ربطا للحاضر بالماضي في مسار العلاقة بهذا الموضوع، تجدر الإشارة إلى أنها مرت بثلاث مراحل متباينة في الظاهر ، متراوحة في الواقع بين القبول والرفض النسبيين، بين الموافقة والمعارضة الموقوفة التنفيذ ، في بعض النقط و فيما يلي أهم ما تميزت به كل مرحلة على حدة :
المرحلة الأولى : لا أخفي أنها كانت عفوية، اتسمت بشيء من اندفاع الشباب، مع الانسياق الطبيعي خلف العواطف والمشاعر الدينية والوطنية، ومما يؤرخ لهذه المرحلة مقال نُشِر أوائل الثمانينيات بصحيفة لميثاق لسان رابطة علماء المغرب في ذلك العهد بعنوان : لولا فاس لما ذكر المغرب، لولا عياض لما ذكر المغرب تعقيبا على نداء لأحد علماء فاس كان قد وجهه إلى السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في ذلك العهد، حول إنقاذ جامعة القرويين العتيقة، التي أغفلها مشروع إنقاذ مدينة فاس المقترح
و قد وقعت مساندة النداء المذكور في عمومه، ثم تلته المخالفة في جزئية من جزئياته ، جاءت في غمرة غيرة العالم المذكور على مدينته، وعلى جامعتها العتيدة يلخصها قوله : لولا القرويين لما ذكرت فاس، ولولا فاس لما ذكر المغرب فكان مما جاء في التعقيب عليه إن هذا الكلام مبالغ فيه، يرفضه المنطق السليم، ويأباه العدل والإنصاف، في الحكم على البلدان والرجال، ولا نختلف أن القرويين من أعرق جامعات الدنيا، كما لا نشك في أن مدينة فاس من أعظم مدن المغرب وأعرقها ...
على أنه لو جاز قبول هذا الأسلوب، لكان الأقرب إلى الصواب أن يقال: لولا فاس لما ذكرت القرويين، ولولا المغرب لما ذكرت فاس، بل الأفضل من ذلك كله حذف لولا هذه، والاعتراف بأن هذا الكلام غير مقبول أصلا، مع ما يمكن أن ينتج عنه من فتح باب واسع للمزايدة والادعاء ، سيدفع الكثيرين إلى رفع شعارات مشابهة : لولا مدينة كذا لما ذكر المغرب، ولولا فلان لما ذكر المغرب.
لو جاز ذلك، لكان قول مثله في حق مدينة مراكش – على سبيل المثال - أقوى سندا، فهي التي عرف بها المغرب كما هو معلوم ، منذ تأسيسها إلى أوائل الاستقلال، بل إلى اليوم، يشهد لذلك أن اسمها الأجنبي في مختلف اللغات العالمية آت من اسم مراكش، وفي هذا السياق يقول صاحب الرحلة المراكشية : إن القطر المغربي بجميع حواضره وبواديه ينتسب إليها ويطلق عليه في الخارج اسم مراكش من باب تسمية الشيء بأكبر و أشهر أجزائه
ومع ذلك يظل مثل هذا الكلام غيرَ صحيح، لأن كل المدن المغربية ساهمت في إعلاء مكانة المغرب، و في نسج الحضارة و الثقافة، في هذا البلد العظيم .
و هذا يجرنا إلى الحديث عن قولة أخرى شائعة، بين الناس وما تزال إلى اليوم تجد صداها بين العلماء والمثقفين ، تلك القولة هي : لولا عياض لما ذكر المغرب وهي أكبر من سابقاتها، و أكثر مبالغة و حساسية بالتشديد كما ينبه على ذلك دائما الزميل العلامة الأستاذ محمد البايك ...
إن عياضا عالم كبير من علماء الإسلام شرقا و غربا، لا خلاف في ذلك ، لكن لا يعني أن المغرب خلا من العلماء قبل عياض وبعده، فأسماؤهم كثيرة وجهيرة، وقيل عن بعضهم كلام يشبه ما قيل عن عياض نذكر منه في هذه العجالة :
قال سحنون بن سعيد لما بلغه نعي عبد الملك بن حبيب : مات عالم الأندلس بل والله عالم الدنيا الترتيب:4/125
و قال القاضي أبوبكر ابن العربي في العواصم و القواصم : لولا أن طائفة نفرت إلى دار العلم وجاءت بلباب منه كالأصيلي و الباجي ، فرشَّت من ماء العلم على القلوب الميتة ، وعطرت أنفاس الأمة الزفرة، لكان الدين قد ذهب ...
