان الكامل للدلالة على أسمى مرتبة يبلغها الإنسان وهي مرتبة الصوفي الذي وصل إلى الفناء في الله والحقيقة أن فكرة الإنسان الكامل نشات في الحضارة الهلينية أو في التفكير الإيراني القديم، وليست من الإسلام في شيء مما لا يتسع المجال هنا للكلام عليه
وكل الرسالات السماوية إنما هي دعوات أخلاقية ورسالة الإسلام أخلاقية بالدرجة الأولى كما قال الرسول الكريم إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق أو مكارم الأخلاق
ونصل إلى التنمية الروحية في برامج المجالس العلمية : لنشير باقتضاب إلى أن هذه الأمور تحظى ليس في برامج المجلس العلمي المحلي لمراكش فحسب بل في سائر المجالس العلمية بالمملكة المغربية باهتمام بالغ وعناية خاصة منذ إحداث المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية سنة 1981 على هدي من الخطب الملكية السامية والظهائر الشريفة الصادرة في هذا الشأن ومختلف النصوص المنظمة للمؤسسة العلمية إحدى المؤسسات الدستورية كما هو معلوم
وهي تنص على أن من مهام المجالس العلمية توعيةَ الفئات الشعبية بمقومات الأمة الروحية والأخلاقية والتاريخية وذلك بتنظيم محاضرات وندوات ولقاءات تربوية وللمجلس العلمي المحلي لمراكش المنسق الجهوي للمجالس العلمية بجهة مراكش أسفي في هذا الباب رصيد مهم مع إصدارات تقارب اليوم السبعين اهتمت بكثير من القضايا المتعلقة بالثوابت و الخصوصيات المغربية وبالمرأة والطفل و وبرموز من أهل التربية والإصلاح وغي ذلك من القضايا التي تشغل بال الناس
كما أن من رسالة العلماء الدينية والوطنية قيامَهم بمهمة تأطير المواطنين والمواطنات أينما كانوا لتحصين عقيدتهم وحماية فكرهم ، وإنارة عقولهم وقلوبهم بما يجعلهم مؤمنين بدينهم ومقدساتهم ، غير مهدَّدِين بتيارات التشويه و التحريف ... وهذا أيضا لنا فيه نصيب وافر من الجهد الكبير المبذول فيه
ومما تحرص المجالس العلمية على أن تتحلى به هو " أن تكون القدوة والمثال وأن تعكس روح الإسلام القائمة على الوسطية والاعتدال والداعية إلى التعارف والتعاطف والتراحم ... "
أما بالنسبة لحقوق الإنسان فإنه على الرغم من أهمية المواد الواردة في الإعلان العالمي لهذه الحقوق فيلاحظ أن المنهج الذي سارت عليه أكثر أمم الغرب ادعاء للديمقراطية وحقوق الإنسان يختلف تمامـاً وما دعت إليه، وكانت تلك المواد ولسنوات طويلة حبراً علـى ورق فهـي بمثابـة أمنيات لتلك الدول دون أن تطبق على ارض الواقع.."
ونحن في مجال حقوق الإنسان في علاقته بالتنمية الروحية نرسخ مبدأ الحرية الدينية على أسس سمحة نبيلة كما قال تعالى :{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وفي مجال المساواة نؤكد على التسوية بين الناس في القيمة الإنسانية المشتركة { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } وقد استقبلنا شخصيات و وفود علمية من عدد من البلاد الأجنبية و من ديانات ومعتقدات غير إسلامية وحضرنا ملتقيات في هذا المجال منها ميثاق مراكش للأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية
و يسهم المجلس العلمي في التربية على حقوق الإنسان ونشر ثقافة حقوق الإنسان في شتى المناسبات ومن على مختلف المنابر المتاحة له من خلال التعليم ومحاربة الأمية وإدماج التربية بالقدوة والنموذج في البرامج لما لها من تأثير بليغ ينعكس على نفسيات المتلقين وييسر مهمة التواصل وينمي المردودية ويتم ذلك بطرق مختلفة و في مناسبات متعددة في المحاضرات والندوات والمسابقات ودروس محو الأمية والكراسي العلمية و التأطير في إطار ميثاق العلماء الذي يتم مرتين في الشهر في نحو 45 ألف مسجد في يوم واحد وفي وقت واحد وحسب برنامج واحد
كما أن المرأة حاضرة في المجلس العلمي المحلي لمراكش بقوة فهي عضو فاعل في المجلس وترأس خلية شؤون المرأة والأسرة كما أنها تتولى رئاسة بعض الوحدات الإدارية الدينية و هناك المرأة المرشدة والواعظة والمحفظة للقرآن الكريم والمحسنة المنفقة من مالها في وجوه البر والإحسان .
محمد عز الدين المعيار الإدريسي