بطاقة تعريفية

فضيلة الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي

مواقع التواصل

مزاح النبي صلى الله عليه وسلم

تاريخ نشر المقال 01-05-24 10:14:24

    مزاح النبي صلى الله عليه وسلم
هذه قراءة خاصة لجانب مهم، من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العطرة،وشمائله المحمدية المتنورة، أقدمها متوكلا على الله تعالى مستعينا به راجيا من القراء الكرام إغناءها بما يرونه من سديد الآراء ، وتصويب ما قد يعتريها من قصور في الفهم . والله من وراء القصد
مفهوم المزاح:
المزاح بضم الميم و كسرها الدعابة والانبساط مع الغير ، وهو سلوك إنساني فطري غايته إشاعة جو البهجة و السرور بين الأهل و الإخوان خاصة و كل الحضور عامة في لحظة من زمان و في حيز من مكان .
و هو ضد الجد و نقيضه من حيث المعنى ، أما من حيث الأثر ، فإن في الترويح عن النفس ما يساعد على تجديد النشاط ، و استجماع القوى لنهضة راشدة كما قال الشاعر :
الجد شيمته و فيه فكاهة * * * طورا و لا جد لمن لم يلعب
و المزاح نوعان : محمود (مباح )، وهو مطلبنا في هذه الصفحات ومذموم (منهي عنه ) وهو " ما فيه إفراط أو مداومة عليه، لما فيه من الشغل عن ذكر الله، والتفكر في مهمات الدين ، و يؤول كثيرا إلى قسوة القلب و الإيذاء و الحقد و سقود الهمة و الوقار " على حد تعبير الحافظ ابن حجر في الفتح
وأخرج الإمام البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله :ص:" لا تمار أخاك و لا تمازحه ، و لا تعده موعدا فتخلفه "
أما مكان المزاح من الدين ، فمعلوم أنه لم ترد مادة "مزح " في القرآن الكريم ، لكن جاء فيه ما له علاقة به كالفكاهة و الضحك و التبسم والمرح و السخرية
والفكاهة هي المزاح قال ابن سيدة في المخصص : والرجل الفكه الطيب المزاح ، و المراد بالفكاهة ما يبعث على الضحك و يثير الرغبة فيه ...
قال الله تعالى :{وأن إلى ربك الرجعى و أنه هو أضحك و أبكى}
قالابن عطية في المحرر الوجيز:" ذكرالضحك و البكاء لأنهما صفتان تجمعان أصنافا كثيرة من الناس إذ الواحدة دليل السرور و الأخرى دليل الحزن في الدنيا و الآخرة ، فنبه الله تعالى على هاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده "
على قدر استجابة الإنسان المرح للضحك أو قدرته على إثارته ، يكون سريع الاستجابة للبكاء إن دعاه داعيه ، أو حدث ما يحمله عليه ، فهو مرهف الحس جدا
قال الشاعر :
إذا أنا لم أضحك فقدت مشاعري * * * و إن أنا لم أحزن فقدت شعوري
و تساءل شيخ أدباء العربية أبو عثمان الجاحظ و أجاب قائلا :" من حرم المزاح ، و هو شعبة من شعب السهولة ، و فرع من فروع الطلاقة ؟ و قد أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحنيفية السمحة ، و لم ياتنا بالانقباض و القسوة ، و أمرنا بإفشاء السلام و البشر عند الملاقاة ، وأمرنا بالتوادد و التصافح و التهادي "
إن هذا ـ دون شك ـ من المباحات و الطيبات التي أحلها الله تعالى للخلق { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الزق}
قيل لسفيان بن عيينة ،" المزاح هجنة و في رواية سبة ؟ فال بل سنة ، ولكن الشأن فيمن يحسنه و يضعه مواضعه "
والضحك قبل هذا و ذاك دافع فطري في الإنسان ، و قد من الله تعالى به على عباده و نسبه إلى نفسه { وأنه هو أضحك وأبكى } فهو من السمات التي تميز الإنسان، عن سائر الحيوانات، حتى عرف المناطقة الإنسان بأنه حيوان ضاحك ، كما عرفوه بأنه حيوان ناطق ، و قد يضحك الطفل الرضيع في شهوره الأولى بعد رضعات مشبعات ...
و ما تتطلبه الفكاهة و الضحك من قدرات ، ليس في متناول أي كائن حي غير الإنسان ، كما تؤكد أحدث الدراسات العلمية في الموضوع .