وكان ابن رشيد رحمه الله يقول : ليس بالمغرب عالم إلا ابنَ البناء بمراكش وابنَ الشاط بسبتة، و القاضي أبا عبد الله محمد بن محمد اللخمي القرطبي...
ونقل المقري عمن نعته بأحد المتأخرين قوله : وانتهت صناعة التأليف في علماء المغرب ، على صناعة أهل المشرق لشيخ شيوخ العلماء في وقته ، ابن البناء الأزدي المراكشي ، في جميع تصانيفه...
بل إن المغرب عرف قبل عياض وبعده رجالا أفذاذا في عالم السياسة والحكم طار صيتهم في مشارق الأرض ومغاربها
قال المعتمد بن عباد مخاطبا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين :
وَيَومَ العروبةِ ذُدتَ العدا . . . نصَرتَ الهُدى، وَأَبَيتَ الفِرارا
ثَبَتَّ هُناك، وَإنّ القُلو . . . بَ بَينَ الضُّلوع لَتأبى الفِرارا
وَلَولاكَ يا يُوسُفُ المُتَّقى . . . رَأَينا الجَزيرَة لِلكُفرِ دارا
والخلاصة هي أن أعلام المغرب كثيرون وهم جميعا ساهموا في إعلاء اسم المغرب و نسجوا تاريخه وحضارته قبل عياض ومعه وبعده، وليس من العدل، أن نظلم كل رجال المغرب لحساب أبي الفضل عياض، كما أنه ليس من العدل أن نظلم كل مدن المغرب لحساب مدينة فاس
و باختصار كان هذا هو الموقف الأول القديم، إزاء قولة : لولا عياض لما ذكر المغرب
ثم جاءت لمرحلة الثانية : فكانت مرحلة إعادة النظر في الموضوع ، من خلال تتبع تاريخ تداول هذه الجملة عبر العصور، وأسباب نزولها ، و مما يؤرخ لهذه المرحلة – في مسار العلاقة بالموضوع - تلك المحاضرة التي شرف صاحب هذا العرض بإلقائها بين يدي العلماء في الدورة العادية الرابعة عشر للمجلس العلمي الأعلى لعام 1434 هـ = 2012م بمدينة مراكش بعنوان: السياسة الدينية في فكر القاضي عياض
و مما جاء فيها – مما له صلة بالموضوع - أن أبا الفضل ، خيرُ من يمثل العالِم المغربي النموذج ... و هو كذلك أبرز - و ربما أول - عالم مغربي تلتقي فيه الثوابت الدينية، ومن ثم نال ما نال من تقدير و إجلال ، لخصته تلكم القولة الشهيرة : لولا عياض لما ذكر المغرب
وهي عبارة أحياها العلامة المحقق محمد بن تاويت الطنجي رحمه الله {ت 1918- 1974 = ت 1395هـ} حين جعلها عنوانا لترجمته القاضي عياض في أول مقدمة تحقيق الجزء الأول من ترتيب المدارك مشيرا في الهامش إلى أنها كلمة شاعت على ألسنة الجماهير في المغرب من غير أن تنسب لقائل معين فهي بمثابة مثل سائر ...
وذهب داخل المتن إلى القول بأن هذه هي الكلمة التي اختارتها الأمة المغربية للتعبير عن مكانة عياض في تاريخها، و هي خلاصة لما تركته حياته الحميدة الحافلة وعلمه الواسع وسلوكه الحميد من آثار جميلة بعيدة الغور في قلوب مواطنيه . وذكره المؤرخون ، والمشارقة من أهل العلم والمغاربة وعياض في الشرق و في الغرب و في كل بلد من بلاد الإسلام حق أن يَخلُد ذكره، و أن يُنشَر فضله ، وحري أن تتساند محافل العلم في كل بقاع الأرض المسلمة على إجلاله وتقديره
و الظاهر من خلال ما تيسر الاطلاع عليه من كتابات المعاصرين عن القاضي عياض أن العلامة الطنجي هو أبرز من أعاد هذه القولة إلى الواجهة ، وسار على هذا المنوال بعض العلماء والباحثين مع بعض الاختلاف في التصور أكتفي من ذلك بمثال واحد من بحث قدم لندوة الإمام مالك- دورة القاضي عياض بمدينة مراكش سنة 1981 م بعنوان القاضي عياض – لولا عياض ما ذكر المغرب لأستاذنا العلامة أحمد الكنسوسي رحمه الله { ت 1423هـ = 2002م} مما جاء فيه: إن هذه الكلمة أفضل تحلية يتحلى بها هذا الشخص الفذ العالي الهمة، وعندما يتساءل الكاتب عن مصدرها وسبب شيوعها في الأوساط المغربية، ولم يوفق أي واحد في الوقوف على ذلك ، لكن لا بد أن يكون لها مصدر ويكون المصدر شخصية بارزة من فحول رجال المذهب الذين درسوا عياضا ورأوا آثاره في مؤلفات العلماء في سائر الفنون النقلية والعقلية وربما يكون لهذا مأخذ مما ذكره العلامة الحجوي في الفكر السامي (ج4 ص51) إذ قال : ومن الناس من يعتبره رأس علماء المغرب في الإسلام صدق علمه شهرته داخل المغرب وخارجه ، و تفطن لهذا الدكتور محمد حجي في حركته الفكرية عند ذكر المدرسة المغربية الأندلسية قال : سلكت هذه المدرسة سبيلا وسطا بين أسلوبي العراق و القيروان فعنيت بالموضوع أصوله وفروعه عنايتها بالألفاظ و الروايات و وجوه الاحتمال فيها و كان رائد هذه المدرسة عياض بن موسى السبتي دفين مراكش وقاضيها .
حاولت بعد ذلك تتبع مواطن ورود هذه القولة – تاريخيا - قبل العصر الحاضر ، فيما هو متاح من مصادر و مراجع، فوجدت فيما وجدت من كلام السابقين قول محمد الصغير الإفراني : (المتوفى في نحو 1156هـ): شاع الآن على الألسنة ( وأضع تحتها سطرا )- أن يقولوا : لولا عياض ما ذكر المغرب ولم أقف عليها لأحد من الأقدمين، ولا يبعد ذلك من حاله رحمه الله، فقد كان مفخرة من مفاخر المغرب، و آية من جلالة أهله تُعرِب ، وفي هذه الفترة كما لا يخفى تم ترسيم زيارة رجال مراكش السبعة بأمر من السلطان المولى إسماعيل رحمه الله ...
ثم لم ألبت أن وجدت هذه القولة قد وردت قبل الإفراني بنحو قرن ونصف في كتاب شمس المعرفة للحلفاوي ( المتوفى على رأس المائة العاشرة للهجرة) حين قال : قال العلماء من أهل الرسوم : لولا عياض ما ذكر المغرب ، و قال أهل الفهوم : لولا الشفا ما ذكر عياض بين الرسوم ، لأن غيره قد ألف أكثر من تواليفه، وهو مع ذلك غير معلوم
و اللافت للانتباه أن هذه القولة لم ترد في موسوعة أزهار الرياض مع أن صاحبها المقري عاش في هذه الفترة وبعدها بقليل {ت 1041ه) وقد يكون سبب ذلك أنها لم لم تكن قد انتشرت قبل زمن اليفرني
المرحلة الثالثة والأخيرة و هي هته التي يمكن نعتها بـبدء على عود حيث العودة من جديد إلى هذا الموضوع من خلال :
أولا – مراجعة ذلك الموقف القديم ،على ضوء ما تجمع من معلومات لم تكن متوفرة من قبل، وما جد من قناعات تبعا لذلك ...