ضحك و ضحك
أعظم ما ورد في الضحك و أجله ، ما جاء في أحاديث نبوية صحيحة أن الله عز وجل يضحك ضحكا يليق بجلاله و عظيم شأنه { ليس كمثله شيء و هو السميع البصير} مع التنبيه على أن الضحك الذي يعتري البشر كلما استخفهم الفرح أو الطرب ، غير جائز على الله تعالى على حد تعبير الحافظ ابن حجر في الفتح
من هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه و سلم : "يضحك الله سبحانه و تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد " متفق عليه
و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلمفبعث إلى نسائه فقلن : ما معنا إلا الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من يضم أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا ، فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ما عندنا إلا قوت صبياني ، فقال : هيئي طعامك و نومي صبيانك إذا أرادوا عشاء ، فهيأت طعامها ،و أصبحت سراجها ، و نومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال :" ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله {ويؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } رواه البخاري
وروى ابن ماجه عن أبي رزين العقيلي:قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم:"ضحك ربنا من قنوط عباده و قرب غيره " قال : قلت يا رسول الله أو يضحك الرب ؟ قال : " نعم " قلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا.
فالضحك بالنسبة لله عز وجل من صفات الكمال و الجمال و الجلال ، والاتصاف به يبعث على الرضى و يبشر بالعطاء ...
لا يفوتنا و نحن نتحدث عن الضحك أن نشير إلى عالم الملائكة والجن ، و طبيعة ضحكهم ، و نكتفي من ذلك هنا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبريل عليه السلام فيما رواه الإمام أحمد في المسند :"
مالي لم أر ميكائيل ضاحكا قط ؟" قال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار" "
كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن الكائنات الحية الأخرى من دواب و طيور و أسماك ونبات ربما ارتسم على أساريرها أو أعضائها ، ما يفيد فرحها و استبشارها ، من ذلك قول الشاعر :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا * * * من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وفي المقابل قيل في اليوم الشديد العذاب : إنه كان يوما عبوسا {إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم و لقاهم نضرة و سرورا }
أما نبينا و سائر الأنبياء عليه و عليهم أفضل الصلاة و أزكى التسليم ، فقد كان الضحك صفة من صفاتهم ، و كان ضحكهم التبسم ، كما قال الله تعالى عن سليمان عليه السلام :{ فتبسم ضاحكا من قولها }
وجاء في الحديث عن رسول الله :ص:" أن الابتسامة دين ندين الله تعالى به و خلق كريم نتاب عليه ، تبسمك في وجه أخيك صدقة "
وقيل إن يحيى لقي عيسى عليهما الصلاة و السلام فقال : مالي أراك لاهيا كأنك آمن ؟ فقال له عيسى عليه السلام : مالي أراك عابسا كأنك آيس ؟ فقالا : لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي ، فأوحى الله تعالى إليهما :(إن أحبكما إلي أحسنكما ظنا بي .)
رحابة الدين و أنموذجية الصادق الأمين صلى الله عليه و سلم:
يتوهم بعض الناس أن الدين ما هو إلا مجموعة من القيود و الموانع والحواجز التي لا مجال فيها للمرح و الانبساط في لحظات استراحة وتحلل من أعباء الحياة المضنية بعد ساعات طوال من الكد و النصب ، و ما يرافق ذلك من أداء ما وجب من عبادات و طاعات و ما تيسر من نوافل و قربات ...
لا شك أن هذه رؤية ضيقة و غير مستوعبة و لا مدركة لحقيقة الإسلام في عمقه و شموله و رحابته و أبعاده ، لأن مما يعلم بداهة أن الله تعالى ما أرسل نبيه الكريم إلا رحمة للعالمين {و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }
و لا يتصور في الرحمة الشقاء و الضنك و الغلظة و الشدة على الناس { فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك }
يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه و قد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له ، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا ، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا ، و إذا ذكرنا الطعام ذكره معنا ، قال : فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
إنه لمن علو مقام هذا الرسول الكريم و قوة شخصيته ، و سمو أخلاقه و كماله و جماله ، أن يجمع بين جلال النبوة و براعة الفكاهة ، و أن يمازح الصبي الصغير و المرأة العجوز ، كما يمازح نساء ه وأصحابه ...