لقد بحثت طويلا فيما كُتِب عن القاضي عياض من قٍبَل عدد من علمائنا السابقين عن موقف صريح أستند إليه في موقفي القديم الرافض لتلك القولة، فلم أجد شيئا يذكر ، غير أني وجدت عدم تداولها كثيرا بينهم، ونظرت فيما كتبه المعاصرون فلم أقف إلا على إشارات قليلة أذكر منها في هذه العجالة تحديد الدكتور أحمد رمزي رحمه الله مجال هذه القولة عندما قال كلمته التي افتتح بها دورة القاضي عياض بمراكش بصفته وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية في ذلك العهد : (و إذا كان المغرب لا يُذكر عند الكثيرين من أهل العلم إلا به فقد ذهب بعضهم إلى القول عن المغرب الثقافي ( وأضع تحتها خطا ) لولا عياض ما ذكر المغرب بل وصفه بعض الراسخين في العلم لما تميز به من شمائل نادرة في عصره بأنه آخر المتقدمين و كفى سبتة فخرا ومغربة إنجابها هذا العالم الشامخ )
ومع ذلك عدت إلى نفسي أراجعها وأنا أردد : لعل هناك أمورا أدركها غيري، وغابت عني {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } دون أن يعني ذلك أن هناك تناقضا بين الموقفين القديم والجديد، بقدر ما يعني ما يلزم من تحر وانفتاح على مختلف المواقف والرؤى والفهوم ، من أجل الوصول إلى تفسير معقول ، من خلال التأويلات أو الدلالات، مع تسجيل ملحوظة قد تعضد موقفي و هي تحاشي كثير من العلماء والدارسين و الباحثين ذكر هذه القولة في كتاباتهم
ثانيا - استكمال التتبع التاريخي للمقولة ولأصولها، ومحاولة استنباط بعض دلالاتها
و الظاهر أن هذه القولة لم تكن معروفة زمن عياض، ولا بعده قبل سقوط دولة الموحدين على أقل تقدير ، وفق ما تجود به المصادر التي بين أيدينا ، ولعل محمد بنَ عياض كان قد أحس بنوع من الخوف على أخبار والده أن تضيع في خضم تلك الظروف السياسية الانتقالية المضطربة، التي ذهب عياض ضحيتها، و أن تدفن معه أسراره، فبادر إلى تأليف كتاب عنه اختار له اسم التعريف و هو عنوان له دلالته المؤيدة للموقف القديم من قولة ; لولا عياض لما ذكر المغرب
و ذكر في خطبة كتابه عن والده دواعي هذا التأليف فقال : .. إن سيدي الفقيه الأجل الحافظ الأكمل الأستاذ المقريء الأحفل دام توفيقه، سألني أن أعرفه ببعض أخبار أبي – رحمة الله عليه – ولم يفهمني غرضه من ذلك فأقصد إليه ، فبادرت إجلالا لقدره والتزاما لبره إلى جمع فضائل اقتضبتها ، وفصول انتخبتها و أحاديث انتقيتها وأسندتها ، وملح اجتلبتها وأوردتها جهدي .
يقول أستاذنا الراحل الدكتور محمد بنشريفة : ونحن لا نستطيع أن نعرف من هو هذا السيد الذي حلاه ولد عياض بما ذكر من حلى دون أن يسميه ، و لكننا نستفيد من النص ظهور الحاجة إلى معرفة أخبار عياض بعد وفاته ...
و هذا الكتاب نقل عنه - كما هو معلوم - كثير ممن عرَّف بالقاضي، و في مقدمتهم المقري الذي اعتمده أساسا لكتابه أزهار الرياض هذا الكتاب الأخير الذي وهم محققوه عندما قالوا إن الباعث للمقري على تأليفه رغبة أهالي بلده تلمسان في التعريف بالقاضي عياض عالم المغرب الأوسط و قاضيه الأشهر وهو خطأ فادح لم يتردد الدكتور بنشريفة رحمه الله في وصفه بما وصفه حين قال : لست أدري كيف وقع هؤلاء المحققون في هذا الجهل، مع أن سيرة عياض في الأزهار واضحة ولهذا الخطأ - للأسف الشديد - نظائر في كتابات بعض المعاصرين تمكن الإشارات إليها في مناسبات قابلة .
وتأسيسا لقولة لولا عياض ما ذكر المغرب انطلقنا في التتبع من نصوص وردت في كتاب التعريف بالقاضي عياض لولده محمد ، وهي عبارات صدرت عن أندلسيين من شيوخ القاضي عياض ومعارفه، وشهادات لعلها كانت ممهدة للقولة المذكورة فيما بعد
من ذلك قول أبي عبد الله بن حمدين لعياض وقت رحلته: وحقي يا أبا الفضل إن كنت تركت بالمغرب مثلك وابن حمدين هذا هو قاضي الجماعة بقرطبة، وقد وهم من عده من قضاة مراكش وكأني بأستاذنا الراحل الدكتور محمد بنشريفة رحمه الله قد استفزه هذا القول إلى حد ما، فقال معلقا عليه : لا يمنعنا حسن الظن بهذه الكلمة وصدقها في حق عياض، أن نشير إلى ما قد تتضمنه من نزوع الأندلسي، إلى استكثار الفضل و العلم على أهل العُدوة و قد كان الأندلسيون يؤخرون في كتب التراجم والطبقات الطارئين على بلادهم تحت عنوان الغرباء كالإمام الأصيلي – على سبيل المثال - عند ابن الفرضي في تاريخه، و القاضي عياض عند ابن بشكوال في صلته
و مثل قول ابن حمدين المذكور سابقا، قول أبي محمد بن أبي جعفر : ما وصل إلينا من المغرب أنبل من عياض مع أنه وصلهم قبله أمثال دراس بن إسماعيل و الأصيلي وأبي عمران الفاسي
ويأتي بعد ولد عياض أبو عبد الله ابن الأبار {ت658هـ} فيقول في المعجم في أصحاب القاضي الصدفي: إذا عدت رجالات المغرب فضلا عن الأندلس حُسِب فيهم صدرا
هكذا بدأ التنويه والإشادة بأبي الفضل، كما بدأ إلى جانب ذلك وبموازاة معه استعمال لولا عياض في مجال ضيق في حدود مدينة سبتة كما في قول أبي الحسن علي بن عبد الله بن هارون المالقي :
لولاه ما فاحَت أَباطحُ سبتةٍ . . . وَالرّوضُ حَول فِنائِها معدومُ
وهذا يطرح سؤالا موضوعيا وهو من أطلق قولة لولا عياض لما ذكر المغرب هل هم المغاربة ( المغرب الأقصى ) أم الأندلسيون أم المشارقة ؟
لقد كانوا إذا لم يرحل الرجل - إلى المشرق - نسبوه إلى التقصير وقلة العلم، و لو كان من الأئمة الأعلام، حتى قال أبو محمد بن حزم :
أنا الشّمس فِي جوّ العلوم منيـرة *** ولكنّ عيبـي أنّ مطلـعِيَ الغرب
ولو أنّنِي من جانب الشّرق طالع *** لَجَدَّ على ما ضاع من ذِكْرِيَ النّهب
كما كانوا يشيعون أن المغرب في المجال الثقافي ما هو إلا صدى للمشرق ، و كان ذلك مما دعا ابن حزم إلى كتابة رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها
وبقي هذا الاعتقاد ساريا إلى عهود قريبة ، من ذلك رأي الدكتور- أحمد- ضيف أن التوابع و الزوابع محاكاة لرسالة الغفران وأن ابن شهيد كان يقلد أبا العلاء المعري وكان أهل الأندلس يقلدون أهل المشرق في كل شيء ، وهو ما فنده الدكتور زكي مبارك فكتاب النثر الفني حين حقق أن رسالة الغفران كتبت بعد رسالة التوابع و الزوابع بنحو عشرين سنة و أنه كما كان الأندلسيون يقلدون أهل المشرق في كل شيء، كان أهل المشرق يحرصون أشد الحرص على متابعة الحركة الأدبية في الأندلس ...