و ما أكثر النماذج المرحة الرائعة ، من مزاح و ضحك رسول الله ـ كما سيأتي ـو هي مبثوثة في كتب الحديث عامة و في كتب الشمائل خاصة ، و حبذا لو دخلت إلى المقررات الدراسية في المدارس و المعاهد والجامعات في إطار او الأدب الإسلاميو التربية الجمالية و الذوقية، كما يجسدها الأدب النبوي الشريف
إن أهم ضوابط الفواكه و المزاحفي الدين هو الوسية و الاعتدال ، و الله جل شأنه يقول في حق الأمةالمحمدية :{ و كذلك جعلناكم أمة وسطا } و من ثم لا يختلف التعامل في التناول مع الضحك عن غيره من الدوافع و الرغبات، في إطار التربية و التهذيب ، و الارتقاء بها إلى ما يحافظ على إنسانية الإنسان و يرفع من قدره .
يقول النبي :"لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب " أخرجه ابن ماجه في الزهد .
ويقول في حديث حنظلة:"ساعة و ساعة "أخرجه مسلم في التوبة .
و حيث إن القدوة الحسنة من أنجع وسائل التربية ، فقد كان الصادق الأمين يمزح و لا يقول إلا حقا ، كما أنه لا يضحك إلا تبسما ، أي جل ضحكه كذلك ، و إلا فقد ضحك ـ أحيانا ـ حتى بدت نواجده ، كما في حديث أبي ذر
و فرق بعض العلماء بين الحالين فقالوا : إنه كان يضحك في أمور الآخرة ، و يبتسم في أمور الدنيا.
و في موضوع القدوة و ما ينبغي أن يتحلى به المقتدى به من سلوك منضبط قال الإمام الأوزاعي :" كنا نمزح ونضحك ، فلما صرنا يقتدى بنا ، خشيت ألا يسعنا التبسم "
إنه الخوف و الاحتياط ، من أن تقع أعين العامة ، أو تلتقط أسماعهم شيئا من مزاح الإمام فيقتدوا به في ذلك .
فالنهي الوارد في الحديث النبوي الشريف ، ليس عن الضحك فيحد ذاته ، و إنما عن كثرته و الاستغراق فيه ، لأنه هو الذي يؤدي إلى موت القلب ، و ذهاب الهيبة ، أما ما تنبسط به النفس من الملح ، فهو ـ كما قال أبو علي اليوسي ـ للعقل فاكهة ، كما أن الحكمة السابقة ، هي غذاؤه و قوامه ، فلابد لكل منهمافي استصلاح العقول و إزالة حساوتها ، أي صلابتها و قساوتها ، و تنمية ذكائها ، غير أن الملح تكون بقدر الحاجة ، كالملح للطعام ، و إلى ذلك أشار القائل:
أفد طبعك المكدود بالجد راحـــة . . . قليلا و علله بشيء من المـزح
و لكن إ ذا أعطيته المزح فليكن . . . بمقدار ما تعطي للطعام من الملح
ضوابط الضحك و المزاح :
لا شك ـ أصلا ـفي مشروعية الضحك و المرح و المزاح، غير أنها مقيدة بقيود وشروط لابد من مراعاتهاو هذه أهمها:
أولا :الصدق : و يعني عدم الكذب و الاختلاق لإضحاك الناس ، كما يفعل بعضهم ـ مثلا ـتقليدا في أول شهر أبريل من كل سنة فيما بسمونه "كذبة أبريل"
و النبي يقول :" ويل للذي يحدث الحديث ليضحك به القوم ، و يل له ويل له " أخرجه أبو داود فيكتابالآداب و الترمذ ي في الزهد كما رواه الإمام أحمد في المسند
و قد كان يمزح و لا يقول إلا حقا .
عن أبي هريرة قال : قالوا : يا رسول الله إنك تداعبنا ، فقال : " نعم غير أني لا أقول إلا حقا "
و أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود عن النبي :"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، و البر يهدي إلى الجنة ،و لا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، و الفجور يهدي إلى النار ، و لا يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتبعند الله كذابا "
ثانيا : ألا يشتمل المزاح على تحقير الناس أو الاستهزاء بهم و السخرية منهم ، إلا إذا أذن ذلك الإنسان بذلكو رضي به
يقول الله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [الحجرات:11}
وقال النبي :"بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه " رواه مسلم
و ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها أمام النبي إحدى ضرائرها فوصفتها بالقصر تعيبها به فقال :" يا عائشة لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " قالت : وحكيت له إنسانا ـ أي قلدته في حركته أو صوته ـ فقال :" ما أحب أني حكيت إنسانا و أن لي كذا و كذا " رواه أبو داود و الترمذي وقال : حسن صحيح
ثالثا : ألا يترتب عليه إفزاع و ترويع :
روى أبو داود في سننه و أحمد في مسندهعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي فقام فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ، ففزع ، فقالرسول الله :" لا يحل لرجل أن يروع مسلما"
و عن النعمان بن بشير قال : كنا مع رسول اللله في مسير فخفق
رجل على راحلته ـ أي نعس ـ فأخذ رجل سهما من كنانته فانتبه الرجل ففزع ، فقال رسول الله :"لا يحل لرجل أن يروع مسلما " رواه الطبراني في الكبير و رواته ثقات
و في حديث آخر:"لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا و لا جادا ومن أخذ عصا أخيه فليردها " رواه أبو داود والترمذي و حسنه و أحمد في المسند
و أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال:" من أشار على أخيسه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه ، و إن كان أخاه لأبيه و أمه "
ويلحق بذلك عدم الهزل في موضع الجد و الضحك في موقف الحزن فلكل شيء أوانه و لكل مقام مقال ...
السخرية و التهكم:
لا يتورع بعض عن الخوض في أعراض الناس باسم المزاحو هو شئ غير مقبول لأن الفكاهة إذا خرجت عن إطارها المرسوم لها ، انقلبت إلى ضدها و لهذا جاء النهي عن السخرية و الاستهزاء ، و اللمز و التنابز بالألقاب صريحا في القرآن العظيم .
قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوقبعد الإيمان ومن لم يتب فألئك هم الظالمون }[ الحجرات :11]
ونهى النبي عن سخرية المسلمين بعضهم ببعض فقال :" المسلم أخو المسلملا يظلمه و لا يخذله و لا يحقره ، التقوى ها هنا ـ و يشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام : دمه و ماله و عرضه "
اعتبر أبو حامد الغزالي السخرية و الاستهزاء ، الآفة الحادية عشرة من آفات اللسان فقال :" و معنى السخرية : الاستهانة و التحقير و التنبيه على العيوب و النقائص ، على وجه يضحك منه ، و قد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول ، و قد يكون بالإشارة و الإيماء ، و إذا كان بحضرة المستهزأ به ، لم يسم ذلك غيبة ، و فيه معنى الغيبة " ويأتي في السياق نفسه قولهاللطيف اللاذع :" وهذا إنما يحرم في حقمن يتأذى بهفأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح
" قالت السيدة عائشة رضي الله عنها ـ كما تقدم ـ " حاكيت إنسانا فقال لي النبي :" والله ما أحب أني حاكيت إنسانا ، و لي كذا و كذا "
و كان الحكم بن أبي العاص الأموي أبو مروان بن الحكم و هو من مسلمة الفتح يحكي النبي و يمثله في مشيته و حركاته ، فالتفت النبي يوما فرآه فلعنه و نفاه إلى الطائف
ترجمه الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب ، و نقل أنهم ذكروا أن رسول الله كان إذا مشى يتكفأ ، و كان الحكم بن أبي العاص يحكيه ، فالتفت النبي يوما فرآه يفعل ذلك فقال : " فكذلك فلتكن " فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ ، فعيره عبد الرحمان بن حسان بن ثابت فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه :
إن اللعين أبوك فارم عظامــــه . . . إن ترم ترممخلجا مجنونـا
يمسي خميص البطن من عمل التقى . . . و يظل من عمل الخبيث بطينا
لم يترك القرآن العظيم المستهزئين دون رد بل كان الرد في كل مرة أقوى و أشد كماقال الله تعالى :{ وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون الله يستهزيء بهم و يمدهم في طغيانهم يعمهون}
من أمثلة ذلك قوله جل ذكره:{ذق إنك أنت العزيز الكريم }[ الدخان : 49 ] أي قولوا له تهكما و تقريعا و توبيخا : ذق العذاب أيها المعزز المتكرم في زعمك في الدنيا ، و المراد المهان : إنك أنت الذليل .
و"الذوق" مستعار للإحساس ، و صيغة الأمر مستعملة في الإهانة ، و قوله :إنك أنت العزيز الكريم ،خبرمستعمل في التهكمبعلاقة الضدية ، و المقصود عكس مدلوله ، أي أنت الذليل المهان ، و التأكيد للمعنى التهكمي .
و هذا الكلام على سبيل التهكم و هو أغلب للمستهزأبه ، و معنى الآية :إنك بالضد .
روي عن عكرمة أن النبي لقي أبا جهل فقال :إن الله أمرني أن أقول لك "{أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى } فنزع يده من يده و قال : ما تستطيع لي أنت و لا صاحبك من شيء ، لقد علمت أني أمنع البطحاء ، و أنا العزيز الكريم ، فقتله الله يوم بدر ، و أذله و عيره بكلمتهو نزل فيه {ذق إنك أنت العزيز الكريم}
و روي أن خزنة جهنم تقول هذا الكلام للكفار إشفاقا بهم و توبيخا
مكانة الفكاهي في المجتمع :
قد يتساءل بعض الناس : هل يمكن اعتبار الإنسان الفكاهي الذي يشيع البهجة و السرور بين الناس مأجورا ، بحكم ما يقدمه لهم من خدمة نفسيةهم في أمس الحاجة إليها ؟
و الواقع أن الفكاهي الذي يمسح عن إخوانه و جلسائه وكل من يلقاه السآمة و الكدر ، مأجور إذا حسنت نيته ، و سلمت طويته ، و التزم بالضوابط الشرعية للمزاح و آدابه ، و لم تكن غايته الإساءة إلى غيره ، والنيل من خضومه .
ويستدل لهذا ببما كان لرسول الله في هذا السياق من تقدير و إشادة ببعضالصحابةالذين كانوا يؤنسونه و في طليعتهم الصحابي نعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري الذي كان كما قال الحافظابن عبد البر في الاستيعاب : " رجلا مضاحكا مزاحا " و قال عنه مرة أخرى :"و كان رجلا صالحا على ما كان فيه من دعابة "
وذكر النووي في تهذيب الأسماء و اللغات أن نعيمان كان كثير المزاح يضحك النبي من مزاحه ، و له أشياء كثيرة في هذا المجال ، حتى قيل إنالرسول قال عنه إنه :"يدخل الجنة و هو يضحك "
و من ثم فهويستحق كما قال الدكتور أحمد الشرباصي رحمه الله أن يسمى "مضحك رسول الله
روى البخاري في الصحيح أن رجلا كان يقال له عبد الله ـ و لقب حمارا ـكان يضحك رسول الله و كان يؤتى في الشراب ، فجيء به يوما فقال رجل : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي : "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله "
و هناك من قال إن المعني ـ هنا ـ هو نعيمان المذكور سابقا
و اشتهر الصحابي الجليل زيد بن ثابت بحسن الجمع بين العلم والفكاهة و الجد و الدعابة حتى قال عنه ثابت بن عبيد : ما رأيت رجلا أفكه في بيته ، و لا أوقر في مجلسه من زيد بن ثابت
و من الصحابة الذين يصدق عليهم ـ بامتياز ـو صف" فكاهي "سويبط بن حرملة كان من مهاجرة الحبشة وممن شهد بدرا قال عنه الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب :كان مزاحا يفرط في الدعابة ، و له قصة ظريفة مع نعيمان و أبي بكر الصديق ـ ـ نذكرها لما فيها من الظرف و حسن الخلق .
روي عن السيدة أم سلمة رضي الله عنها قالت : خرج أبو بكر الصديق في تجارة إلى بصرى ، قبل موت النبي بعام و معه نعيمان و سويبط بن حرملة ، و كانا قد شهدا بدرا و كان نعيمان على الزاد ، فقال له سويبط و كان رجلا مزاحا : أطعمني فقال ـ نعيمان ـ :لا حتى يجئ أبو بكر فقال : أما و الله لأغيظنك ، فمروا بقوم فقال لهم سويبط :تشترون مني عبدا ؟ فقالوا : نعم ، قال : إنه عبد له كلام ، و هو قائل لكم :إني حر ، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه ، فلا تفسدوا علي عبدي ، قالوا : بل نشتريه منك ، قال : فاشتروه منه بعشر قلانص ، قال : فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلا ، فقال نعيمان : إن هذا يستهزئ بكم ، و إني حر لست عبدا ، قالوا : قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به ، فجاء أبو بكر فأخبره سويبط فأتبعهم فرد عليه القلانص و أخذه ، فلما قدموا على النبي أخبروه قال : فضحك النبي و أصحابه منها حولا
أخرجه ابن أبي شيبة و ابن ماجه كما أخرجه أبو داود الطيالسي والروياني و جعلا المازح هو النعيمان و المبتاع سويبطا كما في ترجمته عند ابن حجر في الإصابة .