وعلى هذا وغيره كان مثل قولة لولا عياض لما ذكر المغرب ردا على مثل تلك الادعاءات، وردا كذلك على بعض اللمزات والغمزات و الافتراءات على علماء المغرب عامة و على القاضي عياض خاصة ،
و إذا كان لولا كما هو معلوم حرف شرط يدل على امتناع شيء لوجود غيره ... ويحتاج الى جواب فيقترن باللام أو يجرد منها .. فإن المخرج من الحرج هو قبول قول : لولا عياض لما ذكر المغرب أو لولا عياض ما ذكر المغرب على أساس أنه سبب وأن الله تعالى هو المتفضل عليه بالشهرة و الذيوع
وقد حظي عياض بما حظي به من مكانة عالية لما اجتمع فيه مما تفرق في غيره فكان :
أبرزَ شهداء الوفاء للمبدأ و الشرعية من علماء المغرب...
أول عالم مغربي تتجسد فيه الثوابت المغربية بشكل واضح جلي
أولَ من عرَّف بأعلام المغرب الذين سبقوه أو عاصروه بشكل مفصل خاصة في الغنية و ترتيب المدارك
أولَ من شغلت مؤلفاته المغرب والمشرق و كانت لبعضها ردود فعل مختلفة –
نذكر من ذلك في هذا السياق أشهر مثالين في هذا الباب :
المثال الأول : مشارق الأنوار على صحاح الآثار
قال ابن الأبار: ... وله تواليف مفيدة كتبها الناس وانتفعوا بها وكثر استعمال كل طائفة لها وفي مشارق الأنوار منها، كان أبو عمرو المعروف بابن الصلاح ينشد ، أخبرني بذلك من أصحابنا من سمعه :
مشارقُ أنوار تسنَّت بسبتةِ . . . وذا عجبٌ كونُ المشارق بالغربِ
وقد أجيب بقول الشاعر :
و ما شرَّفَ الأوطانَ إلا رجالُها . . . وإلا فلا فضلٌ لتربِ على تربِ
المثال الثاني: الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم
قال المقري في أزهار الرياض: فائدة في تعليق البسيلي على التفسير مما التقطه من كلام شيخه ابن عرفة أن تقي الدين بن تيمية قال : لما رأى شفاء القاضي أبي الفضل عياض : غلا هذا المغيربي قال و إلى الرد عليه أشار شيخنا ابن عرقة رحمه الله تعالى بقوله :
شفاء عياض في كمال نبينا ... كواصف ضوء الشمس ناظر قرصها
فلا غرو في تبليغه كنه وصفه ... وفي عجزه عن وصفه كنه شخصها
وإن شئت تشبيهاً بذكر امارة ... بأصل ببرهان مبين لنقصها
وهذا لقول قيل عن زائغ غلا ... عياض فتبت ذاته عن محيصها
و قال الشيخ عبد الحي الكتاني في فهرس الفهارس : ومن أشنع مانقل عن ابن تيمية .. قوله في حق شفاء القاضي عياض : غلا هذا المغيربي
لعل أصل هذا الكلام يوجد في فتاوى ابن تيمية فقد سئل عن رجل قال: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر دون الصغائر فكفره رجل بهذه فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب؟ وهل قال أحد منهم بعصمة الأنبياء مطلقا ؟وما الصواب في ذلك .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . ليس هو كافرا باتفاق أهل الدين ولا هذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بلا نزاع كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله مع مبالغتهم في القول بالعصمة وفي عقوبة الساب .
قال تاج الدين السبكي في منظومته في المسائل التي وقع فيها اختلاف بين الأشعري والماتريدي :
قالوا وتمتنع الصغائر من نبي . . . ء للإله وعندنا قولان
و المنع مروي عن الأستاذ مع ... قاضي عياض وهو ذو رجحان
وبه أقول وكان رأي أبي كذا . . . صونا لرتبتهم من النقصان
وفي كتاب قاعدة جليلة في التوسل و الوسيلة لابن تيمية ضمن فتاويه نقول عن القاضي عياض ليس فيها ما يطعن في عياض أو ينتقص من قدره وقد أشار المقري نفسه إلى أن بعضهم كتب على طرة البسيلي ما نصه - ثم ساقه و مما جاء فيه أنه قد أثنى على عياض فلا يصح عنه ذمه
و هذه النقطة الأخيرة تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء للخروج بالقول الفصل فيها
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين